(دمشق)، تتنفس وداد بارتياح بعد أن أنهت كوي فستان السهرة الذي أنجزته بسرعة قياسية كي تستطيع الزبونة أن ترتديه في عرس فخم في بيروت بعد عدّة أيام.
زارت السيدة الثرية وداد في بيتها وقد أحضرت معها أمتاراً من الغيبير والساتان والدانتيل الذي اشترته عندما كانت تزور أقاربها في دبي. وطلبت منها أن تحيك فستاناً أنيقاً وفخماً ومحافظاً في الوقت نفسه، فالعرس في بيروت مختلط، وهي سيدة محجبة. أخذت وداد القياسات وبدأت في تسجليها على قطعة ورق.
- الله يرضى عليكي يا وداد، الفستان لازم يكون جاهز بعد أسبوع.
- بس مدام والله عندي شغل كتير وولادي عندون فحص، والكهربا عم تنقطع وما فيني اشتغل بالعتمة.
- اشتغلي هالفستان قبل أي شي وأنا بعوضك ولا يهمك. شو؟ رح تلحقيه ما هيك؟
- أممم.. قولي انشالله.
لم تكن وداد لترفض طلب السيدة، وهي التي انقطعت عن الخياطة لسنوات طويلة، وعادت منذ فترة للتعامل مع الزبائن ومتابعة الموضة وصيحات الأزياء. لذلك فعليها أن تبذل جهداً مضاعفاً في بناء علاقات مع السيدات الدمشقيات، سيدات المجتمع المخملي المحافظ، اللواتي لا ينقصهن المال، لكنهن لا يجدن في أسواق الماركات العالمية ما يناسب أذواقهن وتقاليدهن لحضور مناسبة اجتماعية في فندق فخم بحضور مختلط، فيلجأن إلى الخياطات النسائيات اللواتي تتقاضين عن إنجاز الفستان مبالغ هائلة. لكن وداد لم تكن من هؤلاء. فقد ابتعدت عن المهنة لفترة طويلة، لذلك لم تشعر بالغبن لعملها مقابل أجر زهيد، ربما يتحسن مع الوقت بعد أن تثبت أنها لا تزال خياطة ماهرة.
انتهى الفستان، وأصبح جاهزاً للتسليم، تمدّدت وداد على الأرض متيحة لظهرها ورقبتها فرصة ملامسة سطح قاس، لعل أوجاع الفقرات والعضلات تخف قليلاً. لم يكن ثمة أحد في المنزل. فأبناؤها الثلاثة في المدرسة، وزوجها في عمله. وسلفتها وزوجها اللذان تتقاسم معهما منزل الأجرة التي تسكن فيه خرجا في زيارة عائلية. تأملت وداد الفستان، لقد كان جميلاً جداً، أنيقاً ومتميزاً. وشعرت بفخر شديد وبرغبة قوية في ارتدائه. على الرغم من أنّ جسدها الهزيل سيختفي داخل الفستان المتناسب مع قياس صاحبته المرأة الستينية المكتنزة. نظرت إلى الساعة، لم يكن يزال هناك بعض الوقت قبل أن يعود أحد إلى المنزل. وقفت أمام مرآة القياس، ونزعت ثيابها، ومرّرت الفستان على جسدها من فتحة القبة. وضعت حشوة قماشية بدل صدرها المستأصل جراحياً. ونظرت إلى نفسها. كان لونها شاحباً وجسدها نحيلاً ووجنتاها غائرتين، وقد بدأت التجاعيد تخط وجهها الأربعيني. أسدلت شعرها الأشقر الأشيب ونفخت وجنتيها ببعض الهواء. ثم أمسكت طرف التنورة الطويلة وأصبحت ترقص وحدها في المنزل دون موسيقا. دارت ودارت وكأنها في جلسة صوفية، ومع كل دورة كانت تتذكر جزءاً من الماضي.
كانت وداد تفكر في التناقض الذي يعاني منه والدها الذي سمح لها بالتعامل مع "مشركين"، على حد وصفه، على الرغم من أنه أجبرها على ارتداء النقاب
وداد واحدة من ستة أخوة وأخوات، كانت أكبرهم سناً، من عائلة فقيرة ومتشددة دينياً، أجبرها والدها على ترك المدرسة بعد أن أنهت الصف السادس وارتدت النقاب وهي في سن الثانية عشرة من عمرها. ولم تكن أفضل حالاً من أختيها اللتين واجهن المصير نفسه. كانت وداد وأختيها متفوقات في المدرسة، لكن ذلك لم يشفع لهن، فقد كان الأب مقتنعاً هو وشيخ الجامع الذي كان يحضر محاضراته الدينية كل أسبوع بأنّ في تركهن للمدرسة إرضاء لله وحماية لهن من الرذيلة.
الخياطة وتناقض الوالد
التحقت وداد بدورة خياطة مع راهبات دير الطلياني في دمشق، وكان والدها يحرص على أن يصطحبها إلى الدير ومنه. كانت وداد تفكر في التناقض الذي يعاني منه والدها الذي سمح لها بالتعامل مع "مشركين"، على حد وصفه، على الرغم من أنه أجبرها على ارتداء النقاب. وفي الحقيقة كان الوالد يفكر في شيء واحد فقط، هو: كيف يمكن لوداد أن تساعده لدى احترافها الخياطة في مصاريف البيت التي أثقلت كاهله.
أنهت وداد تدريبها وعملت في مشغل خياطة تمتلكه سيدة غير متزوجة، أمضت في ذلك المشغل خمسة عشر عاماً، كانت فيه تلك السيدة أماً لها، علّمتها كيفية التعامل مع الزبائن، وأسرار المهنة التقنية، وقدمت لها ماكينة خياطة لتعمل بها في البيت لحسابها الخاص، وعندما توفيت بسكتة قلبية فجعت وداد وبكت بحرقة لأشهر عديدة، على الرغم من أنّ والدها ووالدتها كانا يحاولان إقناعها بأن الحداد على الميت لأكثر من ثلاثة أيام يخالف تعاليم الدين الإسلامي.
بعدها عملت وداد لوحدها، وعلمت أختيها ما تعلمته، وأصبح لديها زبائن في كل حارة في دمشق، كانت في الثلاثين من عمرها، لم تتزوج بعد، هي أو أخوتها، كن نحيلات جداً، ورثن أنف والدهن المعقوف وأسنانه البارزة، على الرغم من أنهن كنّ شقراوات وبعيون ملونة، وكنّ تقيات ملتزمات دينياً بارعات في أعمال البيت والأعمال اليدوية. وعلى الرغم من أن وداد تعرفت على الكثير من العائلات الدمشقية الباحثة عن عرائس لأبنائها بالطرق التقليدية، لكن ذلك لم يساعدهن على أن يتفادين العنوسة.
تركت كل شيء وهربت، كانت تظن أنّ الوضع مؤقت مهما كان سيئاً، وأنّها ستعود إلى بيتها بعد أن تهدأ الاشتباكات، لم تعرف وداد حينها أنّ تلك كانت المرة الأخيرة التي تقفل فيها باب المنزل.
لكن حظ وداد تغيّر عندما خطبها رجل شامي لطيف من عائلة ميسورة، على الرغم من أنها كانت خطبة تقليدية إلا أنّ الاثنين شعرا فوراً بالارتياح والمودة تجاه بعضهما البعض. ورغم تحفظ والدها ووالدتها إلا أنها رضيت بمهر بسيط، وتزوجت دون عرس عام 2000، خلال شهر رمضان، بعد أن تشاجرت للمرة الأولى في حياتها مع والدها الذي استهجن فكرة الزواج خلال شهر الصيام استهجانا كبيراً. كان الزوج في الأربعينات من عمره، يعمل محاسباً في إحدى الشركات الخاصة، وكان يمتلك بيتاُ مكسياً في دارياً، أمضت فيه وداد وإياه أجمل لحظات حياتهما، وجهزاه زاوية زاوية مستفيدين من سوق داريا للمفروشات والموبيليا في شارع الثورة ضمن المدينة، والمعروف بتنوعه وأسعاره المقبولة.
بدء المظاهرات ورحلة النزوح
وضعت وداد في المنزل خلاصة ما تعلمته من مهارات يدوية، اختارت الأثاث وأغطية الفراش والستائر والسجاد بعناية، وجهزت مكاناً لتعمل فيه بماكينتها وعدتها، بعد أن اتفقت مع زوجها بأن يأتي الزبائن إلى البيت. رزقت وداد بصبيين وبنت، وكان عمرها سنة ونصف عندما اشتعلت المظاهرات في داريا عام 2011، وبعد مجزرة داريا التي أودت بحياة أكثر من 250 مدنياً في آب من عام 2012، وتداول التفاصيل المروعة عن كيفية إعدام الرجال والشباب في الأقبية دون تمييز من قبل قوات الفرقة الرابعة والمليشيات الطائفية، نزحت وداد مع عائلتها أسوة بالآلاف من سكان المدينة دون أن تأخذ شيئاً من ثيابها أو صيغتها المتواضعة، وتركت وراءها ماكينتها وعدة الخياطة، وفرشها وأغطيتها العزيزة وثياب أطفالها التي كانت ترسلها عمتهم بطرود سنوية من الخارج، تركت كل شيء وهربت، كانت تظن أنّ الوضع مؤقت مهما كان سيئاً، وأنّها ستعود إلى بيتها بعد أن تهدأ الاشتباكات، لم تعرف وداد حينها أنّ تلك كانت المرة الأخيرة التي تقفل فيها باب المنزل.
مكثت عائلة وداد في بيت أهلها أولاً، وبعد أن شعرت بتملّمل والديها من أطفالها، انتقلت العائلة إلى منزل أهل زوجها، ورغم أنه كان منزلاً واسعاً إلا أنّ أهله بدؤوا بالتشكي والتذمر وطلبوا منه أن يبحث عن بيت يستأجره لأن الأمور في داريا لا تبشر بحل قريب. وبالتزامن مع هذا الظرف الضاغط ماديا ونفسيا على الزوجين، قرّرت الشركة أن تستغني عن خدمات نصف موظفيها، وأصبح زوج وداد بلا عمل. عندها قررت والدة الزوج أن تسمح لعائلة ابنها أن تقيم في منزل تملكه وكانت تؤجره بين الحين والآخر، لكن وبعد فترة قصيرة نزحت عائلة ابنها الآخر من القابون، فاضطرت العائلتان إلى تقاسم المنزل الذي قدمته الوالدة. لم يكن المنزل واسعاً مما زاد الاحتكاك والمشاجرة بين العائلتين، وبالتأكيد لم يكن من المناسب أن تستقبل وداد زبائن لتعمل في الخياطة وتعيل الأسرة، فلم تكن تملك آلة خياطة إضافية، ولم يكن ثمة غرفة لائقة لاستقبال الزبائن. كانت وداد كثيرة البكاء بطبعها. بكت حتى التهبت عيناها، واشتدّ هزالها. كان ابنها الأكبر في الرابعة عشرة، كان صعب المراس سريع الغضب كمعظم المراهقين، لكن أداءه الدراسي كان جيداً، بعكس أخيه الأصغر ذي العشر سنوات الذي كان يعاني من صعوبات مختلفة في التعلم. أما الابنة الصغرى، فكان عمرها ثلاث سنوات، وكانت المفضلة لدى أمها، التي قطعت لها عهداً بأن تتيح لها كل الظروف لتتم دراستها وألا تسمح للآخرين بالتدخل في حياتها وتقرير مصيرها.
المرض.. رحيل أخر
في ذات يوم أحست وداد بنتوء في ثدييها، لم تلق بالاً للأمر، لكنها أصيبت بالهلع عندما شعرت بنتوءات جديدة تحت إبطها، وكانت مخاوفها محقة، فبعد الفحص تبين أنها مصابة بسرطان الثدي.
كانت مؤمنة بشيء واحد أكثر من أي عقيدة أو دين. لقد كانت مؤمنة بأسرتها، وكان حبّها لزوجها وأولادها سبباً في تمالكها لنفسها، ومضيها بالإجراءات العملية للعلاج من سرطان الثدي رغم صدمتها واكتئابها الشديدين
كانت ضربة صاعقة جديدة للأسرة المنكوبة. لم تكن وداد تتقن التظاهر بالقوة أمام أطفالها. كانت تبكي أمامهم وأمام زوجها:
- رح موت واترك ولادي. ولادي صغار. كيف رح يدبروا حالون.. ما بدي موت. بدي ولادي..
- استهدي بالرحمن.. انتي مؤمنة ما بيجوز هالحكي.
كان والدها يردّد هذه العبارة في محاولة للتهدئة. لكنها كانت تنظر إليه وتجهش ببكاء أشد، لأنها اكتشفت أنها لم تكن مؤمنة حقاً، وأنّ هذا الكلام لم يكن ليخفف عنها، أما زوجها فكان يلتزم الصمت ويحضر لها بعضاً من عصير البرتقال.
لكنها كانت مؤمنة بشيء واحد أكثر من أي عقيدة أو دين. لقد كانت مؤمنة بأسرتها، وكان حبّها لزوجها وأولادها سبباً في تمالكها لنفسها، ومضيها بالإجراءات العملية رغم صدمتها واكتئابها الشديدين. فأجرت عملية استئصال للثدي والأورام، وخضعت للعلاج الكيماوي لفترة مديدة، وتابعت العلاج الدوائي، وتولت أختاها العناية بها، فقد كانتا لا تزالان وحيدتين، إحداهما لم تتزوج والأخرى تزوجت وطلقت خلال السنوات الماضية. وتكاتفت العائلة مادياً لتغطية نفقات العلاج. ورغم الآلام المبرحة والإعياء الشديد، لكن وداد في تلك الفترة كانت أشد تمسكاً بالحياة من أي وقت مضى. والتزمت بالخطوات العلاجية وبتعليمات الطبيب التزاماً تاماً، وعندما أظهرت تحاليلها أنها تغلبت على المرض، عانقت أولادها وبكت امتناناً لأنها ستمضي معهم وقتاً أطول.
بعد هذه المحنة شهدت حياة وداد بعض التحسّن، فقد حصل زوجها على وظيفة أخرى بمردود مادي متواضع، وتبرعت لها أخت صاحبة ورشة الخياطة التي تدربت عندها في شبابها بماكينة خياطة مستعملة، فعادت للعمل شيئاً فشيئاً، وانتقلت مع أسرتها إلى بيت آخر أوسع استأجره زوجها مع أخيه من حماتها التي كانت تملك بيوتاً عديدة للإيجار، لكن ذلك لم يكن سبباً لإعفاء ولديها من الأجرة.
أصبح لدى وداد زبائن دائمون من جديد، لم تكن تناقشهم بالأسعار، كان يكفيها أنها تعمل من جديد وتؤمن مصروف الدراسة لأبنائها على الأقل. وبدأت أحلامها تكبر وتتسع، وهي تحاول أن تساعد في دروسهم دون أن تسمح لها إمكانياتها التعليمية المتواضعة بذلك. في إحدى الأمسيات قالت لابنها الأكبر:
- بتعرف يا قصي؟ عم فكر جيب كتب بكالوريا أدبي وقدم بكالوريا.
نظر إليها قصي مستنكراً: أنا برأيي تشيلي الفكرة من راسك.
أوصى زوج وداد أحد الجيران بتصوير المنزل، وكان عازماً على تفقد البيت بنفسه بعد يومين. لكن الصور المرسلة إليه جعلته يلغي الفكرة. كان البيت خالياً من كل شيء، ما عدا الركام والأنقاض والنفايات
لم تكن علاقة وداد مع ابنها الأكبر علاقة أم بابنها، كان يمارس عليها نوعا من الوصاية لم تتلقاها حتى من والده. وعلى الرغم من أنها كانت حساسة تجاه كلامه القاسي أحياناً، لكنها كانت تحبه وتحب أنه مراهق فج الكلام، وتحب أنها لا تزال على قيد الحياة لتتعامل مع ابن مراهق فظ. لقد كانت تقدر كل لحظة تمضيها مع أسرتها حتى لو كانت مزعجة.
العودة إلى المنزل.. خيبة أخرى
وبعد أربع سنوات طويلة من الانتظار، في آب من عام 2016، تم الاتفاق بين مقاتلي مدينة داريا والنظام على تسليم المدينة إلى جيش النظام، مقابل خروج المدنيين منها إلى مناطق سيطرة النظام ببلدة صحنايا بريف دمشق، وإجلاء المقاتلين وذويهم إلى محافظة إدلب، بعد تسليمهم سلاحهم المتوسط والثقيل، وذلك بضمانات وإشراف من الصليب الأحمر الدولي.
تجدّد الأمل لدى الأسرة لتعود إلى منزلها. وأجرى زوج وداد الاتصالات المطوّلة ليتعرّف على الإجراءات اللازمة ليزور بيته. لكن داريا ظلت مغلقة أمنياً لسنتين أخريين قبل أن تتاح الفرصة لبعض الأهالي للعودة وتفقد ممتلكاتهم. أوصى زوج وداد أحد الجيران بتصوير المنزل، وكان عازماً على تفقد البيت بنفسه بعد يومين. لكن الصور المرسلة إليه جعلته يلغي الفكرة. كان البيت خالياً من كل شيء، ما عدا الركام والأنقاض والنفايات. في الصور لم تجد وداد آلة الخياطة، ولم تجد شيئاً من ثياب أولادها، لم تجد سوى البلاط المكسر والشبابيك المخلوعة والأبواب المهشمة. لقد كان حلم العودة إلى البيت قد تلاشى منذ زمن طويل، لكن مواجهة الصور والواقع للمرة الأولى كانت ذات وقع مختلف. بكت وداد مجدداً. بكت حتى جفت دموعها. لكنها تأقلمت مرة أخرى مع خسارة الـأمل البسيط المتبقي في الاستقرار. فعادت إلى عملها، وإلى عنايتها اليومية بأسرتها. وهي تشكر الله على كل لحظة إضافية تمضيها معهم، وعلى لحظة الهدوء التي سنحت لها أن ترقص وحدها في البيت مرتدية ثوباً ثميناً لن تحلم بارتدائه في أية مناسبة.
نظرت وداد برضا إلى المرآة للمرة الأخيرة وهي ترتدي الفستان الذي ستسلمه إلى صاحبته بعد ساعات، قبل أن تخلعه وتكويه مجدداً، وتعلقه في مكانه، وتجلس في انتظار أبنائها.