سكّان دير الزور يختبرون الحصار ومرارة الترحّال


يمنع الطرفان (النظام وداعش) خروج المدنيين "من وإلى" مناطق سيطرتهم، وإلى خارج دير الزور أيضًا، فالنظام يشترط الحصول على موافقات أمنيّة من أجهزة المخابرات على الراغبين في المغادرة جوّاً عبر الطيران العسكري وهي الوسيلة الوحيدة المتبقية في تنقّل المدنيين؛ أما تنظيم "الدولة" يستجوب ويمارس مضايقات بحق الراغبين في ترك المدينة، ويلجأ الى مصادرة الوثائق ورهن الممتلكات لمنع المدنيين من السفر.

06 كانون الثاني 2017

كمال شيخو

صحفي سوري، عمل مراسلاً لعدة وكالات دولية وكتب في صحف عربية وغربية ومواقع سورية.

 

انقطاع للكهرباء والمياه وفقر في الخدمات، هكذا هي حال أهالي مدينة دير الزور المتواجدين في القسم الغربي الخاضع لسيطرة النظام الحاكم بسوريا.

على الطرف الآخر لم يكن الأمر أقل سوءاً، إذ يعاني سكان القسم الشرقي الواقع تحت سيطرة "تنظيم الدولة الإسلامية" من نقص في الأدوية وافتقار للمواد الغذائية الأساسية، خاصةً بعد خسارة التنظيم لجميع المعابر الحدودية والمنافذ التي تصله بتركيا صيف العام الفائت، بالإضافة إلى التضييق على حركة السكان.

وتقع مدينة دير الزور شرق سوريا على ضفتي نهر الفرات، وهي مدينة حدودية محاذية للعراق، تقدّر مساحتها بنحو 33 ألف كيلومتر مرّبع، تسيطر قوات الأسد على قسمها الغربي الذي يقدّر بنحو ثلث مساحة المدينة، ويشمل أحياء القصور والجورة وهرابش والبغيلية وأجزاء من حيّي الموظّفين والجبيلة، إضافةً الى مطارها المدني والسجن المركزي والمقرات الرسمية واللّواء 137 ومعسكر الطلائع؛ إلاّ أنّها محاصرة منذ قرابة عامين.

طقس شتوي قارس

مع قدوم فصل الشتاء القارس ونقص الغذاء وشح الدواء وقلّة الوقود؛ يجد المدنيون أنفسهم بالقسم الغربي من المدينة في اختبار صعب، في ظلّ استمرار الاشتباكات العسكرية والحصار الذي يفرضه عناصر "تنظيم الدولة".

"مريم" سيدة في بداية عقدها الرابع، طلبت عند حديثها مع موقع "حكاية ما انحكت" عدم ذكر اسمها الأول حرصاً على سلامتها. تعمل مريم كموظفة بإحدى الدوائر الحكومية، وهي أم لثلاثة أطفال وتعيش مع زوجها الموظف أيضًا في حي الجورة الخاضع لنفوذ النظام.

نقلت أنّ المدنيين تكيّفوا مع الواقع الجديد من خلال خفض عدد الوجبات اليومية، إضافةً إلى خفض كمية الطعام بالوجبة الواحدة إلى أقل من نصف الكمية المعتادة، والاعتماد على صنف واحد من الأكل حسب توافره في الأسواق من ناحية، وقدرة العائلة الشرائية من ناحيةٍ ثانية، إذ قالت: "صرنا نطبخ شوربة الخضار الورقية عوضاً عن العدس، ونأكل الفاصولياء والمعلبات بدل الرز والبرغل، وفي كثير من الأيام لا نتناول طعام الفطور إما لغياب الخبز، أو لعدم توّفر شيء نأكله".

سيدة مسنة تنحدر من مدينة دير الزور، تنتظر استلام حصتها من المساعدات الموزعة في منطقة رجم صليبي الحدودية بين سورية والعراق. تاريخ التصوير: 25/10/2016-حقوق النشر: تصوير كمال شيخو/ خاص حكاية ما انحكت

وأشارت مريم أنّ زوجها يضطر للوقوف في صفوف لساعات من أجل الحصول على حصة العائلة من الخبز، إذ يعيش أغلب سكان الأحياء المحاصرة بالقسم الغربي لدير الزور على الخبز والماء والحشائش.

