بعد وصولي الى ألمانيا بوقت قصير شاركت في جميع اللقاءات التي كان يجريها أحد المتطوعين لمساعدة اللاجين في قرية اسمها (Haidmüle) التابعة لولاية بافاريا، وتقع على حدود التشيك.
في أحد اللقاءات بين مجموعة من اللاجئين السوريين ومجموعة من الألمان، وزّع منظّم اللقاء، السيد فرانز كيس، على الموجودين ورقة تتضمن مجموعة مفاهيم وقيم علينا ترتيبها بحسب أهميتها في الحياة بالنسبة لكل شخص، من هذه المفاهيم: الشرف، العدل، العلم، حب المساعدة، احترام القانون، الدين، الأخلاق...
تعددت إجابات الألمان ورتبوا مجموعة القيم هذه بشكل متنوّع، كل بحسب قناعاته وثقافته، بينما أغلب السوريين (كنّا حوالي ثلاثين شخصا من مختلف الأعمار اثنا عشر سوريا والباقي ألمان) المتواجدين في القاعة كتبوا في أول القائمة: الدين، أي أنّ الأولوية في حياتهم للدين. وفي سياق اللقاء نفسه، وجّه السيد كيس أيضا سؤالا لسيدة سورية: عندما تكبر ابنتك وتريد ارتداء تنورة قصيرة ما هو موقفك؟ تجيب السيدة بالقول: أحاول إقناعها بألا تفعل ذلك لأنّ ديننا لا يسمح بهذا الشيء. كرّر السيد فرانز السؤال مضيفا: وإن لن تقتنع؟ تقول السيدة السورية: أحاول منعها بمختلف الوسائل!
الطريف أن هذه السيدة متزوجة زواجاً عرفياً، قام بإجرائه رجل دين في ميونيخ، من رجل لديه ثلاث نساء أخريات، حيث توفي زوجها الأول في سياق الحرب الأهلية السورية.
وفي لقاء آخر، حاول لاجيء سوري من دير الزور تبرير كره اللاجئين للحيوانات الأليفة، وخاصة الكلاب اعتمادا على أحد الأحاديث التي قالها الرسول محمد: "مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ وَلا مَاشِيَةٍ وَلا أَرْضٍ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ قِيرَاطَانِ كُلَّ يَوْمٍ".
وفي مواقع التواصل الاجتماعي تحتدم النقاشات اليومية حول قضايا تتعلق بالاندماج في المجتمع الألماني والغربي عموماً، وخصوصا في الصفحات التي تعنى بشؤون اللاجئين كما في صفحة "البيت السوري في ألمانيا" على سبيل المثال.
كثير من المشاركين في النقاشات والتعليقات على البوستات يتمحور حديثهم على جوانب تتعلق بالدين الإسلامي وبالهوية.
لنتأمل هذا البوست في صفحة البيت السوري في ألمانيا، وهو لشخص لاجيء يدعى محمود عثمان (Mahmut Alp Osman): "الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات. على أعتاب السنة الثالثة لزواجي من فتاة نمساوية تصغرني بـ 8 سنوات، كانت ملحدة والله أتم نعمته علينا وأسلمت وتحجبت وحَسُن إسلامها. ما زلت أذكر يوم عقد نكاحنا عندما طلب منها الشيخ أن تطلب ما تريد كمقدم لزواجنا، طلبت مني يومها أن أعلمها سورة الفاتحة، ولكن الشيخ أبى ورفض إلا أن تكتب شيئا مادياً، فأخذت القلم من يده وكتبت 1 يورو مقدّم ومثله مؤخر، ولم تطلب مني ملبس بدن أو ذهب أو فضة أو أحمر أو أزرق. 3 سنوات ولم أسمع منها أف أو رفض، 3 سنوات ولم تكن إلا كما يحب قلبي وأكثر، اللهم إني أشهدك أمام عبادك أنني رضيت عنها، أسأل الله أن يتم نعمته وجزيل فضله علينا، وأسأل الله لكل من أراد زواجاً حلالاً أن يقدّم الخير له".
