التأجيل الذي طار (1)


حكاية الشباب السوري مع التأجيل والهرب من الخدمة الإلزامية والطلب إلى الاحتياط مريرة. هنا إحى تلك الحكايات المريرة التي تسلط الضوء على واقع الفساد وعلى الواقع الذي يمشي فيه الشباب السوري في الداخل على الحد الفاصل بين الموت والحياة.

25 أيلول 2017

أليس الشامي

كاتبة سورية (الاسم مستعار)

تبدأ حكاية ما انحكت نشر سلسلة شهادات وحكايات عن الحياة اليومية في دمشق، ضمن هذا الملف:

ينزل علاء من باص ركن الدين الأخضر عند موقف المقاومة في شارع ركن الدين الرئيسي، ويتجه نحو حارات الجبل العشوائية. إنّها الساعة الثامنة والنصف مساء، الوقت لا يزال مبكراً، وعادة ما يتسلّق علاء جادات الجبل راجلاً، لكنه اليوم يقرّر ركوب "الصاروخ" بعد أن أمضى يوماً متعباً في محاولات يائسة لإنجاز معاملة التأجيل الدراسي لخدمة العلَم. لمن لا يعرف "الصاروخ" هو عبارة عن سيارة فان صغيرة الحجم بمحرّك قوي، وحدها تستطيع شق الطريق في حارات الجبل المتآكلة والضيقة وشديدة الانحدار والتعرّج، بين البيوت العشوائية التي تتكاثر كالفطر كل يوم. تم توظيف هذا الاختراع الصيني من قبل السكان أنفسهم لتأمين مواصلات سكان الأعالي في هذه المنطقة الفقيرة سيئة الخدمات. لم يكن علاء معجباً بتجربة ركوب الصاروخ، التي هي أشبه ما تكون بالركوب على سلحفاة على وشك أن تقلب على ظهرها. لكنه كان قد استنفذ كلّ طاقته في الوقوف لساعات طويلة في شعبة التجنيد، وسيكون عليه أن يتابع الوقوف غداً.

علاء، طالب في السنة الرابعة في كلية الأدب الإنكليزي. لم يبق لديه وقت كثير حتى يستنفد كل الفرص الممكنة للرسوب وتأجيل التخرج في محاولة منه لتأخير التعامل مع خدمة العلم الإجبارية حتى آخر نفس. هو ليس ثرياً، والده سائق سيارة أجرة عمومية، والدته متوفاة ويعيش مع جدته وأخيه الصغير محمود. في أيام مثل هذه الأيام يشعر علاء بمشاعر متضاربة تجاه أخيه الأصغر سناً. هو يحبّه، ويكرهه، ويشعر بالغبن لأنّ أخاه الذي ما يزال طالباً في الصف السابع الإعدادي لن يضطر إلى التعامل مع ما يتعامل معه هو من رعب ومذلة معاملات وأوراق خدمة العلم قبل سنوات طويلة من الآن. كان علاء يتمنّى لو كانت له شقيقة صغرى لطيفة ودلوعة، مثل مهى، حبيبته وزميلته في الكلية، والتي اقترب فراقه لها، على الأقل لفترة، من الزمن، لأنه في نهاية الأمر سيسافر بطريقة أو بأخرى هارباً من شبح الخدمة العسكرية الذي يقترب منه مهما حاول جاهداً أن يؤجله.

سيارة يطلق عليها السوريون اسم الصاروخ، وهي تعمل في الأحياء الضيقة والمرتفعة. المصدر: فيسبوك، والصورة تستخدم بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)

يصل علاء إلى البيت منهكاً. يتناول صحن شيش برك بدون حشوة اللحم. جدته مبدعة في ابتكار طرق اقتصادية لجعل الطعام لذيذ المذاق حتى ولو اختصرت منه المكونات الأساسية.

يسأله الأب ببعض القلق: "شو صار معك؟ أجلت؟ مشي الحال؟"

يجيب علاء متنهداً: "لسا ما قدرت فوت على الديوان".

في شعبة التجنيد يتواجد الشباب الراغبون في الحصول على تأجيل خدمة العلم في الساعة السابعة صباحاً. طلاب الجامعات عليهم أن يحصلوا على وثيقة دوام تثبت أنهم تابعون لإحدى الجامعات ومداومون فيها. قد يستغرق الحصول على هذه الوثيقة شهراً من الزمن، فكل ما يتعلّق بالتجنيد الإلزامي يخضع لتدقيق شديد هذه الأيام. ما عدا البيروقراطية القاتلة ومزاجية الموظفين، والتي يمكن تجاوزها ببضع آلاف تمرّر إلى الموظف المسؤول مع الأوراق لكي يقوم بعمله. يصطحب الطلاب هذه الوثيقة مع دفتر الجيش منذ الصباح الباكر وقبل أن تفتح أبواب شعبة التجنيد، ليحجزوا مكانهم في طابور طويل قد يصل إلى مئات الأمتار.

