مصادرة الممتلكات.. عصة قبر ما بعد السجن


تشمل المصادرة أيّة عقارات باسمك، سيارتك، أرصدتك في البنوك، ستراجع إدارة المركبات، السجل العقاري أو الإسكان لتجد إشارة تمنعك من التصرف بما يخصك دون أي إمكانية واضحة حالياً للتصرف إزاء ذلك. لا تدخل هذه الأموال ضمن شرح التهمة، أي أن تكون وسائل (الممتلكات) ارتكاب جرم الإرهاب، إنما يتم هذا بحكم قانون لا يستطيع مراجعته أحد ويلتهي عنه الناس بما هو أهم، حياة من يخصونهم من معتقلين.

17 تموز 2018

(رسم يسخر من محاكمات الإرهاب في سورية/ خاص حكاية ما انحكت)
رافيا سلامة

صحفية وناشطة نسوية سورية تقيم في ريف دمشق، تكتب لعدد من المواقع السورية والعربية، تنشط في مجالات تمكين المرأة والدراسات النسوية. كما تعمل في مجال السينما الوثائقية.

(دمشق)، كسجين يقضي حكمه الصادر عن محكمة الإرهاب في أحد السجون السورية، ظنّ أبو إبراهيم (اسم مستعار) ذي الأربعين عاماً أنّ الأسوأ انتهى. يرى ذلك الآن خطأ في التقدير فالمشكلة الحقيقية قد بدأت للتو، إذ "هل تعلم أنهم يستطيعون أخذ كل ما تملك؟ هل تعلم أنهم يأخذونه؟ إنهم يستطيعون أن يبّصقوك حليب أمك إن أرادوا" وفق ما يقول أبو إبراهيم لحكاية ما انحكت.

قيل الكثير عن قضية المعتقلين ومعاناتهم، وعن الاستحواذ على ملكيات السوريين بمراسيم المناطق التنظيمية أو إعادة الإعمار وغيرها. لكن اجتماع الأمرين سوية: الاعتقال ومصادرة الملكية، الحرمان من الحقوق والنيل من الكرامة، هو مصاب لا يحسد صاحبه عليه أبدا.

عندما تنجو من التحقيق وما يشمله من تعذيب وسحق للكرامة، تعبر مرحلة المحاكمة المريرة التي ليس من إدراك فعلي للقانون أو الفساد اللذين يسيرانها، وتصل لتقضي ما بقي من هذه التجربة سجيناً له ما لغيره من السجناء الجنائيين أو أصحاب الجنح، وعليه ما عليهم. تبدأ باستيعاب المصيبة الأكثر ثقلاً والأطول أمداً؛ الحجز والمصادرة، آخر ما تتعرّض له كضحية حية للدولة السورية، وبالقانون! "إنها مأساة فعلا. يخرج المعتقل من السجن ولا يجد شيئاً يعينه ولا بيتاً يأويه، فكل ما جناه في حياته تمّت مصادرته  وفقد كل شيء"، كما يقول المحامي ميشيل شماس لحكاية ما انحكت.

الأحكام تصدر من قضاة يتنوعون بين قساة خائفين من سلطة الأمن وشبهة الانحياز للمعارضة، وبين مرتشين يستفيدون من تثبيت الجرم والإدانة

لكن القصة تبدأ منذ لحظة السجن، لتزيد حكم أبو ابراهيم صعوبة وتعقيداً. على تاجر قطع السيارات، المقتدر سابقاً، أن يصرف على نفسه في السجن وزوجة وولد وابنة مراهقة خارجه، وأن يفكر كيف يرد أكثر من عشرة ملايين ليرة (حوالي اثنين وعشرين ألف دولار) ديون عمله التي سببتها المصادرة، ويؤمن ما قد يحتاجه من لدفع رشوة لن تقل عن ثلاثة ملايين ليرة (حوالي سبعة آلاف دولار) لينهي هذا الاعتقال، دون أن يستطيع كسب رزقه، فهو في السجن اليوم لعمله في إيصال مواد للمناطق المحاصرة، أي تمويل الإرهاب حسب القانون رقم 19 لعام 2012 الخاص بمكافحة الإرهاب. لم يكن أبو ابراهيم يرضى بإرسال أولاده إلا لمدارس خاصة من قبل، وكان يعتبر من مقتدري حيّه وأكثرهم كرماً.

