(ريف إدلب) لم يكن من السهل على مصعب البكور ابن الاثني عشرة عاماً أن يتخذ قراره بترك الدراسة والانطلاق لسوق العمل بغية مساعدة والدته في تحمّل الأعباء الكبيرة التي وقعت على كاهلها بعد وفاة والده على إثر تعرّضه لشظية من إحدى صواريخ الطائرة الحربية التي قصفت مدينته في السابع والعشرين من إبريل 2015.
مصعب من مدينة معرة النعمان التابعة لريف إدلب الجنوبي، واحد من عدد كبير جداً من الأطفال السوريين الذين آثروا العمل وهم في أعمار مبكرة، لاسيما أطفال الأسر الفقيرة، والتي فقدت معيلها تزامناً مع تغيّر أنماط المعيشة بعد حرب قاربت عامها السادس، مما كان له الأثر السلبي على دراسة هؤلاء الأطفال ونموّهم الطبيعي بشكل صحي وسليم.
يقول مصعب، وهو يعمل في ورشة للحدادة، وقد بدا على وجهه البريء والمتسخ ملامح التعب "تكاليف الحياة الصعبة زجت بي في هذا العمل، فرغم صعوبته وقلّة أجرته يبقى أفضل من لا شيء"، ويضيف مبتهجا "أستطيع جلب كيسين من الخبز يومياً بأجرتي التي أحصل عليها"، لافتاً إلى أنّه يعمل مدّة ثمان ساعات يقوم خلالها بتشغيل المولدة الكهربائية وإطفائها بعد الانتهاء من العمل واستخدام آلة اللحام لوصل قطع الحديد ببعضها، وذلك لقاء أجرة يحصل عليها في نهاية اليوم، وهي 250 ليرة سورية أي ما يعادل نصف دولار أمريكي فقط.
يتعرّض الأطفال لظلم كبير ومجحف بحقهم حين يتقاضون أجوراً زهيدة، ولا تتناسب مع عملهم الشاق طوال اليوم، فهم مستغلون من قبل أرباب العمل لصغر سنهم وعدم قدرتهم عن الدفاع عن حقوقهم.
أبو أحمد (40عاما/مستعار)، وهو المالك لورشة الحدادة التي يعمل بها مصعب مع عدد آخر من الأطفال يعزي قلّة الأجرة التي يمنحها لمصعب إلى أنّه ما يزال صغيراً ولم يتقن العمل بعد، فيقول لحكاية ما انحكت "إنّ رغبة مصعب وحاجته للعمل هو ما دفعني لمساعدته بتشغيله عندي، سوف أضاعف له الأجرة كلّما تمرّس بالمهنة وأصبح قادراً على آداء أعمال الحدادة بشكل جيد".
أما بالنسبة لأم مصعب (35عاما)، فهي وإن تأسف لترك ولدها الدراسة وهو متفوّق فيها إلا أنّها مقتنعة بعمل مصعب كونه يساعدها ولو بجزء بسيط بالنفقات، كما أنّه سيكسب في نهاية المطاف مهنة وصفتها بالجيدة، والتي سوف تساعده مستقبلاً على العيش الكريم، مشيرة لأنّ ظروف حياتها الصعبة ، هي ما دفعها لتقبّل الفكرة مرغمة، فهي لا تعمل ولا تحمل أيّة شهادة أو خبرة تؤهلها للعمل على حدّ قولها ، ولديها أربعة أولاد أكبرهم مصعب وأصغرهم محمد (3 سنوات)، لنكون إزاء عائلة تحتاج مصروفاً شهرياً يعادل مئة دولار بالحد الأدنى. ولذا ترك مصعب الدراسة التي لم تكن أمه قادرة على توفير متطلباتها بطبيعة الحال، علماً أنّ الرسوم المدرسية قليلة إلا أنّ مصاريف الطالب من قرطاسية وملابس ومصروف يومي يعادل الـ 100 دولار سنوياَ، وهو مبلغ صعب تأمنيه لطفل واحد، فما بالك لعدّة أطفال!
يعتبر تراجع التعليم في مناطق ريف إدلب جرّاء استهداف الطيران الحربي الروسي والأسدي للمنشآت التعليمية هو الآخر إحدى العوامل التي زادت من نسبة عمالة الأطفال في المنطقة، وخاصة بعد اشتداد وطأة الحرب عاماً بعد عام، خاصة بعد التدخل الروسي الذي رفع من وتيرة الفقر.
حامد البيوش (14عاما) أحد المضحين بدراستهم من أجل العمل، يقول لحكاية ما انحكت، مبرّراً "لم يعد هنالك مجالاً للدراسة وذلك لسببين، الأول أنّني بحاجة لمصروفي الخاص الذي لا أستطيع أن أطلبه من والدي الفقير، والثاني لأنّ المدارس لم تعد كما كانت"، ويقصد حامد بذلك أنّه كثيراً ما يقوم المعلمون بصرف الطلاب من المدرسة لمجرّد مرور الطائرة الحربية في سماء المدينة، وخاصة بعد المجازر التي حصلت بمدارس حاس وقرى عديدة أخرى، ولذلك، وبرأي حامد فإنّ التعليم وسط أجواء الخوف والقلق من القصف بأيّ لحظة لم يعد مجدياً، حيث باتت أماكن العمل أكثر أمانا باعتبار أنّ النظام يستهدف المدارس، وفق تعبيره.
يعمل حامد في إحدى ورش تصليح السيارات، ورغم صعوبة عمله فهو يشعر بالسعادة والرضا لأنّه على الأقل أصبح قادراً على الإنفاق على نفسه وفي بعض الأحيان على أخوته أيضاً.
