(ينشر هذا المقال ضمن ملف يتناول الثقافة الشفوية في سورية، بالتعاون والشراكة مع موقع نوى على أوبن ديموكراسي، في محاولة لفهم جذور الطائفية والقومية وغيرها في سورية)
علاقة الشوام مع بعضهم ومع الآخرين، مبنية على مجموعة عصبيات متهافتة، طبقية وطائفية ومناطقية وجندرية.
قد تجد للكثير منها دوافع سياسية يمكن مناقشة أحقيتها، لكن الممارسات والشكل النهائي المشوّه لهذه الفئة صاحبة الامتياز، مدعية المظلومية بين السوريين هو ما يستحق الاستعراض. ولعل حياة قصيرة لشاميّة سنية واحدة تضع لهذا بعض الملامح.
بين الشوام وليس بينهم، نشأت في حارات شارع بغداد القديمة، مكان يعج بشوام (خارج السور) غير المعترف بهم بشدّة من قبل عائلات دمشق التي يفترض انتماؤها إلى (داخل السور). وقصة السور تفترض وجود دمشقيين أكثر دمشقية من دمشقيين آخرين، وذلك بحسب قيد نفوسهم الذي بدأ تسجيله في العصر العثماني، وعليه يتم الاستدلال من أقدم في هذه المدينة ممن، وعليه تبنى قصة الشوام كلها. مدينة قديمة أسّست في القرن الثالث قبل الميلاد، ولطالما وفد إليها الغرباء عبر التاريخ، ليصبح كلّ جديد فيها أهلاً لممارسة الامتعاض من جديد يليه وهكذا، وذلك دون أن يبرز سبب قيّم واحد للتفاخر بهذا القدم، ولا منجز حديث يفتخر به، ما يجعل الثبات والامتداد مع الزمن، والبقاء ربما، هو مصدر الفخر الوحيد لدمشقي، مع ما يحمله في باطنه من أسئلة النجاة وأثمانها، وما يحكى عن الشوام بكونهم بناديق (أي أبناء اغتصاب الغزاة) وما يلحق بهذا الوصف من صفات المكر والاحتيال وإعلاء المصلحة الشخصية.
بالقرب منّا سكن الأبنية الجديدة دمشقيون متوسطو وميسورو الحال وآخرون من مناطق مختلفة من سوريا، غالباً ما كانوا يعملون في أجهزة الدولة. وبالنسبة للشوام كان جميع الآخرين فلاحين، من أينما أتوا ومهما كان ما يعملون فيه، فهم المضاد المقارن لهم والوافدون أبداً، الأمر ليس شأناً خاصاً بمهنة الفلاحة وإنما بدلالته من حيث الأصل الريفي، فهم بالنسبة للشوام من يتصفون بقلة الذوق والمعرفة بالأصول، الدين أحياناً، أو أي شيء آخر تقريباً يرغب الشوام بإلصاقه بهؤلاء الفلاحين. أتذكر مثلاً يقول: "الفلاح إذا تدمشق، مثل الحمار إذا تعمشق"، ويستبدل الفلاح بالحوراني أحياناً، مرادف الفلاح بالنسبة للشوام، "متل الفلاحين" أو "مفلّح" هي المذمة المستعملة بشكل واسع عهدته منذ الطفولة.
مسألة الحجاب، منع الاختلاط بين الجنسين، وخلع الأحذية عند الأبواب لطهارة المنزل تغدو قصص تندّر على تخلف الشوام أو فقرائهم وعنصرية لا تمارس واضحة، ولا يعلم بها كثير من الدمشقيين
في حارتي سكن كثير من القلمونيين، يسافرون في الصيف إلى الضيعة، الأمر الذي كان يثير الكثير من استغرابي حينذاك. كانت الضيعة بالنسبة لي مكاناً يشبه الغوطة التي نخرج إليها في السيران، وكنت أستغرب كيف يعيش الناس هناك! فما يعرفه الشوام من سوريا هو مدينتهم فقط دون ريفها، إذ تتمركز حركة التجارة في أيديهم فيتحول الريف إلى أماكن تصنيع وتخزين، أو اصطياف وتبضّع، وتنتهي الحكاية. لم يشغل الشوام أنفسهم بمعرفة ريفهم حتى اضطر أفقرهم للسكن في الغوطة بعد أن ضاقت المدينة بأسعار منازلها غير المعقولة. يسكن ورثة البيت الدمشقي الكبير في الريف ويشتري الأبناء بسعر منزل في المدينة شقة لكل منهم في الغوطة الشرقية أو الغربية. للوهلة الأولى يبدو الشوام هناك أكثر انفتاحاً كما يحلو لهم الادعاء، تحديداً فيما يتعلق بالنساء وتنقلهن في الطرقات بحرية. لكن تغيير شكل الأعراس في الغوطة من مختلطة إلى منفصلة الجنسين بمولد ديني للرجال واحتفال تعرّي بين النساء، تقليداً للعادات الشامية الأكثر "أكابرية"، والتي تحجز صالات مناسبات بدل أن تحتفل في ساحات يشترك فيها الجميع، ما ينبأ بالكبت والردة الاجتماعية. كما أن ربط شكل الحجاب بالتحضر، وبمقياس ومسطرة الشوام الخاصة للأمر، أي بحجاب ومانطو مستوحى من الألبسة الغربية، والسخرية ممن يرتدينه بطرق أخرى أو يتخذن لباسهن التقليدي، ليس إلا عداء للتراث وفوقية مدينية فادحة.
كون أهلي فقراء، ونساء العائلة يرتدين الحجاب والمانطو، كانت النساء اللائي يأتين من خلفيات دينية غير سنية وغير محجبات مثيرات لدهشتي وإعجابي، كنت أراهن أشبه بالممثلات في التلفاز أو الصور في المجلات، مما عنى بالنسبة لي أنهن أكثر شبهاً بالأجانب، وبالتالي أكثر جمالاً بالضرورة. هنا وقعت في التناقض مع النظرة المحيطة بي التي تفترض رؤيتهن بلا ذوق كونهن لسن شاميات، أي فلاحات، وكانت النتيجة أن خرجت بأوّل استنتاج اجتماعي لي وصرت أجاهر به في كل الجلسات العائلية: "كثير من الفلاحين يلبسون أفضل منّا". بطبيعة الحال تعرّضت للتقريع من أمي وخالاتي لرأيي بأن الخروج "سيفور" (بلا حجاب) يروق لي. لم أعلم عندها أن اللباس ليس الشيء الذي يفترض أن أقيّم الذوق عليه، ولم تعلم عائلتي بوجود شوام آخرين لا يشبهونهم يقطنون في المالكي ويخرجون بثياب تفوق تلك التي نراها حولنا سفوراً، ويدّعون بدورهم أننا كفقراء المدينة لسنا شواماً بقدرهم.
مسألة الحجاب، منع الاختلاط بين الجنسين، وخلع الأحذية عند الأبواب لطهارة المنزل تغدو قصص تندّر على تخلف الشوام أو فقرائهم وعنصرية لا تمارس واضحة، ولا يعلم بها كثير من الدمشقيين، كما لا يعلمون كم يكرههم الآخرون لاستغلالهم كل شيء، من السلطة التي يكرهون إلى الوافدين الذين يحتقرون، إلى كل شيء آخر. يعتقدون أنها فقط الغيرة ما تحركهم لأي شعور آخر سوى الافتتان والإعجاب بما يصدر عن الشوام. لربما ينظرون إلى حياة المسيحيين كشكل واضح لـ (الأكابرية) المتشبهين بالغرب، لكن نكران هذه النظرة لقلة وجود مسيحيين شوام إلا من القرى (عدا مسيحيي الميدان خارج السور بعد مجزرة 1860 التي تلت أحداث جبل لبنان وراح ضحيتها أكثر من خمسة آلاف من المسيحيين حسب أقل التقديرات) وانغلاق الشوام على سنيتهم، لهي أسباب تمنعهم من إجراء مقارنة واقعية بين أساليب الحياة المتوفرة أمامهم.
السنية الشامية في دمشق، هي فعل تنمري تمارسه أكثرية تمتلك السلطة الثقافية، وتلحق بكل ما تفعله صفة "الصح" تجاه آخر أقلّ يمتلك ببساطة طريقة أخرى في الحياة
السنية الشامية في دمشق، هي فعل تنمري تمارسه أكثرية تمتلك السلطة الثقافية، وتلحق بكل ما تفعله صفة "الصح" تجاه آخر أقلّ يمتلك ببساطة طريقة أخرى في الحياة، هم استطاعوا حتى فرض تغييرات على النظام البعثي غير الراغب بتسنين المجتمع على طريقتهم بادئ الأمر، وتمكنوا من تحصيل امتيازات لم تمنح تقريباً إلا لهم، تلاحظ ذلك في عدد وزمن إنشاء المدارس الخاصة والمعاهد الإسلامية المنتشرة في دمشق، حيث يغدو للمال والعصبية والسلطة الإلهية قدرة على الوقوف في وجه العسكري الوافد، مجبرة حتى رئيس الدولة على مداهنتها وادعاء طريقتها وتكريسها، ومحاباتها في صلاة العيد كل مرة.
تدرس السنية الشامية بطرقها الأقرب للصوفية على أنها وحدها الإسلام في مناهج الدراسة وتظهر في الإعلام ويعتم على كل ما غيرها، وتنشر عن الآخرين ما شاء لها، غير عارفة إلا نفسها، مكتفية بجهلها مفتخرة به. فخورون هم الشوام بطريقة عيشهم كل مرة، وكل ما يقلدون أهلهم بفعله أو يتبنونه حديثاً هو (الأصول) والطريقة لفعل الأشياء، من الطعام إلى اللباس فاللهجة إلى ما شاء الشوام. من أغرب التصورات الاعتقاد بأن لهجتهم وحدها هي طريقة الكلام، فيسخرون من كل طريقة حديث مختلفة، وكأن هناك لهجات خير من أخرى!
استملاك الحق والدفاع عن الاستمرار خلط الحابل بالنابل، وجعل قضية مثل عسكرة الدولة، تتحول إلى طبقية ريف ومدينة وأكثرية سنية وأقليات، فانكمشت الهوية السنية الشامية على ذاتها متصلبة وعائدة إلى الوراء ومتمسكة بكل قديم، كأكثر شكل ممكن لبدائية العداء، لا بل إنها لم تتمسك حتى بموقفها المشين ذاك، وزادت في قصر نظرها لتتحالف عناصر عديدة منها مع النظام القائم وتؤسس لمصالحها عبره، في براغماتية فاضحة، تنكر حتى قيمها ذاتها، وتأخذ شكل الاستعلاء والفوقية لذلك.
اللقاء مع الأخر المختلف
في المرحلة الإعدادية التقيت بأول زميلة علوية وأخرى شيعية، وبدأت بعض النقاشات التي ترسم لي صورة أخرى لتلك المكانة المفترضة التي كنت مرتاحة إليها من قبل، والدم الأزرق الذي يعتقد الشوام أنهم يحملونه بالولادة. أخبرتني صديقتي العلوية أننا سنّة، ولم أكن أعرف ذلك حتى، فنحن المسلمون وفقط، باحتكار جاهل لكل ما عدانا. وقالت أننا "قتّلناهم"، لأذهب لأبي ومرجع معلوماتي المتاح عن العالم حينها بهذه الاتهامات، اذ كيف يمكنني تصديق أي شيء سيء بحقنا؟
"العلويات جميعهن شراميط" كان رد السيد الوالد بسكوت مختار عن مظلومية علوية تمتد لأيام العثمانيين واستبدال استغلال طبقي طويل من أهالي المدن السنية لأريافها بتجريم ضحايا قاصرات. وللأسف لم أمتلك آراء عن تلك الخاصة بأهلي لسنوات الجامعة والحصول على مصادر تفسّر شيئاً من كثير من المتجاهل من حولي.
أصبحت في الجامعة علمانية، وتعرفت على الأكراد، ودهشت من معرفة أهلي بهم وتصنيفهم كشحاذين ونادلي مطاعم ومقاهي إن كانوا من الجزيرة والشمال، رغم أنّ من عرفتهم كانوا شعراء ومناضليين سياسيين أكثر ثقافة من كل من عرفت في عائلتي
قصتي مع زميلتي الشيعية كانت مختلفة، وفيها صفاقة الأكثرية بادية، إذ وجدت على دفترها عبارة (لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار) وتحتها كتبت الشهادتان، فما كان مني إلا وعظها بصوت عالٍ أن عليها تبديل مكان العبارتين والبدء بالشهادة، لتخبرني أننا نكتبها هكذا، لأعترض عن السؤال "من أنتم، ألستم مسلمين؟"، وأحتكر الحقيقة وأصر على أنها على خطأ، فتضيف صديقة أن زميلتنا شيعية. سبّب لها هذا إقصاءا غير معلن، حيث بدأت الهمزات حول صيامها في رمضان وإشاعات كثيرة حول كفر الشيعة وعبادتهم لعلي دوناً عن الله، وخزعبلات شبيهة عمّن يسمّون الإسماعيلية وعبادتهم للفرج، والدروز والعجل، والمرشدية وليلتهم المظلمة التي يمارس فيها الأخ الجنس مع أخته دون أن يدري.
أصبحت في الجامعة علمانية، وتعرفت على الأكراد، ودهشت من معرفة أهلي بهم وتصنيفهم كشحاذين ونادلي مطاعم ومقاهي إن كانوا من الجزيرة والشمال، رغم أنّ من عرفتهم كانوا شعراء ومناضليين سياسيين أكثر ثقافة من كل من عرفت في عائلتي. ورؤيتهم على أنهم حشاشون وتجار سلاح إن كانوا من دمشق، رغم أن من عرفت من عائلات ركن الدين تفوق عائلتي في كل شيء، من التعليم إلى القدرة المادية، إن رضيت بصراع الامتيازات هذا طريقة للمقارنة. وتعرفت على الفلسطينيين اللذين يملكون سمعة (الزعرنة) نفسها، لكنهم أقرب إلى فقراء المدينة في كثير من الأشياء، ولم أعلم لم عليّ أن أشعر بالدونية لحبي أحدهم من قبل من حولي من شوام! اللذين يستسهلون قولاً مثل (فلسطيزي) غير مفهوم الإساءة إلا على أساس الكراهية لكل آخر وفقط.
تقية مستترة
أوصاف السوق شيء آخر، يمارس فيه التجار فوقيتهم بتقية مستترة، يوصف العلوي بالألماني ومعناها أنه ابن زنا الفرنسيين بأمهاتهم، ويوصف الدرزي بالعجل، استمراراً في رفض الاعتراف أو التعرف على ديانات الآخرين وتسخيفها، ويجمع كل ما ليس يعجبهم بوصف (حكومة عدس) أي أن العاملين في الدولة هم من العلويين والدروز والإسماعيليين الفلاحين الفقراء، مع أنهم، أنفسهم الشوام، يسارعون إلى استخدام (القاف) واضحة عند الحاجة والرغبة، استقواءً بالسلطة التي يحتقرون!
يتفاعل التاريخ القديم، السياسة وتغييرات الديموغرافيا كلها في نسج علاقة الشوام بغيرهم، وببعضهم تنخر علاقات الفقر والغنى، ويفقدون فرصتهم في التعرف على ثقافات وصلت حتى عندهم، غيّرت وجعلت من مدينتهم أكثر مدنية، لاختيارهم أن ينظروا لكل آت كمحتل، ثم ينسجوا علاقات مصالحهم مع المحتلين الحقيقيين، فيثبتون مظلوميتهم الحقيقية، ويغفلون جوانبها الإيجابية، ويتعالون دوماً خاسرين، لا غاية لهم إلا العيش والاستمرار، ووجودهم غير مؤثر إلا كشركاء لنظام مستغل.
"هذه البلد مو إلنا" جملة تسمعها من كثير من الشوام مع إحساس عالٍ بالغبن، هي معاناة سببها كون مدينتهم العاصمة التي تنحصر فيها كل الفرص والخدمات، ومؤدى ذلك من تزاحم على المسكن والعمل بالدرجة الأولى، لكنها تبقى مظلومية ساقطة إذ تستعظم هذه المجموعة البشرية نفسها ولا تنظر إلى غيرها بنفس الندية والاستحقاق، فلا تستطيع تغييراً لمصيرها، ولا تمر بتجربة صحية مع غيرها مكتفية بالكراهية وحدها. أقلية في مدينتها تتحلل مع الزمن لتنتج مع الحرب الأخيرة نموذجاً للتشوه والإنكار.