وعن ارتفاع الأسعار، قالت مريم مازحة: "منذ حوالي ثلاثة أشهر، لم نأكل سلطة الفتّوش نظراً لغلاء البندورة ونقص الخبز، واللحمة لم تدخل بيتنا منذ فترة واشتقنالها"، وتعزو تدهور الأوضاع المعيشيّة الى تقلّبات أسعار صرف الدولار والتي تلهب سعر ما تبقى من المواد الغذائيّة والخضروات.

ولدى حديثه لموقع "حكاية ما انحكت"، كشف مدير "مرصد العدالة من أجل الحياة بدير الزور" جلال الحمد المقيم في تركيا اليوم، أنّهم وثّقوا وفاة ما لا يقل عن 35 مدنياً بالقسم الغربي للمدينة بسبب سوء التغذية.

وبحسب الحمد، بدأ التنظيم بحصار الأحياء الّتي تسيطر عليها قوّات الأسد منذ 5/1/2015، بعد أن أغلق جميع المعابر البرية والمائية المؤدية إليها، ومنع دخول المواد الغذائية والطبية وخروج المدنيين أو دخولهم.

ويبلغ عدد المدنيين المحاصرين وفق تقديرات مرصد العدالة حوالي 90 ألف مدني، نصفهم من النساء والأطفال. وقال الحمد في لقائنا معه: "منذ 10 نيسان/إبريل 2016 بدأ برنامج الأغذية العالمي WFP بإلقاء المساعدات الغذائية على الأحياء المحاصرة، كما قامت الأمم المتحدة بإلقاء شحنة دواء واحدة تبلغ 4.6 طن"، وأضاف: "على الرغم من ذلك هذه الكميات لا تكفي حاجات المدنيين المحاصرين".

قوانين صارمة في دولة "الإسلام"

يسيطر "تنظيم الدولة" على بقيّة أحياء المدينة الشرقية، وتضم أحياء الحميدية والشيخ ياسين والحويقة والعمال. ويبسط سيطرته شرقاً على كامل الريف حتى الحدود العراقيّة، وتضم بلدات موحسن والبوكمال والميادين، وتمتد غرباً إلى بلدة معدان التابعة لمحافظة الرقة.

يفرض عناصر التنظيم قيوداً على تنقّل المدنيين ضمن مناطق نفوذه، ويجبر النساء على اصطحاب محرم أثناء حركتهن، ويشترط تقديم تقارير طبية إلى اللجنة الأمنية في حال السفر خارج مناطقهم.

خديجة (24 عام/ اسم مستعار)، طالبة جامعية في سنتها الأخيرة تدرس في جامعة الفرات، وتسكن في شارع يخضع لسيطرة التنظيم الإسّلامي المتشدّد، تروي لحكاية ما انحكت، قصة حدثت معها صيف العام الماضي، قصة تعكس مرارة حياة سكان المنطقة، إذ تقول: "بداية شهر آب/أغسطس العام الماضي وكانت درجات الحرارة مرتفعة كثيراً، خرجت من مقهى الأنترنت، ونسيت أن أتأكد من نقابي وأغطي عيني، وإذا بدورية تتبع جهاز الحسبة.. توقفت السيارة وترجلت سيدّة وطلبت مني هاتفي المحمول وهويتي، وأمرتني بمراجعة مقر الحسبة في نفس اليوم"، لتقدم على مراجعة المقر، حيث تم إخبارها أنها ارتكبت مخالفة شرعية، فحكم عليها "بالخضوع لدروة شرعية مدة شهر"، عليها الالتحاق بها في اليوم التالي للحكم.

