لم يصعد "علي" إلى الحافلة الأخيرة


هل كان "عليّ" ضحية القدر أم ضحية أفعاله في جيش النظام السوري أم ضحية الاستبداد أم مجرد ضحية من ضحايا الحرب اللعينة التي طالت السوريين دون تمييز؟ لا يهتم أبا علي اليوم ولا أمه بفهم ما جرى ولا بأسبابه، كان يهمهما أن يريا علياً عريساً لديه أولاد يلعبون بالقرب منهم لا أكثر ولا أقل.

09 تشرين الأول 2018

(لوحة رسمت خصيصا لهذه الحكاية/ خاص حكاية ما انحكت)
حازم مصطفى (اسم مستعار)

كاتب وصحفي سوري مقيم في اللاذقية

(هذه الحكاية نتاج تعاون بين راديو سوريالي وحكاية ما انحكت. يمكنكم سماع الحكاية على برنامج حكاية وانحكت)

حين سقط مقر قيادة الفرقة العسكرية السورية المعروفة باسم الفرقة 17 لم يتوقع "علي"، العسكري المجند فيها منذ سنوات أنه سيكون أحد الناجين من مجزرة بدأها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عصر ذاك اليوم. نجح الشاب الجامعي، صاحب السنوات الـخمس وعشرين وخريج اللغة الإنكليزية بالاختباء في برميل "الزبالة" واضعاً فوق رأسه كرتونة مليئة بقشور البيض.

مضت ساعات ثقيلة وهو مكوّر في البرميل، لم تستطع الرائحة القوية النفاذة والفاسدة للبيض والمواد الأخرى فوق رأسه إبعاد عقله عما يدور بالقرب منه: صراخ قريب يعلو فجأة ويختفي بعد ثوان، أوامر يتردّد صداها في الجو بلغات مختلفة، منها العربية المكسّرة، إطلاق نار بعيد، صوت رصاصة تمر فوق البرميل، وأخرى تصطدم بالحائط القريب، في قلبه يدعو لله أن يهبط الليل فجأة ودون قمر، فالقمر هذا الشهر  )تموز 2014) سيكون شريكاً في قتله، هذا إن تمكن من الفرار بجلده بعد انتهاء المجزرة. هكذا فكر.

لم يتذكر "علي" أنّ بجيبه هاتفاً خلوياً يمكنه كشف وجوده في حال فكر أحد من أهله أن يتصل به. لحسن حظه في تلك الساعات كانت الشبكة السورية خارج نطاق التغطية. بعد ثلاث ساعات وأكثر انتهت المجزرة التي لن يكشف عنها شيء إلا بعد مرور أربع سنوات من لحظة سقوط مدينة الرقة السورية بيد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بعد معارك مع قوات المعارضة السورية التي دخلتها بعد معارك هي الأخرى مع القوات النظامية للحكومة، مع انتهاء المجزرة التي أودت بحياة 160 عسكرياً سورياً على الأقل، غادر مسلحو داعش إلى مكان آخر.

خمّن علي أنّ الليل قد حلّ منذ أكثر من ساعتين، تشجّع قليلاً وتحرّك بعد أن خيّم صمت على المكان، وللأمان رفع الكرتونة فوق رأسه وحدّق في المكان، الجثث تملأه، ولكن لا وقت لأي حزن أو أسى. هي بعض الجثامين التي يعرف أصحابها، لا أحد في المكان، خرج من برميله بهدوء حذر وأكمل طريقه ملتصقاً بالحيطان الباقية، وعبر أحد المنافذ التي فتحتها قذيفة هاون في الحائط قفز خارج الكتيبة ليصبح في الأرض الزراعية، كان عليه أن يخمّن اتجاهاً آمناً، توّكل على الله للمرة المليون واتجه شمالاً، كانت تلك هي الرقة التي سيدخلها ليلاً بعد يوم من المشي ليلاً والاختباء نهاراً.

في الرقة

يقع مقر قيادة الفرقة 17 على بعد حوالي واحد كيلومتر عن مدخل المدينة من جهة دوار السنبلة، الشهير بدوار الصوامع، وهو دوار استخدمه تنظيم داعش لاحقاً لإرهاب الناس عبر تعليق رؤوس المخالفين على سوره. قرب هذا الدوار وصل "علي" مشياً في الثالثة صباحاً، كان المكان فارغاً إلا من بعض الرؤوس المعلقة على السور المعدني للدوار.