إنّ الأولوية لقسم من اللاجئين هي الحفاظ على الدين، وغالبا ما تتصف النقاشات على وسائل التواصل الإجتماعي بالتشنّج، وبالتهم المعروفة من تخوين وتكفير وتهديد وشتائم، والتي هي امتداد لحالة الصراع المركب والمعقد في سورية.
بعض المسلمين لا يعتد بالأوطان، فوطن المسلم هو دينه، ومن هنا ينتج الإشكال المتعلّق بالهوية والتناقضات التي يعيشها المسلم بين نصوصه التي يراها مقدسة وبين متطلبات حياته وعيشة وواجباته حيال البلد المقيم فيه!
كما يلاحظ المتابع هنا، أنّ بعض اللاجئين (الذي ذاق المرارة للوصول إلى أوروبا وواجه الموت مرات عديدة) بعد وصوله لبر الأمان الأوروبي يغالي في طقوسه الدينية أكثر مما كان في بلده الأصلي بكثير، سعياً منه للتمسّك بهويته الدينية المفترضة وصولا إلى إجبار أطفاله (4 سنين و3 سنين) على ارتداء الحجاب، والصيام أحيانا، في ظروف ربما هي في منتهى الصعوبة للكبار، فما بالك للصغار حيث يمتد النهار هنا لأكثر من 17 ساعة!
من ناحية ثانية، يتهرّب الكثيرون من دورات اللغة بحجة صعوبة اللغة، أو هربا من استحقاقات العمل بعد انتهاء دورات اللغة، أو لعدم استطاعة البعض تعلّم لغة جديدة نظرا لأنهم بالأساس لم يدخلوا مدارس في سورية.
صدام ثقافات!
وبعض اللاجئين لا يكتفي بالتهرّب من واجباته في بلده الجديد، لا بل يحاول فرض ثقافته الخاصة على المجتمع الغربي، فزميل لي أفغاني في دورة اللغة، تساءل: لماذا لا تمنع الحكومة الألمانية العناق والقبل في المحطات أو الشوارع... فهذا برأية عيب وحرام وفسق؟!
استغربت المعلمة من السؤال، وأكدت على قدسية حرية الفرد وحماية القانون لها بشرط عدم أذية الآخرين. يومها علقت أنا: وهل مشهد تبادل الرصاص والقتل بالسكاكين وارتكاب المجازر كما في سورية وأفغانستان أفضل وأجمل من العناق وتبادل الحب!
كما أنّ البعض يصرف الكثير من وقته وجهدة في البحث عن الطعام المناسب له ولعاداته متسلحاً بثقافته السابقة التي نشأ عليها، والتي يغلب عليها المفاهيم الدينية (هذا حلال وهذا حرام...)، والمتضمنة الكثير من المتناقضات التي تكرّست عبر مئات السنين.
والملفت أنّ أصحاب المحلات التركية والعربية صاروا يكتبوا على كل السلع (حلال)، فحتى الملوخية في المحل التركي في مدينة باساو مكتوب عليها حلال! والهدف هو تسويق منتجاتهم وجذب أكبر عدد ممكن من الزبائن.
من ناحية أخرى، يصف قسم كبير من اللاجئين المجتمع الذي احتضنه بالفسق والانحلال ومختلف الصفات الأخرى التي تستهجن ثقافة وعادات وقوانين الغرب. لا بل تصل الأمور، أحيانا، حدّ الرغبة بأن يصبح المجتمع الغربي "مثلنا"، أي على المضيف أن يرضخ لثقافة الضيف ويعترف بتفوق قيمه. حيث يحمل هذا البعض عقيدة تتمركز حول مبدأ "نحن خير أمة... وديننا هو دين الله"، وبأن ما نحمله من قيم وعادات هو أفضل مما يحمله الآخرون، وبالتالي عليهم تقديم الطاعة والولاء لنا!
أصحاب المحلات التركية والعربية صاروا يكتبوا على كل السلع (حلال)، فحتى الملوخية في المحل التركي في مدينة باساو مكتوب عليها حلال! والهدف هو تسويق منتجاتهم وجذب أكبر عدد ممكن من الزبائن.
هذا الأمر يغذيه الدعاة والمرجعيات الدينية المدجّجة بالإيديولوجية الدينية، والذين أممّوا الدين وألغوا جانبه الروحي النقي كونه علاقة سمو وتصعيد روحي بين الإله والفرد. هذا الجانب الذي هو محور أساسي في الدين، تمّ تغييبه، فأم حسان تسكن في ريف مدينة باساو مثلا، تمتدح يوميا الألمان وكرمهم وإنسانيتهم لكنها، دوما تضيف "والله مو ناقصهم غير إنهم يكونوا مسلمين"!
وهنا لا بد من طرح سؤال يلح كثيرا في أوساط اللاجئين وهو: ماذا لو تناقض قانون ما في البلد المضيف كألمانيا مثلا، مع القناعات الدينية المبنية على فتاوى بعض الفقهاء (قديما وحديثا) ممن أنتجوا القاعدة الفكرية للتطرف، والتي تغذي المناهج المدرسية في بعض الدول وبعض وسائل الإعلام والتنظيمات الراديكالية أو مع قوانين مستمدة من الشريعة، معمول بها في البلدان العربية؟
مثلاً، يحذّر أحد البوستات في صفحة تعنى باللاجئين في ألمانيا اللاجئين من بعض التعاملات المالية في البنوك ويعيدها لمسألة الحلال والحرام والربا!
زوجة واحدة وعدّة صديقات!
ومثال آخر، الزواج المتعدد في أوروبا، فالقوانين لا تعترف ولا تسمح أصلا بتعدّد الزوجات، وبالتالي كثير من حالات الزواج هي خارج القانون وغير مسجلة في الدوائر الرسمية، مما ينتج عنه مشكلات كثيرة قانونية واجتماعية. وسعيا للفوائد المادية يلجأ كثيرون، وبشكل حتى مخالف لعقيدتهم الإسلامية، بأن يخفوا زواجهم من عدّة نساء، مدّعين أنّ الأخريات صديقاتهم، فقسم من اللاجئين لديهم أولاد كثر، ومن أكثر من امرأة، وباعتبار أنّ هناك راتب للأطفال (Kindergeld)، فالحصيلة لهؤلاء تكون مجزية ماديا.
ومن المفاهيم السائدة بين أغلب الشباب المسلمين في ألمانيا وأوروربا عموماً، هي عدم الزواج من أوروبيات لكونهم مسيحيات وعاداتهم وأخلاقهم لا تتناسب مع منظومة القيم الإسلامية. وبنفس الوقت لا يضير الشاب المسلم أن يقيم علاقة صداقة وجنس مع ألمانيات لكن بشرط ألا تنتهي بالزواج.
وبعض من تزوّج من ألمانيات مثلا، كان الهدف من هذا الزواج الحصول على الجنسية. فمثلا أحد معارفي تزوج من ألمانية مدّة خمس سنوات، وبعد حصوله على الجنسية طلّق امرأته وتزوج إحدى قريباته من سورية، ورغم إلحاح الزوجة الألمانية على إنجاب طفل رفض الزوج ذلك، لأنه لا يريد إنجاب أي ولد من إمرأة مسيحية!
من الأمثلة التي تدعم فشل غالبية المسلمين لأن يكونوا أعضاء منتجين في المجتمع الجديد، هو تهرّب قسم منهم من العمل والبقاء على معونة البطالة التي يقدمها شهريا الجوب سنتر، لأنهم يعتقدون أنّ الله سخّر لهم الكفار في الغرب ليدفعوا لهم المال كجزية للمسلمين!
وكلنا تابع المعركة الاعلامية مؤخرا بين رئيس اتحاد كرة القدم الألماني واللاعب المعروف، مسعود أوزيل، وقضية صوره مع الرئيس التركي أردوغان، فحتى الآن ورغم ولادة أوزيل في ألمانيا، فهو يشعر بانتمائه لتركيا وليس لألمانيا التي عاش فيها وأصبح نجما فيها، فالرباط الديني هنا تفوّق على الرباط الوطني والإنساني، ووصل الأمر بأوزيل أن يتهم الألمان بالعنصرية رغم ملايين المهاجرين واللاجئين الذي استقبلتهم ألمانيا! وهذا دليل فاقع عن صعوبة اندماج أغلب المسلمين في المجتمع الجديد واحترام منظومته الأخلاقية.
ومن الأمثلة التي تدعم فشل غالبية المسلمين لأن يكونوا أعضاء منتجين في المجتمع الجديد، هو تهرّب قسم منهم من العمل والبقاء على معونة البطالة التي يقدمها شهريا الجوب سنتر، لأنهم يعتقدون أنّ الله سخّر لهم الكفار في الغرب ليدفعوا لهم المال كجزية للمسلمين!
والجدير بالذكر هنا، أنّ بعض المسلمين لا يعتد بالأوطان، فوطن المسلم هو دينه، ومن هنا ينتج الإشكال المتعلّق بالهوية والتناقضات التي يعيشها المسلم بين نصوصه التي يراها مقدسة وبين متطلبات حياته وعيشة وواجباته حيال البلد المقيم فيه!
ما سبق، يفسر كما أعتقد، صعوبة الاندماج في المجتمعات المضيفة لمئات الآلاف من اللاجئين، حيث يسعى اللاجئ لصنع (جيتو) مع أقربائه وأهل بلده، وهذا ما يفسّر أيضا رغبة الأغلبية في الانتقال من مكان سكنهم الذي اختارته لهم مؤسسات الهجرة إلى أمكنة أخرى يتواجد فيها عرب وسوريين أو مسلمين، (وهناك أمثلة واضحة مثل حي مولنبيك في بروكسل وبعض أحياء باريس، والتي أدت لتفريخ ظواهر إرهابية نتيجة فشل سياسيات الإدماج والاندماج)، مما يؤدي للقوقعة خوفا على الهويه كوسيلة دفاع تتخذ الغلو في الطقوس ومظاهر التدين التي تتغلب على عفوية وضمير الانسان والقيم الإنسانية.
ولكن هل تتدخل المؤسسات الغربية والحكومات المضيفة للاجئين في خصوصيات وأديان اللاجئين؟
بالنسبة لمؤسسات الهجرة وحكومات البلدان الأوروبية، الاندماج يعني ثلاث قضايا فقط، وهي تعلّم اللغة والعمل واحترام القوانين والأنظمة فقط. وهذا ما تؤكده يومياً، عشرات المقالات والنقاشات التي تدور في مواقع التواصل الاجتماعي والصحف وبرامج الاندماج، أي لا أحد يتحدث عن أمور الدين وضمير الإنسان، فقوانين وثقافة الغرب تركز على الإنسان بغض النظر عن الدين والجنس واللون، فهذه من خصوصيات الإنسان، ولا أحد يتحدث عن شكل اللباس أو الحجاب. وهذه الأمور يحميها القانون في كل الدول العلمانية، وهناك آلاف المسلمين يعيشون في الغرب من عشرات السنين، ويعملون ويدفعون الضرائب ويتحملون مسؤولياتهم ولهم حقوقهم ككل الناس دون تمييز، ويحترمون القوانين ويتمتعون بسلوك حضاري، ووصل بعضهم لمراكز القرار دون أن يتخلّوا عن دينهم أو ثقافتهم أو عاداتهم، حيث تتمتع هذه المجتمعات بتنوّع كبير في الثقافة والأديان ضمن إطار مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان، حيث يستطيع الإنسان أن يختار ما يناسب قناعاته كما يستطيع تبديلها وقت يشاء، وهذا محمي بالقانون بشرط ألا يضر بالمجتمع أو يهدد كيانه.
من هنا نرى أنّ من يحمل إيديولوجية دينية مدججة بمفاهيم الخوف من الآخر والحفاظ على هوية زائفة لا تمت إلى الهوية الحقيقة الإنسانية بصلة، لن يستطيع التكيّف مع المجتمع الجديد مع الحفاظ على خصوصياته الثقافية، وسيبقى كنقطة الزيت في الماء تطفو على السطح كجسم نشاز.