(دمشق)،عضت أم حسام، المرأة الخمسينية الهزيلة، على شفتها، وابنها العسكري الذي أتمّ عامه الثاني والعشرين من عمره والرابع من الخدمة الإلزامية يشد على يدها كي تلتزم قرارها بعدم الرد على العنصر الواقف عند دوار البطيخة على مشارف مخيم اليرموك، بعد أن قال لها عندما سمعها تجهش بالبكاء بلهجة ساحلية قوية: "إنتو الحق عليكين. ليش تركتوا بيوتكين. نحنا بالضيعة قاومنا الإرهابيين وما خليناهين يفوتوا".
منذ يومين، وتحديداً في الخامس والعشرين من أيار، كانت المرة الاولى التي تقترب فيها أم حسام من المخيم لهذه الدرجة بعد أن توقفت الأعمال العسكرية وتمكن الجيش النظامي من إخراج كل من المعارضة المسلحة وداعش من جنوب دمشق في الواحد والعشرين من أيار 2018، إذ أكملت أم حسام عامها الخامس بعيداً عن بيتها الذي عمّره زوجها فوق بيت أهله منذ عشرين عاماً. وصحيح أنه رصّ الطوب بالإسمنت، لكنها هي وحدها من تكفلت بمصاريف تعمير الغرف السيئة التوزيع التي عاشت فيها هي وأولادها الخمسة، وتحملت فيها ضرب زوجها بين الحين والآخر، زوجها العاطل عن العمل الذي زجّ في السجن ذات مرة قبل بدء الأحداث في سوريا لثلاثة أعوام، فقط لأنه تشاجر مع أحد العساكر أثناء وقوفه في دور توزيع قسائم المازوت. ورغم أنها كانت مضطرة لزيارته في سجن عدرا مرة على الأقل أسبوعياً خلال سنوات سجنه، لكن الحياة كانت أفضل بدونه في البيت.
كانت أم حسام (سمر) قبل أن تتزوج صبية جميلة ومرحة. كانت تعمل في معمل ألبان وكان لديها شلة أصدقاء، كنّ يخرجن ليتمشين بعد العمل في شوارع المخيم ويواكبن صرعات الموضة الرخيصة. تزوجت سمر وتركت العمل، واضطرت للتعامل مع مزاج زوجها السيء وقراراته الرعناء طوال سنوات زواجها الخمس والعشرين، وأنجبت خمسة أولاد. ورغم أنّ زوجها لم يكن يحتفظ بعمله أكثر من شهرين أو ثلاثة، لكنه ضربها حتى ازرق بدنها عندما عبرت عن رغبتها في إيجاد عمل ما لتعيله وتعيل الأولاد، علما أنه بعد أسبوع وافق ولم يعتذر عن ضربها. وهكذا بدأ مشوار أم حسام المهني من جديد، ولكن في تنظيف البيوت هذه المرة.
كوّنت أم حسام شبكة من الزبائن. خلعت كرامتها على عتبة الباب، لم تكتف بتنظيف الأرضيات وتلميع المراحيض، بل استجدت عواطف أصحاب البيوت كلما سنحت لها الفرصة بذلك. لم تترك فرصة من توزيع زكاة فطر أو عيدية أو معونات إلا واستغلتها. كانت تجمع الأغراض التي كانت ترميها ربة المنزل لقِدمها أو تعطلها أو انتهاء صلاحيتها. وسنة بعد أخرى استطاعت أم حسام أن تعمّر بيتاً، وتفرشه بالأثاث القديم وبمساعدات البيوت التي نظفتها. كانت تقمع أي تمرّد لكرامتها يمكن أن تستشعره عندما تطلب مساعدة عينية أو مادية. فبنظرها هي تستحق أكثر بكثير من ثلاثمائة ليرة لأنها تنظف مرحاض سيدة صالون لا تريد أن ينكسر ظفرها أثناء تنظيف فضلاتها.
سرقات صغيرة
تجاوز الأمر مجرّد طلب المساعدة إلى محاولة تحصيله بطرق أخرى. وفقدت أم حسام عدة زبائن بسبب قلة أمانتها. لم تكن سياستها في السرقة لتودي بها إلى السجن. كانت تكتفي بأخذ أغراض ومبالغ بسيطة لا تلفت النظر. لكن في نهاية الأمر كان أصحاب البيت يكتشفون الأمر ويستغنون عن خدماتها.
لم تكن أم حسام لتشعر بالذنب أو الخجل، وكانت دائما تنجح في إيجاد زبائن جدد. لم تكن امرأة متدينة رغم أنها كانت محجبة وبناتها الثلاث. ولم تكن متعلمة رغم أنها تعرف تهجئة الكلمات. كانت دائما تجد تبريراً لما تفعله، إنها لاجئة بلا وطن، تعيل أسرة مؤلفة من سبعة أفراد، زوجها عالة على المجتمع، تتعرض للتعنيف منه ومن أسرته، وللإهانات من أصحاب البيوت التي تنظفها إذا لم يكن الزجاج لامعا أو حوض الجلي فارغاً. من يمكنه أن يلومها على أي شيء تفعله؟ كانت أم حسام تنام كل يوم قريرة العين بعد أن تُجري في داخلها هذه المحاكمة.
النزوح
في عام ألفين وثلاثة عشر اشتعل المخيم، سيطرت الكتائب المعارضة والمتشددة على الشوارع وتمكنت أم حسام بشق النفس من الهرب من المخيم قبل أن يحاصره النظام. خرجت مع ابنيها الذكرين وابنتها الأصغر، بعد أن كانت قد زوّجت بنتيها الأخريين قبل عدّة سنوات. خرجت بثيابها التي عليها وتركت كل ما في المنزل وهي ترى حمماً من النار تنزل على الحارات وراءها. كان زوجها في ذلك اليوم يزور أقرباءه في إحدى القرى على طريق درعا. استأجرت أم حسام في دمشق بيتاً لها ولأولادها على العظم ودون شبابيك أو أبواب أو حتى حمام، أما زوجها فظل عند أقاربه. كانت هذه هي الميزة الوحيدة لكل ما جرى، يبدو أنّ زوجها قرّر الابتعاد تماماً عن العائلة وترك زمام الأمور لزوجته. انهارت أم حسام وبكت وضربت نفسها وأولادها، وفي اليوم التالي ذهبت إلى العمل ولديها كل الأسباب لتحصّل كل ما يمكن تحصيله من العائلات التي لا تزال تعيش بأمان ورفاهية في مدينة دمشق.
كثر تعاطفوا معها، قدموا لها المساعدات المالية والعينية لتفرش المكان الذي تعيش فيه. سجلت نفسها في كلّ الجمعيات التي علمت بوجودها لتحصل على المعونات، باعت المعونات الفائضة، بحثت عن زبائن جدد، سرقت أحياناً بعض الطعام وعدّة المطبخ والقليل من المال. كادت إحدى السيدات أن تشتكي عليها لكنها اكتفت بطردها شرّ طردة بعد أن استعادت منها ما سرقته. في خضم هذه الظروف التحق ابنها الأوسط بالخدمة الإلزامية، فابنها الأكبر لديه إعاقة تعفيه من الخدمة. وأصبح لدى أم حسام المزيد لتقلق بشأنه. كان جيش التحرير الفلسطيني يزج بأفراده إلى الجبهات لمواجهة الإرهابيين بذريعة أنهم أشد خطراً من الاحتلال الإسرائيلي، وعندما اندلعت معركة الغوطة الشرقية كان الابن مع المقاتلين. لكنه كان يعرف كيف يتفادى القتال بشكل مباشر، كان يدفع للضابط المشرف عليه كي لا يرمي به إلى التهلكة ويمنحه الإجازات ليعود إلى حضن أمه التي كانت تحب أولادها أكثر من أي شيء في الدنيا. كانت أم حسام تؤمن المال لابنها كي يغطي مصاريفه وكي يأكل جيداً لأن طعام الجيش كان يسبّب له الإمساك.
حلم العودة
لكن حلم العودة، إلى المخيم لا فلسطين، كان يبث في قلبها الأمل تارة، والخوف تارة، والخيبة والسخط تارة أخرى، خاصة مع تبخر الإشاعات واحدة تلو الأخرى عن احتمال قرب الحل والمصالحة في مخيم اليرموك. لكنها كانت على تواصل مع من بقي من الأهالي، لتعلم أنّ بيتها لا يزال صالحاً للسكن، وبأن جيرانها يدخلون إليه ليأخذوا منه بعض المؤونة الجافة بعد أن نفذ كل الطعام من أيدي المدنيين.
بعد معركة الغوطة الاخيرة في أوائل عام 2018، تجدّد الأمل لدى أم حسام وكل النازحين من المخيم بأنّ العودة باتت قريبة. أمل تحوّل بعد فترة قصيرة جداً إلى هلع وشبه يقين بأنّ الحملة العسكرية لن تبقي ولن تذر. لم تكن أم حسام بحاجة إلى الكثير من الذكاء لتعرف بأن المنزل الذي بنته من شقاء العمر، وتحمّل ظروف حرب الشوراع في السنوات الخمس الماضية لا يمكن أن يصمد أمام الصواريخ والبراميل الكثيفة الروسية والإيرانية.
بعد إعلان دمشق منطقة خالية من العمليات العسكرية، ذهبت أم حسام ووقفت مع الأهالي عدّة مرات عند دوار البطيخة بين الميدان والمخيم. لم يكن مسموحا للمدنيين الدخول إلى المنطقة بعد. شاهدت سيارات ودراجات نارية محمّلة بالأثاث والأخشاب والقطع الكهربائية. كانت شبه متأكدة من أنها رأت مروحة مستعملة كانت قد أخذتها من بيت سيدة مسنة تبرعت لها بها. أصبحت تبكي وتضرب وجهها، كانت دائماً تضرب وجهها عند الغضب أو الحزن. قام أحد العساكر بتهدئتها قائلا: "ليش عم تضربي حالك خالة. متلك متل كل هالعالم".
العودة إلى المنزل
في اليوم الثالث، دخل المدنيون ودخلت أم حسام، وهي تكاد لا تعرف كيف تصل إلى البيت. اختفت معالم الطرقات، أكوام الحجارة والأنقاض كانت في كل مكان، وكأنّ قنبلة ذرية انفجرت ومحت عشرات الشوارع دفعة واحدة. كانت سيارات العفيشة تحمل ما نجا من أغراض الناس في سيارات شحن صغيرة وعلى الدراجات النارية.
بصعوبة وصلت أم حسام إلى منزلها، منزلها الذي كان مبنياً فوق بيت عائلة زوجها المؤلف من ثلاثة طوابق. كان كل المبنى بلا جدران، ولم تستوعب كيف كانت الأرضيات والأسقف لا تزال مستندة على العضائد والأعمدة. صعدت على الدرج الذي أصبح مكشوفاً تماما، وكأن البيت لعبة أطفال مكسّرة. وصلت إلى منزلها الذي لم يصل إليه سارقو الغنائم بعد. كان في وسط المنزل ثمة خزان حديدي مثقوب ومهترئ، تذكرت أنّ الخزان كان على سطح جارها في المنزل المقابل، لعلّ شدّة القصف طيّرت الخزان إلى بيتها.
بعد يومين اصطحبت أم حسام ابنها العسكري الذي نزل في إجازة سريعة، إلى المخيم لتحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أغراض بيتها المنكوب. كانت تهم بالدخول، وهي تتمتم باكية عندما علّق عنصر الحاجز محملاً إياها والأهالي الذين فرّوا بحياتهم مسؤولية ما جرى.
(قامتوا، بشو بدنا نقاوم، بالحجارة كمان هون؟) فكرت أم حسام وهي تتعثر بين الأنقاض والحجارة متمسكة بذراع ابنها.
ما إن وصلت أم حسام إلى البناء حتى رأت شاباً ببدلة عسكرية متسخة يحمل فرشات المد العربي الخاصة بها.
- لوين رايح فيهون!
- هدول إلك خالة؟ أجاب العسكري. لا تواخذيني. أنا عبد مأمور.
- وإذا عبد مأمور بتسرق؟ ليش في شي حرزان؟ فرشات مهرية يا الله! حتى هدول بدكون تاخدوهون!
لم يرد العسكري وأكمل طريقه، ولم يعترض ابنها. البارحة فقط قتل اللصوص من العساكر شاباً احتج على سرقة عفش بيته، إذ كان يعلم تماما أن البدلة العسكرية لن تحميه من شيء.
في المنزل فك الابن وأمه محرّك البراد، وجمعا بعض الملاعق والصحون من المطبخ. لم يكن هناك الكثير المتبقي مما لم يتحطم. وجدت أم حسام المروحة المستعملة لكنها كانت مهشّمة تماماً. على الطرف المقابل من الشارع ابتكر بعض الجيران طريقة أفضل كي لا يسرقهم أحد، وهي تحطيم ما تبقى. ضرب أحد الرجال براده بعصا غليظة حتى خلع الباب. كسرت النساء الصحون والكؤوس والأواني. كان أهون على السكان أن يكسروا أغراضهم من أن تُؤخذ أمام أعينهم. كان نقل الأغراض أصعب من تركها لتسرق، وكان على أم حسام وابنها أن يدفعا للحواجز حتى يمرا بسلام. وصلت الحمولة إلى البيت، تمدّدت أم حسام على الأرض منهكة، تفكر في خسارتها الهائلة، ومشهدُ أشيائها وهي تُسرق أمام عينيها يحفر أخاديد في قلبها.