القانون خصم للعدالة

في القانون الصادر عن رئيس الجمهورية‏، يذكر التالي في المادة (11): "للنائب العام المختص أو لمن يفوضه أن يأمر بتجميد الأموال المنقولة وغير المنقولة لكل من يرتكب إحدى الجرائم المتعلقة بتمويل الأعمال الإرهابية أو ارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون إذا كانت هناك دلائل كافية على ذلك ضمانا لحقوق الدولة والمتضررين". وفي المادة (12): "في جميع الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون تحكم المحكمة بحكم الإدانة بمصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة وعائداتها والأشياء التي استخدمت أو كانت معدة لاستخدامها في ارتكاب الجريمة وتحكم بحل المنظمة الإرهابية في حال وجودها".

ككل المواد الأخرى الموجودة في قانون الإرهاب هذه المواد محكمة من حيث التنفيذ، وقد تشمل من الأفعال أي شيء، بمسميات مبتكرة تطلقها النيابة العامة مثل: التدخل، الترويج أو التستر على الإرهاب. يقول المحامي المدافع عن معتقلي الرأي ثم الإرهاب قبل أن يصبح نفسه مطلوباً ويهاجر إلى هولندا، ميشيل شماس، لحكاية ما انحكت أن "أغلب نصوص القانون فضفاضة تحتمل أكثر من تفسير"، ويثق أبو إبراهيم أن الشعب السوري جميعه معرض لاتهامه بالإرهاب "أنت وحظك".

سائق التاكسي حسين 29 عاماً (اسم مستعار) أحد المتهمين بالتدخل بشكل غير مباشر بتمويل الإرهاب. سبب التهمة أنّ معارضاً يعمل في تقديم الدعم لأسر المعتقلين، ألقي القبض عليه أثناء ركوبه سيارته أواخر 2015. أخلي سبيل حسين تحت المحاكمة بعد أكثر من عامين موقوفاً، مقابل رشوة قدرها مليونا ليرة  سورية (حوالي ألفين ومئتين دولار)، تعتبر متواضعة بالمقارنة مع ما يذكر من أرقام لرشاوى الإرهاب حالياً. الأمر أنه ولحاجته للنقود، قام برهن أرض يملكها ثم سافر إلى لبنان سريعاً بداية العام الحالي، أملاكه مجمّدة وليس له من قدرة على رد الرهن، وليس من طريقة قانونية حالياً لاسترجاعها. يعتقد آسفاً أنّ على سيء الحظ الذي قبل أن يرهنه أرضه التعامل مع المشكلة، "هذه الدولة لا تسمح لك بأن تكون حقانياً" يبرّر لنفسه.

(رسم يوضح ما يتعرض له المعتقلون في السجون السورية/ خاص حكاية ما انحكت)

يتمنى المحامي العشريني الدمشقي المتدرب في مكتب محامي يعمل في قضايا الإرهاب، دانييل (اسم مستعار) "لو تعود أيام قانون الطوارئ"، متأثراً بقصص موكليه وخساراتهم. فرغم القمع وكم الأفواه، كانت الأمور أقل فساداً قبل رفعه عام 2011 باعتقاده. بعد العمل به منذ وصول البعث للحكم عام 1963، فالسرقة هي الشرعة الأعلى التي تمارسها الدولة ضد مواطنيها حالياً، والمعتقلون هم هدف سائغ لها بكل بساطة. جميع متهمي محكمة الإرهاب الذين يقدر عددهم لعام 2017 بأكثر من 17000 موقوف، حسب الأستاذ دانييل، هم عرضة للابتزاز المتواصل للخروج من السجن بعد كلّ ما مروا به في أفرع الأمن، فالرشوة هي الطريقة شبه الوحيدة للتعامل مع الأمر  بعرف المعتقلين وأهلهم. ورغم كونها منتشرة في القضايا الجنائية كذلك، إلا أنّ التعامل مع قضايا الإرهاب أكثر إجحافاً دون وجود جرم موصوف بوضوح كما في القضايا الأخرى. لكن حتى الرشوة غير قابلة التحقيق مادياً، لدى العشرات ممن تحولت حياتهم بلحظة الاعتقال وتجميد الممتلكات إلى سلسلة ظلم لا تنتهي. من خرج من سوريا قد يتعرض أيضاً للحجز على أمواله بشبهة المعارضة تلقائياً، ولا يستطيع فعل شيء إزاء ذلك أيضاً.

وبمجرد صدور الحكم تأتي المصادرة دون أن يشملها عفو حتى الآن، وما يؤمل به هو رأفة القاضي، "كثير من القضايا أتت مع غرامات كبيرة دون مصادرة خلال العامين السابقين" يقول سميح (اسم مستعار) الناشط العشريني الذي يقضي حكماً بسبع سنوات في سجن حلب المركزي لقيامه بتقديم الإغاثة لعائلات مهجرين، ما يدعوه القانون اليوم بتمويل الإرهاب.

الأحكام تصدر من قضاة يتنوعون بين قساة خائفين من سلطة الأمن وشبهة الانحياز للمعارضة، وبين مرتشين يستفيدون من تثبيت الجرم والإدانة. يعتبرون إرهابيين يتم الحكم عليهم بحذر وقسوة شديدين، ويتعرضون لخسارة كل ممتلكاتهم لنفس الأسباب، دون وجود إمكانية لتجاوز المصادرة ضمن أي عذر مخفف، ودون وجه حق قانوني يتعلق بشبهة تحيط بارتباط مال المتهم بالجرم الذي يفترض أنه ارتكبه.

مشكلة المصادرة ما زالت لدى أفراد معدودين، لكنها شيئاً فشيئاً تتحول إلى قضية مئات ممن ظلموا بالاعتقال ويسرقون بالقانون.

"إنها لا تكتفي، هذه الدولة لا تكتفي منك مهما أخذت". هذا ما يقوله ربيع (اسم مستعار) طالب الإعلام في الجامعة اللبنانية ذي الثلاثة وعشرين عاماً، شارداً في حظه العاثر مديوناً في لبنان، يريد الإتيان بأمه المفرج عنها حديثاً من السجن في سوريا، بعد اعتقال دام أربع سنوات، تنفيذاً لحكم محكمة الإرهاب التي جرّمتها بجناية تمويل الإرهاب بالمعلومات. كانت تكتب على صفحتها على فيسبوك ما يجري في حارة أهلها في حمص.

اسم هذه الجريمة سابقاً كان نشر معلومات كاذبة ولم يكن الحكم ليختلف كثيراً عمّا تصدره محكمة الإرهاب، لكنها لم تكن (إرهابية) بل (معارضة) فقط حينها. قضت الأم الحكم وخرجت من سجن عدرا للنساء، لتحاول الذهاب إلى لبنان للقاء ابن متخلف عن خدمة العلم، فتكتشف أنها ممنوعة من السفر، فمنع السفر افتراضي بعد الخروج من السجن بقضاء الحكم كالمصادرة، وإذا تمت محاولة رفع منع السفر فكل ما يمكن الحصول عليه هي موافقة خروج لمرة واحدة من المخابرات العامة.

تحاول أم ربيع في الخمسينات من عمرها التصرف ببعض أملاكها وبيعها بغية تأمين مبلغ يساعد ربيع في دراسته لكنها تكتشف أن ممتلكاتها مصادرة من قبل الدولة، وينتهي الأمر هنا، إذ لا وسيلة واضحة حتى الآن للتعامل مع المصادرة، فإخراج المعتقل يعتبر وحده ما يهم، وكل شيء آخر مشكلة مؤجلة لا وسيلة لمواجهتها. "الاستعادة غير ممكنة نهائيا بالنسبة لمن صودرت أملاكهم بأحكام قضائية مكتسبة الدرجة القطعية وتم تنفيذها" يقول المحامي شماس.

تشمل المصادرة أيّة عقارات باسمك، سيارتك، أرصدتك في البنوك، ستراجع إدارة المركبات، السجل العقاري أو الإسكان لتجد إشارة تمنعك من التصرف بما يخصك دون أي إمكانية واضحة حالياً للتصرف إزاء ذلك. لا تدخل هذه الأموال ضمن شرح التهمة، أي أن تكون وسائل (الممتلكات) ارتكاب جرم الإرهاب، إنما يتم هذا بحكم قانون لا يستطيع مراجعته أحد ويلتهي عنه الناس بما هو أهم، حياة من يخصونهم من معتقلين.

الظلم يجر الفساد

تجميد الأموال حسب المادة (1) من نفس القانون: هو "حظر التصرف بالأموال المنقولة وغير المنقولة أو تحويلها أو نقلها أو تغيير صورتها لفترة معينة أو خلال مراحل التحقيق والمحاكمة". والمصادرة: هي "الحرمان الدائم من الأموال المنقولة وغير المنقولة وانتقال ملكيتها إلى الدولة وذلك بموجب حكم قضائي".

يحل المعتقلون والمتمّمون أحكامهم الأمر بوسائل ملتوية غالباً، يجرون عقود بيع بتواريخ سابقة للحظة الاعتقال يقومون فيها بالتعامل مع مظلوميتهم واسترداد حقوقهم من خلال البنية الإدارية والقانونية الفاسدة أيضاً. لكن حتى هذا لم يعد ممكناً بسهولة بعد أن أصبحت إجراءات المصالحة في وزارة المالية (أي توثيق العقود ودفع الضرائب والرسوم المتأخرة) مطلوبة لتثبيت أيّ بيع، ولا يؤخذ بالعقود التي لم توّثق فيها.

سامر من دمشق ذو الثلاثين عاماً وسائق الميكروباص سابقاً، لا يملك شيئاً سواه، قضى حكماً بكتم جناية (أي عدم التبليغ للجهات المختصة) لعام واحد لمعرفته بأن أقرباءه ينتمون للجيش الحر، وخرج من السجن نهاية العام الماضي. حاول بيع مركبته التي لم تصلها يد الدولة بعد بكل الوسائل غير القانونية المتاحة أمامه ليؤمن مبلغاً يساعده لمغادرة سوريا، لكنه فشل فيها جميعاً، وكاد أن يكشف أمره فيتورط في قضية تزوير، فما كان منه إلا أن نسي أمر ممتلكه الوحيد واستدان ما يحتاجه وسافر إلى تركيا.

يضيف الأستاذ شماس "يستهدف القانون ناشطي حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين والتضييق عليهم" فالولاء للنظام بالكامل هو المتاح وأي خروج عنه هو انتحار حقيقي، إن لم ينه الحياة نفسها بالموت والاعتقال ينهيها بكل الأشكال الأخرى الممكنة من حرمان الشخص مما يملك. ويثبّت خوفاً يغدو هو الحقيقة الوحيدة للسوريين، إنها العملية التي يحكم بها النظام قبضته عليهم.

سبع سنوات من بدء المواجهة في الصراع السوري تنتهي عسكرياً، وسنوات حكم قضاها من قام بأفعال معارضة للنظام بدأت أيضاً تكتمل. تمر فصول معاناة على السوريين وتبدأ أخرى، ومشكلة المصادرة ما زالت لدى أفراد معدودين، لكنها شيئاً فشيئاً تتحول إلى قضية مئات ممن ظلموا بالاعتقال ويسرقون بالقانون.

 

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد