(ينشر هذا المقال ضمن ملف يتناول الثقافة الشفوية في سورية، بالتعاون والشراكة مع موقع نوى على أوبن ديموكراسي، في محاولة لفهم جذور الطائفية والقومية وغيرها في سورية)
لم يكن مصطلح الطائفية بمعناه النظري جزءاً من وعيي يوم انتقلت من قلعة الحصن إلى حي الزهراء ذي الأكثرية "العلوية" في حمص لأبدأ رحلة دراستي الجامعية. كذلك لم يكن "الحب" بمعناه المعاش، وكان لعام ٢٠٠٣ أن يكون موعدي مع كليهما.
المعادلة تبدو بسيطة؛ فتاة سنية في التاسعة عشرة من عمرها، مفرطة التهذيب على طريقة الأمهات اللواتي نعرفهن جيداً في سوريا. كان "إبراهيم" فرحاً مباغتاً وسخياً، لم أجربه سابقاً. كان في الثالثة والعشرين من عمره، وجه بلون القمح وعينين خضراوين، وابتسامة كنت أراها حينها الأجمل على الإطلاق. كانت كلمة "بحبك"، وهي حلم الكثير من الفتيات، أشد وقعاً عليّ مما كنت أردّده صباح مساء من صلوات، وقرّرت أن أفصل بين تديني السني، وبين "بحبك" التي يلفظها حبيبي "العلوي".
كان يحاول بدوره أن يستغني بوجه حبيبته "السنية" عن صرامة تعاليم الطائفة، متجنّباً في كل لقاء لنا الحديث عن أي ما يمت بصلة للدين، محاولاً الانشغال وإشغالي أيضاً عن التفكير بمستقبلنا. وبعد مرور أشهر اصطحبني لزيارة أهله في إحدى قرى ريف حمص الشرقي. غاب والده عن استقبالنا، الرجل السبعيني الذي عاش تحت سقف الطائفة، لم يستطع رؤيتي في بيته، فأتاح لنا الزيارة وغاب، فيما احتشدت بقية العائلة، إخوته السبعة ونساؤهن وأطفالهن، وبالطبع أمه، لرؤية جرأة فتاة سنية ومحجبة في أقصى تجلياتها، أو معايشة الحدث الذي قد يكون الأكبر في تاريخ العائلة: الابن الشاب والحبيبة السنية.
خذلت أبي في هذا الانفتاح الجائر على طائفة نخافها، نخاف تسلّطها، نردّد حكايات التشبيح والسطو والفساد عن كثيرين من أبنائها، نعرف حدودنا في "المواطنة" معهم، نعرف أننا نليهم بمراحل في الأهمية، وفي محيط سني خاضع، يشعر بالدونية المواطنية ليس تجاه العلوي فقط، بل تجاه مختلف الطوائف الأخرى، ولا سيما محيطه المسيحي الواسع في وادي النصارى.
قضينا شهوراً بعدها، كنّا نمشي في حي عكرمة بحمص، نناقش مستقبلنا بسذاجة: كيف سيكمل علوي وسنية الطريق؟ وكان إبراهيم يقول إنه مستعد لأن "يتسنّن" لو اضطر، وكنت مقتنعة أنه قد يفعل، استناداً إلى قناعتي أنّ التحول الديني الصحيح هو من أي طائفة باتجاه الإسلام السني!
كنت أتابع خططي لتحول إبراهيم إلى الطائفة السنية بجمع الأدعية والأذكار التي أردّدها كل يوم في دفتر أنيق، وكانت لملامح إبراهيم صورة واحدة في ذهني إلى أن أهديته الدفتر ذاك، لتظهر لأول مرة ملامحنا الطائفية حين يطلب مني أن أعود لألاقيه وأستعيد هديتي دون التفكير بإهدائه مثلها مرة أخرى. لم يكن الدفتر يحتوى إلا على تسابيح وأذكار يومية، لكنه كان السبب الأول لفتح نقاش لا متناه بيننا عن هوية محمد وعلي وطبيعة العلاقة بينهما حسب ما توارد إلى مسامعنا من المحيط الديني لكلّ منا.
قبلت، وفكرت فقط بالحب، الذي عليّ أن أناور على جبهة جديدة للاحتفاظ به؛ جبهة عائلتي السنية المحافظة (اجتماعياً على الأقل).
كانت أزمة أمي كبيرة جداً حين صدمت بابنتها (طالبة الجامعة) وقد وقعت في الحب، و"فلتت"، فيما كان موقف أبي مختلفاً جداً من القضية. أبي لم يكن معنياً بأني أحببت بل بطائفة حبيبي. ما زلت أذكر عبارة "علوي يا بنت الكلب؟" يطلقها بغضب واستنكار لم أعرفهما فيه من قبل. لقد خذلت أبي في هذا الانفتاح الجائر على طائفة نخافها، نخاف تسلّطها، نردّد حكايات التشبيح والسطو والفساد عن كثيرين من أبنائها، نعرف حدودنا في "المواطنة" معهم، نعرف أننا نليهم بمراحل في الأهمية، وفي محيط سني خاضع، يشعر بالدونية المواطنية ليس تجاه العلوي فقط، بل تجاه مختلف الطوائف الأخرى، ولا سيما محيطه المسيحي الواسع في وادي النصارى.
حتى سن التاسعة عشرة، كان تجلّي الطائفية في ذهني أكثر لطفاً، مقتصراً على الفروق بيننا وبين محيطنا المسيحي في ريف حمص الغربي، كنّا كأقلية جغرافية سنية نشعر بالدونية تجاه المسيحي (الأنظف والأكثر تهذيباً والأذكى والأغنى والمدعوم أكثر من النظام). ما أشد ما تنامت هذه المظلومية داخلنا، وأشد ما اقتنع كثيرون منا بها، مصرين على أنّ الآخرة لنا، وأنّ الآخرين، كل الآخرين على ضلال، لدرجة أنّي أذكر جيداً أول مرة دخلت فيها دير مار جرجس في المشتاية، أثناء رحلة مدرسية، وكنت حينها في الثامنة، اقتربت مع ابنة عمي من جدران الدير، وبدأنا نقرأ الفاتحة، لكثرة ما تردّد على مسامعنا أن حجارة الكنائس تحن لسماع القرآن وذكر الله!
لم تكن القصص لتنتهي هنا، فكلّ المعلمات اللواتي وضع "الخوري" الزيت على وجوههن على شكل إشارة صليب، قضين يومين من الصداع الشديد، باستثناء المعلمة التي نجت من هذا "البهتان" ولم تقبل أن يضع الخوري صليب الزيت على جبينها!
استعادة ذاكرتنا عن الآخر السوري اليوم لا تشكل الدليل على تجذر الطائفية فحسب، بل تفتح باب الخروج من شعارات "الشعب السوري الواحد" إلى توازن هوياتي أكثر صدقاً، يبدأ بالاعتراف بالاختلاف وأحقيته وضرورته، وينتهي عند محاولة تشكيل قناعة بوجود نزاع سوري سوري، مردّه الأول الطائفية وحله الوحيد قبول التنوع الطائفي على الصعيد الاجتماعي على الأقل
استعادة هذه المواقف اليوم تحيي في ذاكرتي أمثال جدتي ونساء العائلة، من مثل "خلي يطلع بزغرتا مؤذن" حين يتميز شخص ما داخل محيط نمطي، إلى "جيّشي يا عيشة" حين تكيد إحدى النساء، وهو مثل كانت تردده جدتي نصف اللبنانية، التي عاشت سنوات في حي شيعي بلبنان، ولو أنها فكرت به كسنية لما تلفظت به. وتحيي كذلك ذاكرتي عن زيارتي المتكررة لأختي التي كانت تعيش في مساكن طفس للضباط في درعا، ورؤية الطائفية "المستترة" وراء الخوف في الفضاء السوري العام، تتجلى بوضوح هناك، في بنية أقرب ما تكون لتراتبية امتيازات يحددها الانتماء الطائفي وحده، وعلى رأسه أن تكون "علوياً".
السنيات والإسماعيليات من زوجات الضباط أقرب لبعضهن من الأخريات، يعرفن حجمهن جيداً ويتعاطين على أساس هذا الحجم. ومع ذلك تبقى العلاقة بالجارة العلوية امتيازاً كلما ارتفعت رتبة زوجها. لا أنسى إحدى جارات أختي ممن أحببنها لدرجة أنها اعتبرت بيتها "بيت الله وأنا كل يوم بدي حج" لم تتورع، أو ربما لم يتورع لا شعورها، من توبيخ طفلتها أمامنا بالقول: "روحي يقطعلك هالوجه متل وجه أبو بكر".
كل ذلك يحيل إلى واقع تجذر الطائفية فينا، وإن كنّا تجاهلنا هذا الواقع بجهل التسمية وانعدام التداول، فإنّ استعادة ذاكرتنا عن الآخر السوري اليوم لا تشكل الدليل على هذا التجذر فحسب، بل تفتح باب الخروج من شعارات "الشعب السوري الواحد" إلى توازن هوياتي أكثر صدقاً، يبدأ بالاعتراف بالاختلاف وأحقيته وضرورته، وينتهي عند محاولة تشكيل قناعة بوجود نزاع سوري سوري، مردّه الأول الطائفية وحله الوحيد قبول التنوع الطائفي على الصعيد الاجتماعي على الأقل.