مقر سابق لتنظيم الدولة الإسلامية بمدينة منبج. تاريخ التصوير: 13/08/2016. تصوير كمال شيخو/خاص حكاية ما انحكت

في الدورة "جاءت سيدة وعرّفت عن نفسها أنها المشرفة على الدورة. وشدّدت أنّ كلّ الحاضرات ارتكبن مخالفات شرعية وأغضبن الله عز وجل لأنّ النساء حطب نار جهنم"، وتتابع خديجة قائلة: "كنّا حوالي عشرين امرأة وفتاة. منها من فتحت الباب بدون أن تضع اللباس الشرعي. ومنها من نسيت وضع البرقع على عينها مثلي. ومنها من كانت تتحدث عبر الأنترنت مع غير محرّم".

وعن الدروس والمنهاج المتبع في الدورة، أكدت خديجة أنّها كانت محصورة بأصول الفقه الإسّلامي والبيعة والهجرة، وعلّقت قائلة: "المشرفة كانت تقول لنا أنّنا نعيش في دولة الإسلام، أما باقي الناس يعيشون في دول الكفر"، ولفتت أنّ المشرفة كانت تطلب منهنّ التزام اللباس الشرعي على الرغم أنّ: "سعره مرتفع ويصل إلى 15 ألف ليرة سورية (ما يعادل 30 دولار أمريكي) وغالبية النسوة يعجزن عن شرائه، سيما وإذا كانت هناك أكثر من فتاة بالمنزل".

بيد أنّ الحال لم يكن عند خديجة لوحدها، حيث أنّ كل من يرتكب مخالفة أو يحتج على قوانين التنظيم ولم يبايعهم؛ يُجبر على الخضوع لدورات شرعية، سواء كانوا من الرجال أو النساء، وأخذ شهادة لحملها كوثيقة تثبت ذلك.

الأدوية مفقودة عند النظام والتنظيم

نقلت مريم أنّ المنطقة التي تعيش فيها والخاضعة لسيطرة النظام تعاني من نقص كبير في الأدوية، وذكرت أنّ "رفوف الصيدليات فاضية، حتى دوا السعال والسكر وحليب الأطفال شبه مفقود، وإنّ توفرت بتكون أسعارها مرتفعة جداً".

في حين شكت خديجة، والتي تسكن في شارع يخضع لسيطرة "تنظيم الدولة"، أنّ صيدلة واحدة فقط تعمل في منطقتها، وقالت: "منذ الصيف الماضي ومرضى القلب والعيون والرشح يعانون الأمرين لفقدان الأدوية، ومن النادر وجود طبيب مختص أو مستشفى مخدم".

بدوره، أخبر جلال الحمد أنّ الحالات المرضية كثر انتشارها في مدينة دير الزور بشقيها الغربي والشرقي، أبرزها "التهاب الكبد A وB والأمراض المزمنة ونقص التغذية والأمراض النسائية وخاصةً الحوامل"، وأوضح أنّ مناطق النظام "لا تعمل فيها بشكل فعلي سوى المشفى العسكري، والتي لا يستقبل غالباً سوى المصابين من قوات النظام والميليشيات التابعة له، بعدما أصيب مشفى الأسد الحكومي بأضرار كبيرة، وتتوّفر في مستوصف الهلال الأحمر خدمات طبية أفضل".

أما مناطق سيطرة التنظيم يؤكد الحمد: "أنّ غالبية الكادر الطبي غادرها، ولم يتبقى فيها إخصائيين، ومن النادر وجود طبيب أشعة أو مخبري في نقطة طبية أو مستوصف".

يمنع الطرفان (النظام وداعش) خروج المدنيين "من وإلى" مناطق سيطرتهم، وإلى خارج دير الزور أيضًا، فالنظام يشترط الحصول على موافقات أمنيّة من أجهزة المخابرات على الراغبين في المغادرة جوّاً عبر الطيران العسكري وهي الوسيلة الوحيدة المتبقية في تنقّل المدنيين؛ أما تنظيم "الدولة" يستجوب ويمارس مضايقات بحق الراغبين في ترك المدينة، ويلجأ الى مصادرة الوثائق ورهن الممتلكات لمنع المدنيين من السفر.

(الصورة الرئيسية: رجل من دير الزور يجلس في صحراء رج الصليبي الحدودية بين سورية والعراق، في انتظار الدخول الى مخيم الهول بالحسكة. تاريخ التصوير: 25/10/2016- تصوير كمال شيخو/ خاص حكاية ما انحكت)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد