(تنشر هذه الحكاية بالتعاون مع راديو سوريالي، ويمكنكم سماع الحلقة على برنامج حكواتي سوريالي)
(اللاذقية)، هي ذي قلعة حلب، يحدّق الرجل في بوابتها من شارعه، فهي قريبةٌ إلى حد كبير، يتذكر كم من المرات قفز فوق أسوارها مع رفاق الطفولة، يلعبون ألعابهم بالأحجار وعلى الأسوار. لا يعرف الرجل أنّ العبارة التي يردّدها الآن في رأسه هي لشاعر لا زالت شهرته طاغية، أي المتنبي الذي تخاصم مع حاكم القلعة نفسها، الأمير سيف الدولة الحمداني في القرن الخامس عشر وقال له: "فيك الخصام وأنت الخصم والحكمُ".
محمد حسن (اسم مستعار) البالغ من العمر 54 عاما، كان يعمل صاحبُ عربة لبيع الخضار والفواكه، يقف بها بالقرب من بيته في حي "الصالحين" في مدينة "حلب"، الواقع بالقرب من القلعة الشهيرة، لديه ستة أولاد كل منهم في عمله وحياته ومدرسته، ويعرف في الحي باسم "أبو صبري".
في ربيع العام 2013، كانت المظاهرات التي تشهدها شوارع المدينة تمر بالقرب منه فلا يجرؤ على الاقتراب من هديرها، يكتفي بالمراقبة والموافقة الضمنية على ما تهدر به من كلام وأغان وشعارات، فهو ممن ذاق وعرف طعم التعذيب في سالف الأيام، إذ سبق له أن قضى عدّة شهور "سياحة" في الأفرع الأمنية لمجرد أنّ جاره "خلعه" تقريراً "خفيفاً"، بأنه يخفي في بيته منشورات لجماعة الإخوان المسلمين، من حسن حظه أنّ "الكبسة" على بيته لم تجد أيّاً من تلك المنشورات، فالرجل، بكل بساطة، أمّي لا يقرأ ولا يكتب!
في بداية شباط من ذاك العام (2013) اعتقل الرجل على خلفية مشاركته في "دعم" التظاهرات تلك، فمن كان يمر قرب عربته في ذلك الوقت من المتظاهرين يناوله تفاحة من هنا أو برتقالة أو فاكهة ما ويعطيه ما يطلب مجاناً. وصلت هذه القصة لأجهزة الأمن، عبر تقرير من أحد الجيران أو أحد ممن لن يتعرف ولن يعرف "أبو صبري" من هو حتى يوم القيامة، إن تذكر القصة وطلب من الله أن يدلّه على فاعل الخير هذا.
حلب، 2013، فرع أمن الدولة:
بدأت رحلة "أبو صبري" أولاً إلى فرع أمن الدولة في حلب. هناك حيث استضيف لتسعة أشهر، وضع خلالها في غرفة تتسع في الحال الطبيعية لعشرة أشخاص، إلا أنّ كثرة "الإرهابيين" أجبرتهم على زيادة العدد ليكون فوق الثلاثين، وأحياناُ فوق الأربعين، حسب الحالة والتحقيقات، الغرفة تقع في طابق ثالث تحت الأرض حيث لا شمس ولا هواء والماء يتدفق من حنفية في التواليت وأخرى تنقط فوق رأس من ينام تحتها.
اعترف أبو صبري بكل شيء قبل أن يطلب المحقق منه ذلك، أقرّ أنه بصدد تشكيل تنظيم مسلح، وأنّه يتلقى دعماً خارجياً من دولة عربية وأخرى أجنبية تقبّضه بالأخضر والبني والأزرق، أضيف إلى هذه التهمة تهمة حيازة سلاح غير مرخص وأخرى عن تواصله مع "الأعداء" العرب منهم والأجانب. بالطبع وجدت وثائق تدينه، مكتوبة بلغات أحرفها غير مفهومة لأبو صبري، فهو أمّي، ولكنه كتبها بخط يده ذات زمان!
استقبله القاضي وهو يمشي مشية عرجاء، مخفوراً من شرطيين اثنين، وضعاه أمام القاضي حليق الشعر والذقن، إذ لا يليق أن يقف أمام المؤتمن على العدالة إن لم يكن أنيقاً!
بالطبع هذه الاعترافات مسجّلة ومثبتة ولم يكن هناك أي "ضغط" معنوي أو جسدي عليه. ورغم أنه "تفركش" عدّة مرات "ببساط" ممدود على الأرض لراحته، وأدى ذلك إلى توّرم كامل جسده إلا أنّ الضبط لم يلحظ ذلك أبداً. ما سيقوله لكم الآخرون الأعداء أو الجحيم بتعبير سارتر (الآخرون هم الجحيم) عن تعرّضه للضرب المتواصل مجرد إشاعات هدفها النيل من هيبة الأمة ومقامها العالي بين الأمم.
إلى فرع الأمن السياسي في حلب:
بعد سياحة تسعة أشهر في فرع أمن الدولة، نقل الرجل إلى فرع الأمن السياسي في حلب أيضاً، حيث قضى فصلاً سياحياً جديداً، مزوّداً هذه المرة بتوصيات سياحية جديدة.
في فرع السياسية، لا بد من قول الحقيقة مرة جديدة بطريقة جديدة ترضي المحققين أيضاً، لا مفر من الإنكار، ولا بد للبشر من أمثال أبي صبري من قول الحقيقة دون أي ضغط أو تعذيب أو ترهيب.
قضى الرجل أشهره الستة معلّقاً على الحائط أولاً، ثم مبطوحاً على "بساط الريح"، وهذا الأخير، كرسيّ خشبي أو معدني، يوضع عليه الشخص مقلوباً أو بوضع طبيعي، مربوطاً بالطبع، ليتلقى الضرب على قدميه أو يدعس على رأسه من قبل المحقق، لا يهم ماذا تقول، المهم أن أي شخص يجلس على بساط الريح سوف ينال نصيبه من الضرب ساعات وساعات، حسب الدوام الرسمي وحسب المناوب بالطبع.
ستة أشهر قضاها أبو صبري على أنغام صوت "الأخضر الإبراهيمي" (عصا لونها أخضر مأخوذة من أنابيب التمديد الصحي، تستخدم في تعذيب المعتقلين وضربهم، وهي تسخر من الأخضر الإبراهيمي الذي كان مبعوثا للأمم المتحدة في سورية)، وهو يطير على جسده مخلّفاً كتلاً وندباً وسهولاً خضراء وزرقاء أين منها سهول "أرضنا الخضراء"، البرنامج التلفزيوني الذي لم يكن يشاهده أحد من السوريين.
أضيف إلى تشكيل أبو صبري للتنظيم المسلح ميزة جديدة، هي: "تهريب السلاح إلى جماعة مسلحة" في حارته كانت تعتزم مهاجمة مخفرها. كذلك كل قول عن تعرّضه للتعذيب مجرّد إشاعات مغرضة فهو قد نقص وزنه لأنه قام بريجيم من تلقاء نفسه فقد كان وزنه زائداً في الحياة الأخرى له.
إلى العاصمة
ولأن السياحة لا تكتمل بغير زيارة العاصمة، فقد نقل الرجل إلى محكمة الإرهاب في العام بعد التالي (أي 2015)، حيث وقعت قضيته عند أحد قضاة التحقيق ممن لا يقرؤون سوى ملخصات الضبوط الأمنية.
استقبله القاضي وهو يمشي مشية عرجاء، مخفوراً من شرطيين اثنين وضعاه أمام القاضي حليق الشعر والذقن، إذ لا يليق أن يقف أمام المؤتمن على العدالة إن لم يكن أنيقاً، رشّ الشرطي على ثياب أبي صبري عطراً رخيصاً كان بحوزته، ففي السجون لا يتوفر الحمام لمن يرغب إلا بعد انتظار أسابيع وأسابيع.
حدّق به القاضي بعد أن جلس على الكرسي أمامه، قرأ بضع سطور من الضبوط الأمنية، سأله ماذا تعمل في حياتك الأخرى؟ أجاب أبو صبري بأنه بائع خضار، هزّ القاضي رأسه وقال له: "شو كان بدك بهي الصرعة" وأغلق الضبط مكملاً: "حكمنا نحن قاضي التحقيق في محكمة الإرهاب السابعة بدمشق على المتهم محمد حسن بالسجن على ذمة التحقيق"، وهكذا أوقف الرجل ونقل إلى سجن القابون بالقرب من العاصمة.
بقي أبو صبري نصف عام تقريباً في انتظار أن تتحرّك قضيته مليمتراً واحداً. بالطبع تواصل الرجل مع عائلته التي استطاعت بعد جهد كبير أن تعرف مستقره أخيراً، وتمّ توكيل محامية طلبت من فورها مبلغ أربعة ملايين سورية لتأمين إخلاء سبيل للرجل. ولأنه يستحيل تأمين هذا المبلغ فقد بقيت السلحفاة (القضية) في مكانها أمام قاضي التحقيق.
إلى اللاذقية
بقي الرجل في سجن القابون بضعة أشهر أيضاً، ثم نقل إلى سجن اللاذقية المدني بسبب الازدحام الكبير في القابون، ونقل معه عشرات المتهمين بقضايا مشابهة قسمت إلى نوعين رئيسيين: إرهاب وشغب. تم وضع المتهمين في اللاذقية مع متهمين بقضايا جنائية مثل السرقة والمخدرات والتزوير وغيرها في مهاجع مزدحمة سعتها بالأصل لا تزيد عن عشرين شخصاً في حين أنها تضم بين 50-60 سجيناً حسب الواسطات داخل السجن.
بقي أبو صبري في سجن اللاذقية المدني من العام 2015 حتى العام 2017 عاش خلالها معتمداً على المساعدات التي قدمها له رفاقه في الرحلة السورية تلك. كان يأكل من طعام السجن "الشهي" قياساً بما كانت تسمى "الشوربة" التي رافقته في سياحته عبر الأفرع الأمنية، هذه الشوربة هي ماء مسخّن مضاف له ملح حسب الرغبة، رغبة الطباخ وهو سجين آخر ذي واسطة ثقيلة.
مضت الأيام على أبو صبري في السجن المدني، وفي محاولته إيجاد مخرج له من هذه الحالة، اتصل بأحد أقربائه ممن يحفظ رقمهم ووعده الأخير بأن يتابع قضيته لدى محام "ابن حلال"، مرّت الأيام والشهور ولم يتحرك ابن الحلال. في هذه السنوات تم تأجيل قضيته من قبل القاضي عدة مرات، كل مرة ثلاث شهور، هكذا نسي الرجل الزمن والحياة ولم يعد يفكر بغير الأكل والشرب والنوم.
الحرية والموت معا
حين تلّقى أبو صبري خبر إطلاق سراحه كان في مهجعه يستعد لتناول الطعام. حدث ذلك فجأةً، دخل الشرطي الذي يعرف أبو صبري لطول العشرة في السجن، وجده يأكل، لم يجد الشرطي طريقة لإخباره بما استجدّ سوى أن صاح بالمهجع كله: "يا شباب أبو صبري خلّص محكوميتو". لم يكن أبو صبري يعرف أن المحاكمة تمت وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات ونصف.
يشهد رفاقه (وأنا منهم) أنّه بقي لدقائق دون أن يتنفس حتى ضربه صديقه على وجهه ورش عليه الماء، وحين استيقظ من غيبوبته استطاع أن يسمع صوت عصافير تزقزق في رأسه، وفي العالم الخارجي للمرة الأولى منذ خمس سنوات!
أضيف إلى تشكيل أبو صبري للتنظيم المسلح ميزة جديدة، هي: "تهريب السلاح إلى جماعة مسلحة" في حارته كانت تعتزم مهاجمة مخفرها.
لقد نسي أن هناك زمناً يمر بالقرب منه دون أن يعيره انتباهاً: تدمّر بيته، وحارته أصبحت ركاماً، وأولاده الستة قذفتهم ريح الحرب في أصقاع الدنيا، فمنهم من هاجر، ومنهم من لجأ إلى الشام ومنهم من قضى نحبه. ولم يكن يدري أنّ زوجته قد ماتت قهراً عليه، وهي تسأل عنه كل الأفرع والجهات الرسمية والأهلية والجواب جاهز دوماً: لا نعرف عنه شيئاً.
لملم الرجل أغراضه القليلة: ثيابه وأدويته التي لم تفارقه منذ غادر المراكز السياحية، واتجه صوب الباب الحديدي ليستلم هويته التي وحدها استطاعت البقاء بجواره كل تلك الأيام، بضعة أمتار وخرج يسمع للمرة الأولى منذ سنوات أصوات البشر والسيارات والطيور، لم يكن هنالك وقت للذهاب إلى البحر، اتصل هاتفياً بصديق لاذقاني رحب به ودعاه للاستحمام في منزله.
بضعة أيام قضاها الرجل بضيافة صديقه (للحق كان من أهل الجبل) ثم غادر باتجاه مدينة بانياس الساحلية حيث علم أنّ بقية أحد من عائلته يقطن هناك مستأجراً بالقرب من مزارع بيوت بلاستيكية. اتجه إلى قريبه هناك دون أن يدري أنه يعيش آخر لحظاته، إذ كانت لحظة حريته هي لحظة موته، فبينما كان يقطع الأوتوستراد الدولي ساهماً شارداً، ضربته سيارة شاحنة أودت بحياته.
حين انتشلت جثة الرجل من إسفلت الطريق، كان بجيبه وصل أمانة بمبلغ عشرة آلاف ليرة سورية استدانها من صديق ما يزال لليوم داخل السجن المدني في اللاذقية، وصورة جماعية فيها طفل يضحك، ويضحك كثيراً.