حرف عديدة انخرط بها الأطفال، ومنها أعمال البيع الهامشية (على البسطات) والزراعة، تربية الحيوان، والمهن الحرفية المختلفة كالكهرباء والنجارة والحلاقة وغيرها.
عمر (13عاما) وزيد (12عاما)، أخوان يعملان في بيع الأدوات المنزلية من خلال التجوال على المنازل، فهما يعتبران المعيلان الوحيدان لعائلة مؤلفة من خمسة أشخاص بعد اعتقال والدهما من قبل عناصر النظام منذ عام 2014.
تقول والدتهما مريم الحسن (39 عاما)، والألم يعصر قلبها "ماذا يمكن لامرأة لا حول لها ولا قوة أن تفعل غير إرسال أبنائها للعمل، فأنا لا أستطيع إيجاد عمل ملائم لي (مصابة بديسك في ظهرها) وسط هذه الظروف القاسية، ولولا المال الذي يكسبه أولادي فإننا لا نستطيع البقاء على قيد الحياة".
ومما لا شك فيه، فإنّ فرص العمل بالنسبة للأطفال باتت أكثر توافراً عما يمكن أن يجده الكبار، وذلك لقلّة أجورهم مقارنة مع أجور الكبار، فقد بات مشهد عمالة الأطفال المنتشر على نطاق واسع أمراً اعتيادياً في ريف إدلب. هذه الظاهرة يتحدّث عنها أمجد السليم (31عاما)، وهو خريج كلية علم الاجتماع ويعمل في مجال التدريس، إذ يقول لحكاية ما انحكت "إن لهذه الظاهرة آثاراً سلبية تنعكس على المجتمع بشكل عام والأطفال بشكل خاص" مؤكدا أنّ استغلال الأطفال يتمثل بأشكال عديدة، وأهمها تسخير الأطفال في أعمال غير مؤهلين جسدياً ونفسياً للقيام بها، وهي الأعمال التي تضع أعباء ثقيلة على الطفل وتهدّد سلامته وصحته، الأعمال التي لا تساهم في تنمية الطفل وتعيق تعليمه وتدريبه وتغيّر حياته ومستقبله، ولكنه من جهة أخرى لا يجد مشكلة في الأعمال السهلة والبسيطة، والتي لا ترهق الطفل وبالوقت نفسه تعود عليه بدخل جيد، ويعبّر عن ذلك بالقول: "نحن نعيش أوضاعاً صعبة، إنّها أوضاع حرب لا ترحم، والكثير من النساء والأطفال وقع عليهم عبء الإعالة بأسر فقدت معيلها ولا خيار لهم سوى العمل، وبالتالي من الطبيعي أن يكون هناك زيادة في نسبة عمالة الأطفال تزامناً مع غياب الجهات المهتمة للمشكلة".
عما يمكن أن تقدّمه المجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني، يقول المهندس عمار السويد (29عاما) وهو أحد أعضاء المجلس المحلي في كفرنبل: "ثمة كفالات تقوم بعض الجمعيات والمنظمات بمنحها للأيتام بغية مساعدتهم مادياً، ولكن بالوقت نفسه فإنّ الفقر والعوز يستفحل مع الغلاء والحرب ولا سبيل لاستيعاب كلّ هذه الأعداد من الأسر التي هي بحاجة فعلا للمساعدة ".
هذا في الوقت الذي تندّد فيه المرشدة النفسية فاتن السويد التي تعمل كمرشدة في منظمة سورية للإغاثة والتنمية، بظاهرة عمالة الأطفال التي تصفها بالتدميرية للطفل على كلّ المستويات، وتحاول تبيان ضررها على الطفل إذ تقول لحكاية ما انحكت: "الطفل تنعدم عنده القدرة على التمييز بين الصح والخطأ، كما يمكن أن تتوّلد لديه العدوانية نتيجة سوء المعاملة من قبل أرباب العمل"، وتتابع بأنّ "ترك الطفل لمدرسته واتجاهه للعمل سوف يفقد الطفل فرصة التعليم والتدريب المناسب مما سيؤول إلى انخفاض قدراته الإبداعية".
وبرأي السويد، فإنّه لا يمكن الحد من هذه الظاهرة إلا برفع مستوى الوعي لدى الأهالي لخطورة عمالة الأطفال والآثار البعيدة المدى على الطفل والبلد بشكل عام، وذلك من خلال عقد دورات ومحاضرات وندوات تثقيفية كتلك التي نظمتها اليونيسيف مؤخرا في عدّة مدن سورية تقع تحت سيطرة النظام، ومنها مدينة حلب، ولو أنّها غير كافية فإنّها بنظر السويد تعتبر نقطة انطلاق مهمّة في التصدي لمشكلة عمالة الأطفال "المستفحلة" في سورية.
وإلى أن تنجح اليونيسيف بمساعيها تبقى ظاهرة عمالة الأطفال في تزايد مستمر مما يهدّد بإنتاج جيل من الأطفال القابعين في مستنقع من الجهل والتخلّف والأمراض الجسدية والنفسية والاجتماعية، الأمر الذي يستدعي دق ناقوس الخطر من قبل جميع الجهات المعنية في الداخل السوري للجم الظاهرة والحدّ منها.
(الصورة الرئيسية: حامد البيوش في ورشة لتصليح السيارات طفل في كفرنبل في ريف إدلب. تصوير هدى يحيى/ 30/1/2017)