فكّر الشاب الجائع ماذا يفعل في مكان قد يتحوّل بين ثانية وأخرى إلى مكان للقتل والموت! في تلك اللحظة التي تساوى فيها الموت والحياة أكمل الشاب مشيه بعيداً عن الساحة، داخلاً في أحد الشوارع الفرعية، سمع صوت سيارة تقترب فدخل بوابة إحدى البنايات بسرعة البرق، لم يكن هناك وقت للتفكير، فقرع باب إحدى الشقق.

لمرّة يتدخل القدر، فتح صاحب البيت بابه ودون كلام حدّق في ضيفه الصباحي الثقيل، مشيراً له بالدخول بصمت. عشرات الأفكار ضربت رأس الشاب: هل يكون نجا من موت محقق ليدخل آخر بقدميه؟ هل سيهرب من سيارة عابرة ليدخل في بيت شخص غريب لا يعرفه، ليموت بالطريقة التي مات فيها رفيقه "إبراهيم" الذي علّقت داعش رأسه على السور القريب؟

قاد الرجل علياً إلى غرفة داخلية، وهمس له بكلمتين: "عليك الأمان"، كانت الساعة آنذاك الخامسة صباحاً.

أدخل الرجل ماءاً ساخناً وطعاماً للشاب، مشيراً له إلى وجود حمّام وتواليت في جانب الغرفة يمكنه استخدامهما، وإلى ضرورة إغلاق الستائر دائماً، والأهم من ذلك عدم التحدث في الهاتف الخليوي بأي وقت. ما عدا ذلك فإن الرجل سيتولى الاتصال بأهله والتصرف بما يجعله يصل بأمان إليهم. لم يسأل الرجل الشاب سوى إعطاءه اسم أبيه وأمه وأين يقيمون. أجابه وخرج الأخير من الغرفة تاركاً ضيفه ليرتاح.

تواصل الرجل مع أهل الشاب طالباً منهم القدوم بالسرعة القصوى لإخراج ولدهم من الرقة بالطريقة المناسبة، فهو لا يستطيع إخفاؤه لفترة طويلة في ظل عمليات الدهم التي تقوم بها داعش للبيوت عند أدنى خبرية يلاحظها جواسيسها في الشوارع، وبالتالي قد يقع كلّ شباب العائلة المضيفة تحت رحمة داعش، وغالباً يعني ذلك الموت للجميع.

مخطط تهريب "علي"

كان والد علي عسكرياً من مواليد نوى في محافظة درعا ويسكن في اللاذقية منذ تقاعده، زوجته من نوى أيضاً، إلا أنّ جذوره العائلية تنتهي إلى عائلة من أهل الجبال الساحلية. كان "علي" نتاج تلك الزيجات التي تخطّت الطوائف السورية، أخوه الكبير متزوج أيضاً من خريجة جامعية من الصنمين في درعا. أخبر الرجل أبا عليّ أن لا مشكلة في قدومه إلى الرقة، فهو بحكم هويته ليس "كافراً" ولا "رافضي"، وهو الأمر الذي تدّقق فيه دوريات داعش كثيراً.

شاءت الصدف أن يجتمع والد "علي" بسيدة مسيحية من الرقة كانت في زيارة لأحد معارفه في اللاذقية. تبرعت السيدة أن تسافر معه إلى الرقة لأنها تعرفها جيداً، ويمكنها إيصاله إلى أي عنوان هناك، فهي تحمل تصريحاً من داعش بالدخول والخروج بشروط داعش التي تلتزم فيها السيدة بلباس أسود وحجاب يغطي وجهها، فهي من أهل الذمة، أي غير مسلمة وتدفع الجزية. كان هناك خيار آخر، هو أن تسافر السيدة بهوية زوجة أبا علي، في الحالين لم تكن هنا المشكلة، بل كانت في هوية "علي" نفسه، الهوية العسكرية له.

كان الحل ليكتمل مخطط تهريب العسكري، هو في استخدام هوية مدنية لشخص لا تتوقف داعش عند اسمه على الحواجز، أي وفق قاموس داعش شخص ليس كافراً (لا رافضياً ولا شيعياً). بعد بحث وتنقيب في الذاكرة وقع الاختيار على شخص من مدينة حمص يعمل عند عائلة في رأس البسيط، اتصل الأب برب تلك العائلة وشرح له الموضوع، فوافق الرجل على المساعدة.

لم يخبر رب عمل الشاب الحمصي غايته من طلب هويته، فهو يثق به بعد أن قدّم له من الخدمات الشيء الكثير، وعن طيب خاطر، وللثقة الكبيرة برب عمله أعطاه الشاب واسمه "رسول" هويته، وهو "سني" من حمص وهذا ما قد يشفع له عند داعش.

الحافلة التي نزل منها علي

كان لأهالي الرقة دور كبير في التغطية على البقية الباقية من عناصر قيادة الفرقة 17 عن عيون داعش، ولم يكن عليّ وحده الذي تمكن من الفرار صوب المدينة. تذكر مصادر أهلية، هناك أن العدد الذي نجا حوالي العشرين شخصاً من بينهم أشخاص ظلوا مختفين في المدينة لغاية تحريرها من داعش.

نتيجة تأخر أهل الشاب بالوصول إلى الرقة، استقرّ قرار الرجل على إرساله في حافلة كانت تقوم بتهريب بعض عساكر الفرقة من الرقة إلى المدن المجاورة مقابل مبالغ مالية وبهويات مزورة تقوم برشوة حواجز داعش. في ذلك اليوم الذي صعد فيه الشاب في الحافلة وصل أهله إلى بيت الرجل بمساعدة السيدة المسيحية. تدارك المضيف الوضع بأن اتصل بعلي أنّ أهله قد أصبحوا لديه، فعاد إلى منزل مضيفه فرحاً بلقاء أبيه.

وصل الأب إلى الرقة برفقة السيدة بعد أن أخبر حواجز داعش أنه قادم ليعيش في "كنف" دولة الإسلام، وبهويته الدرعاوية رحبوا به وتركوه يعبر مع السيدة التي استطاعت أن تصل إلى منزل المضيف بعد أكثر من 18 ساعة من السفر عبر طريق سلمية ـ الرقة.

العرس القاتل

استقبل أهل البيت والد العسكري بحفاوة وأخبروه أنه يمكنه المغادرة مع ابنه في اليوم التالي كون اليوم يصادف عرس أحد أبناء الأسرة المضيفة، ولا بد من حضورهم العرس. قبل أن تبدأ السهرة والعرس قام والد علي بإعطاء رب الأسرة المضيفة هوية رسول من باب الحيطة ومن باب الثقة، وفي المساء عمّت الأفراح واشتعل العرس.

وكعادة السوريين لا بد من إطلاق النار في الأعراس احتفالاً بزواج ابنهم أو ابنتهم، هكذا بدأ أفراد العائلة المدججين بالسلاح إطلاق النار في الهواء، ولكن ما إن انتهت السهرة حتى داهمت داعش منزل العائلة المضيفة واقتادتهم جميعاً بسبب إطلاق النار، وأثناء تفتيش كبير الأسرة وجدوا هوية "رسول" في جيبه.

سأل المحقق الداعشي، وهو تونسي، من يكون رسول، فأجابهم أنّه "تاجر حبوب اشترى مني قمحاً وبقي لي بذمته 300 ألف ليرة ،أخذت هويته مقابلها كرهن"، فطلبوا منه إحضار رسول إلى المحكمة الشرعية خلال يومين، وما لم يأت، فسيقطعون رؤوس العائلة بكاملها.

بشكل عاجل عاد والد عليّ إلى اللاذقية لإخبار رسول بما جرى هناك، فهو لا يعرفه أبداً ولم يسبق له أن التقاه. تدخل رب عمل الشاب "رسول" وأخبره بما حدث وأنه إن لم يسافر فسوف تكون النتيجة مقتل أفراد الأسرة والعسكري وآخرين، فوافق رسول فوراً على السفر إلى عاصمة الخلافة الجديدة، أخبره رب عمله أنه قد يتعرض للتعذيب أو حتى القتل، فرد بقوله: "إن كان الأمر لأجل عسكري فحياتي فداه".

سافر رسول إلى الرقة، وذهب إلى داعش وحقّقوا معه بعد اختبار إسلامه، اعترف لهم أنه تاجر حبوب وبقيت للرجل معه ذمة مالية فترك هويته معه، اقتنع المحقق بكلام رسول فأطلق سراحه وعاد إلى اللاذقية مع والد عليّ. لكن علي، وحده، الذي لم يكن بحوزته ما يثبت شخصيته، بعد تعذيب شديد اعترف أنه عسكري سوري، اعتقلت داعش أيضاً شباب العائلة المضيفة، وبدأت تعذيبهم بتهمة خيانة الدولة الإسلامية.

آخر ظهور ... لعليّ

بقي عليّ في سجون داعش حتى تشرين الأول من ذاك العام، تأخر المطر وقتها فكانت الأرض ناشفةً وجافة حين جاء من يأخذ المساجين الذين وضعوا في السجن المركزي للرقة، حين نادوا على عليّ عرف أن النهاية التي هرب منها في برميل الزبالة قد لاقت له من طرف ثان، لم يكن القدر رحيماً هذه المرة.

نقل عليّ ومعه تسعة شباب من الفرقة 17 يعرفهم ويعرفونه جيداً إلى منطقة مجهولة. هناك، أمروهم أن يحفروا قبورهم بأيديهم بينما يتم تصويرهم بالفيديو من قبل أحد مصوري داعش، اقترب المصوّر من عليّ وطلب منه الكلام، قدّم اسمه ورقمه العسكري أمام الكاميرا دون أي كلام مضاف، كان يحدّق في نقطة زرقاء في الكاميرا، لم يرها أحد سواه.

عرضت داعش علياً وزملاؤه بالتصوير البطيء على قناتها على اليوتيوب بينما ينفذ فيهم حكم الإعدام رمياً بالرصاص، حُذف المقطع لاحقاً، يحتفظ الأهل بالمقطع لحد الآن.

على إثر ما حصل مع علي أصيبَ الأب بمرض السكري، ويوماً بعد آخر تفاقم المرض معه في ظل رفضه اتباع أي حمية غذائية أو دوائية، لقد كان عليّ بكره الذي يحب، وكان ثمرة عزيزة على قلبه، وأن يفقده بهذه الطريقة لم يكن أمراً سهلاً على روحه، في آخر الأشهر الماضية قطعت رجله اليمين بسبب السكري وتغلغل الغرغرينا فيها.

كذلك، حاولت أم عليّ ألا تقطع خيط الأمل أن ما جرى مجرد "فبركة" وأن ولدها حيّ يرزق.

هو قلب الأم الذي لا يصدّق ولا يقتنع بأن ما جرى حقيقة وأن علياً لم يمت، تعرضت للنصب من قبل أحد الأشخاص الذين ادّعى أنه "شاهد علياً في مدينة حلب" وأعطى الأم علامات على أنه حي ولكن يلزمه مليوني ليرة سورية (4000 دولار) لإحضاره، باعت الأم كل أرض لها وأمنت له المبلغ وأعطته إياه، وذاب الرجل كالملح، ولم يعد يرد على أي اتصال هاتفي منها، أبلغت الشرطة دون أي جدوى.

لم تيأس الأم واستمرت في إنكارها، فسافرت إلى "الشام" وقتما أطلق سراح مخطوفي سجن التوبة مؤخراً، بالطبع لم تجد سوى الحرقة وآلام الفقد والتعب، نامت في صالة الفيحاء ليومين على أمل.... ولم يأت أي خبر عن عليّ.

هل كان عليّ ضحية القدر أم ضحية أفعاله في جيش النظام السوري أم ضحية الاستبداد أم مجرد ضحية من ضحايا الحرب اللعينة التي طالت السوريين دون تمييز؟

لا يهتم أبا علي اليوم ولا أمه بفهم ما جرى ولا بأسبابه، كان يهمهما أن يريا عليا عريساً لديه أولاد يلعبون بالقرب منهم. اليوم يحلم كثير من السوريين بأن تنتهي الحرب ويعودون إلى حياتهم الطبيعية، إلا أن هذا الحلم مؤجل حتى إشعار آخر.

 

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد