(هذه الحكاية نتاج تعاون بين راديو سوريالي وحكاية ما انحكت. يمكنكم سماع الحكاية على برنامج حكاية وانحكت)
تجلس عنان في الشرفة وحدها، تحتسي فنجان القهوة وتدخن سيجارة وراء الأخرى وهي ساهمة في سحب الدخان التي تظهر في أفق مدينة دمشق البعيد. هذه المرأة الخمسينية تعيش وحدها منذ أربع سنوات، وحدها تماماً، دون زوجها الذي اعتقله النظام السوري في عام 2013، وذلك بسبب نشاطه السياسي المعارض، وتوفي في السجن بأزمة قلبية، ودون ابنها وابنتها الشابين اللذين فضلت أن يعيشا في بلد آخر بأمان بعيداً عن المضايقات الأمنية، ولو كان ذلك على حساب شوقها ووحدتها.
عنان ميسورة الحال، لم يمنع ثراؤها وثراء زوجها من اعتقاله، لم يخرجه (الثراء) حياً ولم يعده من الموت. لكنه ساعدها على العيش كريمة وحافظ على نمط حياتها المرفّه رغم الأزمة الاقتصادية. وساعدها أيضاً على السفر كلما أرادت لزيارة ولديها عندما لا يعود الشوق محتملاً. لكنها مع ذلك ظلّت مصرة على العودة دائماً إلى دمشق، فذكرياتها مع رفيق دربها كلها هنا، ولم يبق من العمر بقدر ما مضى، وهي لا تريد أن تكون عبئاً على ولديها، إضافة إلى وجود صديقة أو أخرى في دمشق لم تسافر بعد لتؤنس وحدتها معها.
مع ذلك، فالاكتئاب يتغلغل في الروح كالقار الأسود، بلزوجته وكثافته ورائحته الواخزة. لم تكن عنان في يوم من الأيام امرأة نكدة، كانت تحب الاستمتاع بوقتها، يساعدها في ذلك يسر الحال، كانت تبدو دائما أصغر بعشر سنوات من عمرها، تمارس الرياضة، تعتني بجمالها، ترتدي أفخر وأحدث الثياب، تسافر في إجازات ممتعة وتأخذ الصور التذكارية، تزور صديقاتها من نفس البيئة الاجتماعية. كان وقتها دوماً ممتلئاً رغم أنها لم تعمل يوماً في حياتها. واليوم تنظر عنان إلى نفسها بالمرآة، يطالعها وجه شاحب تخطه التجاعيد، لا تقوى حتى على الابتسام، لا ترتدي سوى الألوان الداكنة، وقد بدأ جسمها المشدود يترهل، يزيد كل ذلك من كآبتها.
تجلس على نفس الكرسي لساعات طويلة لا تشعر بمرورها، إلا عندما تفقد الشعور بقدميها، وهي تتابع الاخبار، أو تقلب المحطات على غير هدى، تشاهد خمس دقائق من هذا المسلسل، وخمس دقائق من ذاك، أو تقلب صفحات وفيديوهات الفيسبوك على جوالها حتى تتيبس رقبتها. وقد تمسك بألبومات الصور القديمة بين الفينة والأخرى وتغرقها بالدموع، وهي تتذكر كيف كانت الحياة قبل هذه السنوات المفجعة، تمسك بصورها مع زوجها وولديها وهي لا تصدق كل ما جرى، وكأنه كابوس يأبى أن ينتهي. تتمنى لو كانت ملتزمة بعمل ما، أو موظفة مضطرة إلى الخروج من البيت كل يوم، لربما كانت كسرت علاقتها مع ذلك الكرسي اللعين. تنتظر أن يدق أحد عليها الباب، وعندما يدق الباب من زائر أو عامل نظافة ترتعد أوصالها، وهي تتذكر اللحظة التي اقتحم الأمن، عليها وزوجها، البيت، وجره إلى السيارة دون أي اعتبار لسنه أو لوضعه الاجتماعي.
نصحتها صديقتها بزيارة طبيب نفسي: "كل الشعب السوري عايش على الأدوية، وانتي ما رح تكوني استثناء".
وصف لها الطبيب الدواء كما هو متوقع، أصبحت عنان تتناول مضادات الاكتئاب يومياً، لم تشعر بتحسن، ولكنها شعرت ببعض الخدر، خدر أصابها بالشرود الدائم، لدرجة أنّ دماغها لم يعد حاضراً لإطفاء الغاز تحت إناء الطبخ، أو لتذكر ماذا كانت تنوي أن تخرج من البراد عندما فتحته، أو لتذكر أين وضعت المفتاح أو النظارة أو الحقيبة في حال أرادت الخروج من البيت في إحدى زياراتها التي باتت نادرة.
"شو بيصير إذا أخدت كل هالحبوب فرد مرة؟"، فكرت عنان. ولم يمنعها إلا حبها لولديها وعدم رغبتها في جعلهم يُفجعون بأم منتحرة بعد فجيعتهم بوالد قضى في السجن.
وفي أحد أيام الصيف، فتحت عنان الباب لابنها الذي أتى في زيارة صيفية، رغم تحذيرات أمه بعدم المجيء والمخاطرة، خاصة وأنّ عين الأمن السوري تراقب كل أفراد العائلة، كان ابنها يحمل في يده جرواً أبيض صغيراً.
-مين قلك بدي كلب بالبيت! أنا فاضية اعتني بكلاب؟ أنا على حالي ما عم دير بالي!؟
-اعتبريه إلي وحاطو أمانة عندك، وجربي حالك شهر زمان معو.
أحياناً تفكر عنان ما الذي سيحصل لأحدهما في حال موت الآخر؟ تراودها هذه الأفكار السوداء المترسبة من آثار الاكتئاب، تحاول أن تطردها وأن تفكر كما يفكر برونو، الذي لا يعبأ بالمستقبل، بل يحاول أن يعيش يومه بأفضل شكل ممكن مع من يحب.
غادر ابن عنان المنزل بعد أسبوع وتركها مع برونو. كان برونو جروا صغيرا، أشبه بلعبة تتحرك. في الحقيقة لم يكن برونو يتوقف عن الحركة واللحاق بعنان حتى عندما تدخل إلى الحمام. لم تكن عنان تحب الحيوانات، أو على الأدق لم تكوّن في حياتها علاقة معهم. الحيوانات المنزلية تخلق التزاماً يقيّد الحركة، تماماً كالطفل الصغير، لا تستطيع أن تذهب معه إلى أي مكان، لا تستطيع تركه في البيت وحده، وعليك أن تلبي حاجاته الأساسية. وشيئاً فشيئاً، لم تعد عنان تستطيع أن تنسى وتشرد عن موعد إطعام برونو، أو عن تغيير مياهه، وأصبحت مجبرة على الخروج من المنزل كل يوم مرة أو مرتين لتأخذه في نزهة يلبي فيها نداء الطبيعة. وعندما كان برونو يخرب شيئاً ما في المنزل أو يوسخ في إحدى الزوايا، كانت تقرعه كما تقرع الأم طفلها وتعيد ترتيب وتنظيف المكان. أصبح كل شيء يدور حول برونو، عندما كان يتصل ابنها كانت تقول له: "إيمات بدك تاخدو لبرونو؟ أنا ما عاد فيني على شغلو".
كان يمزح قائلا: "بكرا بجي باخدو إذا بدك".
فتتردد عنان وتظهر بعض القوة: "إي بيكون أحسن!"، ثم في آخر الليل، وعندما يجلس برونو في حضنها، وينظر إليها تلك النظرة التي تجيدها الكلاب، نظرة الحب والولاء غير المشروطين، تتناسى حديثها مع ابنها ولا تعيد السؤال قبل أسابيع قادمة، عندما يخرّب برونو شيئاً ما ويثير غضبها من جديد.
استطاع برونو أن يعيد الحيوية إلى المنزل، وأن يساعد عنان على استعادة قدرتها على الضحك. لم يكن هناك شيء في الدنيا أكثر متعة لديها من مشاهدته وهو يلعب بشيء ما، أو يقفز كالمجنون في ساعات ذروة نشاطه. ولم يكن هناك شيء في الدنيا يضاهي الشعور الغامر بالحب والدفء، وهو مستمتع بصحبتها وجالس عند قدميها بعد وجبة مشبعة. وأضيف سبب آخر لتتمسك عنان أكثر قليلا بالحياة، فما الذي سيحصل لبرونو إن أصابها مكروه؟
وفي إحدى النزهات مع برونو، ركض أمامها ببضع أمتار وانتظرها وهو يهز ذيله متحمساً. كانت عنان تمشي باتجاهه بهدوء وهي تناديه: "برونو. استنا شوي!". لم يكن ليخطر ببالها ما كان سيحدث، فقد غافل مراهق يرتدي بسطاراً هائل القياس برونو بركلة طيرته في الهواء عدة أمتار ليهوي على رأسه وهو يصرخ بعويل مروع.
للحظة توقفت عنان عن التنفس، وشلت قدماها، ثم اندفعت إلى برونو الذي غطى الدم وجهه وتناثرت أسنانه على الأرض، وأمسكت به وهي تصرخ بذهول تجاه المراهق الذي كان يقهقه بسخرية: "إنت وحش! مجنون!".
تمتم المراهق وهو لم يكن مستعداً لردة الفعل هذه: "ما بتعرفي إنو حرام ترباية الكلاب؟".
أسعفت عنان برونو إلى الطبيب ودمه يغطي ثيابها، كانت أسنانه مكسرة، وهناك كسر في فكه وعينه اليسرى قد عميت بالكامل. قام الطبيب البيطري بما يمكن القيام به ضمن إمكانيات العيادة. لكن برونو كان في حاجة إلى عمل جراحي في مكان أكثر تطوراً، سافرت عنان إلى بيروت مع برونو، وخضع لعلاج مكلف ومعقد. تخطّى برونو مرحلة الخطر، لكنه في نهاية الأمر أصبح كلباً مشوهاً بعين واحدة وبلا أسنان.
انهارت دفاعات عنان النفسية، هاجمها الاكتئاب بشراسة وتحول إلى سخط شديد على البشر جميعاً. لكنها استجمعت قواها، فلم تسمح لنفسها بالانهيار، ولم تتخل عن برونو للحظة. ظلت تطعمه بالقطارة، وتهرس له الطعام، وتعطيه المسكنات، وتضع الماء في يدها ليشربه، وتخفّف عنه وتعتذر منه على مدار الدقائق لأنها لم تستطع حمايته. كان صوت أنينه مؤلماً لها بشكل لا يوصف، ويدفعها لتسهر الليالي دون كلل على راحته. وظلت الحال هكذا لأسابيع، حتى استطاع برونو استعادة عافيته واستقرت صحته من جديد. لم يكن برونو يفكر بعينه التي فقدها، لم يكن يفكر بأسنانه التي لم تعد موجودة، أو بوجهه الذي لم يعد متناظراً.
ظلّ برونو يلعب، وتثير انتباهه الأشياء الموجودة على الجانب الأيمن، وظلّ يغمر عنان بالحب ويشغل وقتها كله بالعناية به. لم تعد تتركه يركض بعيداً عنها في الشارع، لكنها لم تحرمه من النزهة اليومية، ولم تهتم لضحكات الناس من منظره الغريب، كما لم يكن هو يهتم أيضاً.
بالنسبة لعنان، ما الذي يمكن أن يكون أكثر ملاءمة لإنسانة مكسورة لآلاف القطع مثلها من الاعتناء بكلب مشوه بسبب تعرضه للإساءة من وغد مختل؟ لم يكن هناك في العالم كله لبرونو سواها. وكان ذلك شعوراً لا تقايضه بأثمن ما في الدنيا. كان برونو، الكائن الضعيف المعاق، أقوى من عقاقير الاكتئاب الوطنية والأجنبية الصنع التي كانت عنان تتناولها. لا يزال يعيش معها حتى هذه اللحظة، ولا يزالان يتحولان إلى فرجة في كل مكان يذهبان إليه معاً، ولا يزال الحب غير المشروط يجمعهما. أحياناً تفكر عنان ما الذي سيحصل لأحدهما في حال موت الآخر؟ تراودها هذه الأفكار السوداء المترسبة من آثار الاكتئاب، تحاول أن تطردها وأن تفكر كما يفكر برونو، الذي لا يعبأ بالمستقبل، بل يحاول أن يعيش يومه بأفضل شكل ممكن مع من يحب.