يبدأ كل شيء مع وصول العقيد الذي يقوم بالتأشير على الوثيقة. يصل العقيد في التاسعة صباحاً عادة، لكنه لا يستقبل المراجعين قبل أن يشرب قهوته الصباحية، وقد يستغرق ذلك ساعة إضافية. في هذه الأثناء يقوم العساكر بتنظيم الدور مستخدمين الركل والسباب الخفيف والثقيل بحسب ثقل العسكري وواسطته التي أتاحت له هذه الفرصة الذهبية في العمل في شعبة التجنيد.

 أمام غرفة العقيد هناك دوران، الدور العادي، والدور الذي يتجاوز الواقفون فيه الدور العادي بسبب علاقاتهم وواسطاتهم ومعارفهم من الضباط والمسؤولين. في هذه الأثناء يقوم العقيد بين الحين والآخر بافتعال الانفجار غضباً بسبب الازدحام الشديد على باب غرفته، ويلقن الجميع درساً في الانضباط والنظام، وبأنّ هذه الفوضى هي سبب البلاء الذي حلّ على البلد، وبأنّ الشعب السوري لا يفقه شيئاً في احترام الدور. وبعد وقوف طويل ذليل، يدخل الشاب الراغب في التأجيل ويشخط له العقيد على وثيقته الجامعية، ثم ينتقل إلى طابور الديوان، ليثبت على إضبارته تاريخ تأجيله الجديد ويسجله في دفتر خدمة العلم عند العقيد مرة أخرى.

انتظر علاء طويلاً أمام مكتب الديوان في ذلك اليوم. لكن دور الواسطات غلب صبره. كان علاء يراقب الشباب ينسحبون من الدور العادي ويتحدثون إلى أحد العساكر الواقفين بجانب الطابور، ويمرّرون له في يده ألف ليرة سورية، لينتقلوا بعدها إلى الطابور الثاني. لكن علاء كان يحمل في جيبه فقط بضع مئات، تكفيه فقط ليذهب إلى الجامعة ويشتري فنجاني قهوة من مقصف الكلية ليحتسيها مع مهى، ومن ثم يعود إلى البيت. القهوة مع مهى بالنسبة لعلاء تستحق عناء الوقوف في الطابور مع باقي أفراد الشعب لتوفير ثمنها.

ينتهي الدوام ولا يستطيع علاء الدخول إلى الديوان لاستخراج الإضبارة اللعينة. يذهب إلى الجامعة ويتشاجر مع مهى. يعود إلى البيت منهكاً محبطاً غاضباً لأن أهله قرّروا أن ينجبوا له أخاً ثانياً.

 في اليوم التالي يذهب علاء إلى شعبة التجنيد، ليقف في الساعة السابعة صباحاً، ينتظر فتح الأبواب في الساعة التاسعة، يحاول يائساً أن يقنع العسكري بأنه لا يريد الدخول إلى مكتب العقيد وأن معاملته عالقة في الديوان. بعد جهد جهيد يصل إلى باب الديوان. عندما يحل دوره تقوم الموظفة بإدخال دور استثنائي وراء الآخر. في لحظة طيش وجنون يقرّر علاء أن يعبّر عن شعوره بالظلم: إلي ساعة واقف وإنتي عم تمرقي العالم قبلي!

تنظر إليه الموظفة بصمت، ثم تقول ببرود: "بما إنك هيك عم تحكي، ما في تأجيل إلك"

-إي شو شعبة أبوكي؟"

-كلمة تانية وبخلي العساكر يشحطوك. وتأجيل ما في إلك عنا. روح دبر حالك".

يحاول علاء تمالك أعصابه. يسأل أحد العساكر: "شو حلّتها هي؟" يهز العسكري رأسه: "ما إلها حل بنوب. الآنسة ريما لما تقول لأ يعني لأ."

في تلك اللحظة، وبينما يقوم أبو علاء بتوصيل أحد الركاب إلى منطقة الأزبكية، يخطر له أن يتصل بابنه ليقوم بتوصيله إلى الجامعة، آملاً أن يبشره الأخير بخروجه ظافراً بالتأجيل من شعبة التجنيد. لكن أخبار علاء ليست كما يشتهي. يتجه أبو علاء بسرعة إلى شعبة التجنيد ليرى علاء يتصبّب عرقاً في الممر.

ينهال أبو علاء عليه بالشتائم: "يلعن أبوك! بلا ترباية!" ويخاطب الآنسة ريما: "سامحينا، يا أستاذة. حقك عليي. نحنا آسفين والولد غلطان. وطيش شباب. وأنا بربيه بالبيت"، فيما علاء متسمّر أمام الباب لا ينبس ببنت شفة.

تقف ريما في منتصف غرفة الديوان وتلوّح بشعرها الأسود المصبوغ باللون الأشقر بطريقة سيئة وتخاطب علاء: "قلة ذوق! قلة أدب. هؤلاء الواسطات الذين تتحدث عنهم هم من يدافعون عنك في الجبهات. بينما تتخاذل أنت وتطلب تأجيل خدمة العلم. ما في تأجيل يعني ما في تأجيل!".

يتقهقر أبو علاء إلى الخلف، ويتجه إلى غرفة مجاورة، ثم يعود مع أحد الموظفين الذي يتدخل بدوره لحل المشكلة. بعد ساعة من التذلل والاعتذارات توافق ريما على الإفراج عن الإضبارة ليتابع علاء المعاملة.

يدخل علاء غرفة الحاسوب مع والده حاني الرأس بعد المشهد السابق، ليقول له الموظف: "الحاسوب لا يعمل، لكن بخمسمئة ليرة سورية سنجعله يعمل لأجلك".

بعد انتهائه من شعبة التجنيد، يعود علاء إلى البيت مع أبيه وقد نسي كل المهانة التي تعرّض لها منذ ساعات. فورقة التأجيل في يده. لقد ولد من جديد!

بعد يومين، يذهب علاء في موعد مع مهى. تراود مهى أحياناً نوبات هلع من المستقبل وما يخبئه لها ولعلاء، خاصة وأنه لا يملك أيّة ضمانات أو خطط واضحة لهما ضمن الظروف التي يعاني منها الجميع. يتفهم علاء توترها ويأمل في هذا الموعد أن يطمئنها قليلاً. في باص النقل الداخلي تتلامس الأيدي وتبتسم مهى وتنفرج أسارير علاء. في الطريق ازدحام مروري كبير، ومشاة متجمعون على طرف الطريق.

"إنه حاجز احتياط!" تقول مهى. يبرز علاء ورقة التأجيل ليريها للعسكري الذي يأمر جميع الرجال تحت سن الأربعين بالنزول من السيارات والباصات.

يمحّص العسكري في ورقة التأجيل ثم يقول بلا مبالاة: "شو بيعرفني إنها مو مزورة؟ وقف عالتفييش!"

تطير الورقة من يد العسكري، لا يستطيع علاء الإمساك بها. تغوص في بركة مياه آسنة. ويغوص معها قلبا علاء ومهى. ما العمل الآن؟ تقف مهى إلى جانب علاء، فينهرها العسكري بعيداً: "ليش واقفة هون؟ انتي كمان بدك تفيشي؟"

بعد انقضاء ساعة على وقوف علاء مع الشباب على كمبيوتر التفييش، يأخذ هويته ويعود إلى مهى. هو ليس مطلوباً للعسكرية، فقد قام بالتأجيل البارحة. ولكن أي شاب لا يمكنه أن يمشي خطوة واحدة دون دفتر العسكرية وورقة التأجيل. سيتحتم عليه غداً أن يعود إلى شعبة التجنيد، ويقف مع مئات الشبان لساعات طويلة، وينتظر العقيد ليحتسي القهوة والشاي والمتة، ويواجه موظفة الديوان، التي لن توفر الفرصة في إذلاله مجدداً.

تقطع مهى سلسلة أفكاره: "معي نص ساعة، راحت علينا ساعة بالتفييش، خلينا ننبسط بهالنص ساعة البقيانة."

يبتسم علاء ويتذكر أنه لم يأكل عرنوس ذرة مسلوق مع مهى هذا الموسم. يشتري عرنوسي ذرة ويمسك بيد مهى بينما يبحث في الحديقة العامة عن مقعد يجلسان عليه، وهو حزين على الساعة التي ضاعت من موعدهما أكثر من حزنه على التأجيل الذي طار.

(الصورة الرئيسية: لوحة لـ كوميك لأجل سورية، وهي رسمت خصيصا لهذا الحكاية. خاص حكاية ما انحكت).

تعديل: تم إضافة المقدمة المكتوبة بخط مشدّد بتاريخ 17اكتوبر/ تشرين الأول 2017.

تعديل2: تم تبديل المقدمة المكتوبة بخط مشدد بتاريخ 24 اكتوبر/ تشرين الثاني 2017، وفي تاريخ 14 نوفمبر 2017 تم تعديل عبارة الداخل السوري إلى دمشق.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد