(هذه الحكاية نتاج تعاون بين راديو سوريالي وحكاية ما انحكت، يمكنكم سماع هذه الحكاية على برنامج حكاية وانحكت)
يتذكر عمار، وهو شاب من مواليد دمشق عام 1983، يتذكر جيداً اليوم الذي أحضرت فيه والدته إلى المنزل كيلو غراماً كاملاً من الموز، اشترته بثلاثين ليرة سورية، وصوت البائع المتجول على مكبّر الهونداية الصغيرة يلعلع: "تشرشحت يا غالي، تشرشحت يا غالي..".
كان ذلك في أواخر التسعينات من القرن الماضي، وكان منظر السيارة المحمّلة بأكوام الموز في مشهد غير مألوف، يعد بتغيير إيجابي عميق في حياة السوريين الاقتصادية، خاصة ممن عاصروا حصار الثمانينات الاقتصادي الخانق، الذي تسبّبت به العلاقات المتوترة بين النظام السوري وإسرائيل، والذي أدى إلى مقاطعة العديد من الدول الكبرى اقتصادياً للنظام.
في الثمانينات، كان عمار يقف مع والدته أو والده لساعات طويلة على طابور المؤسسات الاستهلاكية لتحصيل القليل من الطحين أو السمن أو علب المناديل الورقية، كان عمره أربع أو خمس سنوات، وكان يكاد يختنق من شدّة الحر والازدحام والتدافع وروائح العرق والأنفاس الكريهة. كان يتذكر جيداً نظرة والديه المنتصرة والمنهكة عندما يحصلان على بعض مما أتوا للحصول عليه. كان كيس الاحتياجات التافهة لا يتناسب أبداً مع مقدار الجهد المبذول لحيازته. وكان عمار قادراً على استشعار هذه المفارقة على الرغم من أنّه طفل صغير، لا أحد يهتم لسماع رأيه، أو يدرك أنّ له رأياً.
هل كان حلما؟
كانت أغلب البيوت السورية تشبه بعضها في ذلك الوقت: الأغطية هي نفسها، الكؤوس والفناجين، ملاعق الطعام والصحون، علب الكبريت، علب المناديل، فوط الأطفال، بسكويت الشاي إن وجد، المصدر واحد أيضاً، هو المؤسسات الاستهلاكية المدعومة من الحكومة لتغطية النقص الكبير في المواد الغذائية والمنتجات الضرورية.
كذلك كانت المفقودات هي نفسها، البندورة حيناً، والليمون أحياناً، لكن الموز كان حلماً صعب المنال لدى جميع السوريين من الطبقة الوسطى والفقيرة. محظوظون فقط من استطاعوا في تلك الأيام تناول الموز مرة أو مرتين في العام، فقد كان غير متوفر إلا عن طريق التهريب، وغالي الثمن بما لا يستطيع تحمل شرائه موظفوا تلك الأيام. كانت الرواتب الحكومية في حينها لا تتجاوز ألفي ليرة سورية (حوالي 400 دولار)، في حين كان ثمن كيلو الموز قد يصل إلى مئة وخمسين ليرة سورية (حوالي 15 دولار)، حسب ندرته ومصدره. مع ذلك، كان والد عمار، وهو موظف حكومي في المؤسسة العامة للتأمين والمعاشات، يحاول دائماً أن يجد فرصة لتمرير كيلو موز لأولاده، عمار وهانية وحسن، وكان عمار أحياناً يتبرع بحصته لإخوته، فهو لم يكن مولعاً بالموز كثيراً، ولم يكن يفهم لماذا كان تحصيله أصعب من تحصيل البطاطا التي كان يعشقها بكل حالاتها، مقلية أو مسلوقة أو مشوية، ولماذا كانت تجربة أكله مكلفة إلى هذا الحد. حتى تناول الخيار كان منعشاً وممتعاً أكثر من الموز بالنسبة له، الموز الذي كان على العائلة أن تأكله خفية في المناسبات النادرة حتى لا يشتهي الجيران وأطفالهم ويفاجئوهم بزيارة غير متوقعة، كما حصل ذات مرة عندما كان حسن يقشّر موزة على الشباك، فلمحه أحد الجيران، فذهبت زوجته برفقة أولادها الأربعة لشرب فنجان قهوة بريء عند أم عمار، ثم اختفى الأولاد ليتم اكتشافهم على أرض المطبخ وقد أتوا على الموز كله. في ذلك اليوم شاهد عمار أباه مغتماً وقد جمدت الدموع في عينيه، وكأنه خسر جبلاً من الذهب. ربما كانت علاقة عمار مع الموز مأزومة لأنه لم يكن يستطيع أن يميّز بين الفاكهة بحد ذاتها وبين الظروف المهينة والمتوترة المحيطة بطقوس شرائها وأكلها، والتي كانت كفيلة بقتل أي شعور بالتلذّذ أو الرضا.
كذلك ولقلة الخبرة المتعلقة بأكل الموز، كثيراً ما أكلت العائلة موزاً قاسياً لم ينضج بعد. وكان طعم الموز العجر في الفم يجعل التجربة أكثر خيبة وقسوة، لكن الأم كانت دائماً تشيد بقيمة الموز الغذائية العالية التي تجعل أكله مفيداً على أكثر من صعيد، وليس فقط من باب قضاء الشهوة.
يتذكر عمار أيضاً حديث أمه مع جاراتها عن أنّ الموز من فاكهة الجنة، واحتدام النقاش لانعدام أيّ دليل ديني على ذلك، لكن أمه كانت تصرّ على أنه إن لم يكن هناك موز في الفردوس فسيكون ناقصاً، لتقدم إحدى الجارات تفسيراً يؤكد أن الموز متوفر في الجنة لأن المؤمنين يشتهونه، والجنة فيها ما يشتهيه المؤمنون!
مضت الأيام وكبر الأولاد، وأحيل والد عمار على التقاعد، وتغيّرت الظروف الاقتصادية في البلاد، وأصبح الموز متاحاً للجميع، وبأنواع مختلفة، لبناني وصومالي وبلزقات عليها أسماء غريبة، وبما يناسب جميع الميزانيات، فأصبح بالإمكان شراؤه بثلاثين وحتى خمس وعشرين ليرة سورية. وتهافت السوريون ومنهم عائلة عمار على شراء الموز حتى أصبح قشر الموز في الطريق وفي أكياس وسلات القمامة أمراً شائعا وطبيعياً. لكن عمار ظلّ يجد صعوبة في استساغته، إلا مع كوكتيلات العصير والحليب التي كان يتناولها قبل ذهابه إلى نادي الحديد. وبقي الموز بالنسبة له جزءاً من ذاكرة الحرمان التي عاشتها العائلة لفترة طويلة من الزمن.
أتم عمار الخدمة الإلزامية في عام 2006، بعدها درس في كلية التجارة وتخرج عام 2010، أما أخوه الأصغر حسن فلم يكن قد خدم في الجيش بعد، وعندما اندلعت الأحداث عام 2011، كان حسن في الواحدة والعشرين من عمره. كان يحاول أن يتجنّب خدمة العلم عن طريق الرسوب المتكرّر في كلية الأدب الانكليزي، لكنه وبعد أن استنفذ فرص الرسوب عام 2014، اضطر إلى الهروب براً إلى تركيا، وعاش هناك فترة من الزمن، قبل أن ينضم إليه أخوه الأكبر عمار، والذي ورد اسمه في قائمة مطلوبي الاحتياط، وبعد رحلة محفوفة بالمخاطر استطاع عمار قطع الحدود والوصول إلى تركيا.
سوريا وكأنها كوكب آخر
في تركيا وجد عمار وأخوه عملاً في فرن خبز، ثم تعلّم التركية وتنقل من عمل إلى آخر حتى التزم بعمله كمحاسب في مكتب للترجمة المحلفة، ولحسن حظه كان رب عمله كريماً ومتعاطفاً جداً مع القضية السورية فاستطاع تأمين عمل مكتبي بسيط لحسن، كان راتبهما كافياً ليدفعا أجار المنزل ويغطيا مصروفه ويرسلا بعض المال إلى والديهما لسد الديون التي تراكمت على العائلة جرّاء سفر الشابين بطريق التهريب.
كان عمار وأخوه في حالة جيدة جداً مقارنة فيما كانا سيتعرضان له لو بقيا في سوريا، ناهيك عن وضعهما الاقتصادي المقبول مقارنة مع غيرهم من السوريين اللاجئين، كان جو العمل مريحاً، وكانت اسطنبول وأهلها ودودين ومتعاونين، لكن الشيء الذي لم يكن يجد له عمار تفسيراً هو الأسئلة التي كان يتعرّض لها بكثرة من الأتراك وحتى العرب غير السوريين من المقيمين في تركيا. لم تكن الأسئلة المتعلقة بالحرب هي ما يثير استغرابه، بل أسئلة تتعلق بسوريا وحياة السوريين فيها بمعزل عن الحرب، أسئلة عامة مثل: هل عندكم كهرباء؟ هل عندكم هواتف؟ هل عندكم سيارات؟ لم تكن الأسئلة متعلقة بمناطق النزاع المسلح، والتي انقطعت عنها الخدمات وأصبحت تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، كان السائلون يستفسرون بسذاجة وجهل عمّا إذا كان السوريون قد عرفوا الكهرباء أو العربات التي تمشي على عجلات أو غيرها من سمات الحضارة بشكل عام، وكأنّ سوريا كوكب آخر أو بقعة بدائية تقع في مجاهل قارة غير مكتشفة، وكأنهم لا يعلمون أنها تحدّ بلادهم جنوباً، وأنه حتى زمن ليس ببعيد كانت تربط البلدين علاقات سياسية واقتصادية قوية.
لكن السؤال الذي توقف عنده عمار في إحدى الولائم التي تمت دعوته إليها مع أخيه الأصغر كان من أحد المدعوين لدى تقديم صحن من الفاكهة بعد الوجبة الرئيسية.
سأل الرجل عمار: هذا موز، هل تعرف الموز؟ لا أعتقد أنك تذوقته في سوريا. إنه لذيذ جداً.
ضحك عمار وقال: أعرفه ولا أحبه كثيراً. لكن حسن تدخل في الحديث محتداً: نحن لم نكن جائعين في بلادنا. نعرف الموز وغيره جيداً.
حاول عمار أن يخفّف من إحراج الرجل قائلاً: في الثمانينات كان الموز مفقوداً. لكنه أصبح متوفراً بعد ذلك.
لكن عمار بتعليقه هذا أثار فضول الرجل أكثر ودفعه إلى سؤال المزيد من الأسئلة عن حصار الثمانينات وما بعده، وعن المواقف السياسية للحكومة السورية وعن إسرائيل وأمريكا والصهيونية والمقاومة والثورة والخدمة الإلزامية، إلى الحد الذي تمنى فيه عمار لو أنه أجاب إنه لم يذق الموز في حياته حتى ينتهي النقاش عند ذلك الحد.
جنة من الموز
الأسئلة حول الموز تكرّرت كثيراً مع عمار وأخيه، لا يعرف إن كانت تلك مجرد مصادفة أو أنّ هناك سمعة ما عن السوريين وعلاقتهم مع الموز. وفي إحدى الزيارات إلى منزل صديق سوري، كان هناك زائر آخر أردني يعمل في منظمة إغاثية تقدّم الخدمات للاجئين السوريين في مخيم الزعتري. وخلال الجلسة كان يتذمر من تأفّف السوريين وتطلبهم، حيث كانت المنظمة توزع وجبة دجاج مع موزة واحدة لكل شخص في المخيم، وبعد شهر من توزيع المواد نفسها، عبّر السوريون عن استيائهم ومللهم من نوع الطعام. واختتم الموظف الإغاثي حديثه بالقول: لا أفهم كيف يتذمر سوري من الموز، فهو لم يذقه في حياته، وكان محروما منه في سوريا!
نظر عمار إلى الزائر الأردني، وقال بكل جدية: معك حق، أنا لم أعرف الموز في حياتي قبل أن آتي إلى تركيا. الموز في سوريا أغلى من الذهب، إنكم تقدمون للسوريين ما لم يكونوا يجرؤون على أن يحلموا به، موزة كل يوم! إن لم تكن هذه هي الجنة، فماذا تكون؟
بعد خمس دقائق من الصمت غير المريح، انفجر جميع السوريين الموجودين في الجلسة ضاحكين، ضحك عمار حتى سالت دموعه وكاد يختنق من السعال، أما الموظف الأردني، فابتسم ابتسامة مرتبكة ثم قطب حاجبيه غير مدرك للدعابة التي مرّت من فوق رأسه.