كانت لحظة إطلاق أغنية "يلا إرحل يا بشار" لحظة مفصلية في سياق الحدث الثوري السوري في السنوات السبع الماضية، إذ كانت الأهزوجة أشبه بإعلان القطيعة التامة من قبل الحركة الثورية مع بشار الأسد كشخصية تكثيف لنظام استبداد وفساد عاشه السوريين وغيرهم على مدى عقود أربع. كان الإبن قد تقمّص روح أبيه، ومع وراثة الابن لعرش والده ورث أيضاً حقد السوريين على الأب، حقدٌ لم يحاول الابن تخفيفه بل زاد من حدّيته دافعاً بالأمور نحو المزيد من التفاقم.
ولطالما كانت موضوعة "النشيد" أو الأهزوجة الجمعية جزءاً لا يتجزأ من أي حرب. إن كل حرب في التاريخ قد أطلقت أهازيجها وأناشيدها التي، وإن كانت توّثق المرحلة من جهة، فإنها من الجهة الأخرى تعطي التنافر بين الطرفين المتصارعين معنى هوياتياً، بمعنى أن يصبح لكل طرف أدبه وفنه الخاص، والذي يميّزه عن غيره. نحن نتحدث هنا عن جملة من الرموز والإشارات التي تميّز كل طرف، وتأتي الأهزوجة هنا على الصعيد الشعبي كأكبر تكثيف للرمز والإشارة.
كان يميّز الثورة الفلسطينية مثلاً مجموعة من الأغاني التي يعرفها كل فلسطيني، هي جزء من الهوية الفلسطينية. كما وثق البارتيجاني (حركة المقاومة الإيطالية ضد الاحتلال الألماني المتحالف مع النظام الفاشي بقيادة موسوليني) الإيطاليين مثلاً، وجودهم بأغنية عرفت وترجمت إلى عدة لغات، كانت هتافاً جماهيراً وحّد كل المقاتلين الإيطاليين ضد الفاشية، وهي أغنية بيلا تشاو (وتعني وداعاً يا جميلة في الإيطالية، وهي أغنية فولك إيطالية تم تبينها لتصبح نشيد البارتيجاني المقاتلين ضد الفاشية، تستخدم اليوم في جميع أنحاء العالم كنشيد مقاوم للفاشية)، وهي اليوم جزء من هوية أعداء الفاشية في إيطاليا، بل والعالم أجمع.
فإذاً، لربما كانت يلا إرحل يا بشار المكافئ السوري لـ بيلا تشاو، فقد كانت مفصلية ومركزية في السياق التاريخي لسوريا في العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين، فعدا عن أنّ قاشوشها (المغني ابراهيم القاشوش، وهو من ينسب إليه تأليف وهتاف أكثر هتافات الثورة السورية انتشاراً. هناك معلومات متضاربة حول فيما لو كان هو المؤلف والمؤدي الحقيقي أو لو كان هو المؤلف فقط، بينما قام بأداء تلك الهتافات شخص أخر، ما يهم هنا أن التعامل الجمعي مع تلك الهتافات قائم على نسبتها جميعاً للقاشوش)، قد تمت تصفيته على يد النظام بُعيد أيام قليلة من تأدية الأغنية لأول مرة في ساحة العاصي، فهي كانت أيضاً صرخة لا يمكن تجاوزها أو ادّعاء عدم معرفتها. تلك النغمة السهلة الوصول إلى أذن المتلقي كانت إعلان قطيعة مطلقة، وكان صداها يتردّد حتى في أوساط المؤيدين، وكان لابد لهذه الحالة أن تنتج ردة فعل لدى السلطة وجمهورها. ومن هنا كان لا بد أن يتم صناعة محاكاة لتلك الأهزوجة كي تحوّر إلى نحنا رجالك يا بشار، وهي البديل المؤيد لـ "يلا إرحل يا بشار" الثورية، كل هذا كان قبل أن يلتقط مالك جندلي تلك الثيما الرئيسية في الأهزوجة، ويحولها إلى عمل سيمفوني ضخم أطلق عليه اسم قاشوش الحرية.
حرب الأغاني بدأت مع "ياحيف"
وعلى كل حال، لم تبدأ حرب الأهازيج والأغاني مع يلا إرحل يا بشار، بل بدأت هناك مباشرة حيث بدأت الثورة، بدأت مع يا حيف لسميح شقير، الأغنية التي أطلقت صرخة يا حيف على "الخاين اللي بيقتل شعبه"، والتي كانت بمثابة إعلان الوجود الصريح والعلني لما قد أصبح لاحقاً الثورة السورية.
لم يطل الزمان بالمؤيدين كي يتهافتوا على إطلاق عدة نسخ تشكل محاكاة رخيصة وضعيفة الأداء للأغنية الأصلية، يا حيف الأسد اتخذت شكلاً "وطنياً" كما أطلقوا عليه، ومن عادة الطغيان احتكار الأوطان، حيث أطلق جمهور السلطة صرخة الـ "يا حيف" بوجه حكام العرب وعلاقاتهم المشبوهة بإسرائيل، وإن لم يكن واضحاً حينها كيف يمكن لأغنية تستهجن أداء رجال السلطة واستبدادهم أن تواجه بأغنية تتحدث عن حكام العرب وخيانتهم؟ فقد نالت "يا حيف-النسخة الوطنية" انتشاراً واسعاً ضمن صفوف المؤيدين، ولا يستطيع المرء أن يعي بشكل كامل حتى هذه اللحظة كيف استطاع ذلك الجمهور أن يلعب دور المظلومية عندما كان رجال عسكرهم يملؤون موقع القاتل الوحشي يومياً وبنجاح بارز،. تلك المظلومية لم تكن موجهة ضد حكام العرب فقط، بل اشتكت أيضاً من "ظلم" المتظاهرين والحركة الشعبية عموماً، ومن موقع المظلومية ذاته أطلق المؤيدون نسخة نوار حيدر من يا حيف.
أنا وياك.. أداء وتحوير متعدّد
أما الأغنية التي كان لها الحظ الأكبر من التكرار في أواسط المؤيدين كانت دونما أي شك "أنا وياك"، أغنية يبدو الوصول إلى أقدم نسخة منها بالغ الصعوبة، هذا وإن كانت النسخة الأقدم هي في الأصل أغنية شعبية عراقية، فإنها في السياق السوري ليست الأشهر على الإطلاق، فإن البحث عن الأغنية على محركات البحث الرقمية ينتهي بالوصول إلى عدد كبير من النسخ التي أبدع أصحابها تأليف محتوى مختلف يناسب طرفاً معيناً من أطراف الحدث السوري.
ومع أن أشهر نسخة هي تلك التي كانت تسبح وتدور في فلك السلطة برموزها وشخوصها بشكل عمومي، فإن نسخاً تبعت ذلك كانت أكثر وضوحاً من حيث المحتوى الطائفي أو من حيث الدعوة للقتل. الرغبة في القصف والإبادة تظهر صريحة دون مواربة كما في النسخة التي قام بأداءها طفل لم يتجاوز العاشرة من العمر. تحوّلت تلك الأغنية بعدها إلى أيقونة الفن المدافع عن سوريا الأسد وجزء من هوية المدافعين عنها، حتى أنها وصلت لمقاتلي حزب الله الذين قاموا بتأليف كلماتهم الخاصة أيضاً مهددين بالدعس على أهالي المدن السورية الثائرة، ومن ثم نجد نسخة من الأغنية تعود لمجموعة من جنود الأسد الذين يحاولون توصيف نمط حياة المجندين في جيش النظام، ويشتكون أحياناً وضمن حدود "التهذيب" التي يفرضها سقف الوطن من سوء الأوضاع التي يعيشونها.
لاحقاً، ونتيجة بساطة التوزيع الموسيقي والنغمة الجذابة، فإن الأغنية بعد شهرتها قد تجاوزت حدود جمهور السلطة وانتشرت حتى في أوساط جمهور الثورة والمعارضة، وكان الكثير يستمع إليها سراً، وكان أن قام بعض من عناصر الجيش الحر بتأليف نسخهم الخاصة التي أطلق عليها جميعاً "أنا وياك جيش حر" رداً مباشراً على نسخ النظام، فأول نسخة كانت رداً مباشراً على أهزوجة الطفل الدموية، كان المؤدي يعبّرعبرها عن تضامنه مع أهالي كل المدن والبلدات وحتى الفصائل والهيئات التي عبّر الطفل عن رغبته بإبادتهم. لم يمر الكثير من الوقت قبل أن ينشر ذات المؤدّي، وهو كما يبدو مقاتل من الجيش الحر نسخة أخرى كانت المكافئ الحقيقي لنسخة الطفل حيث لم تخلو الأهزوجة من دعوات القتل والإبادة على أساس طائفي هي الأخرى. كذلك قام لاحقاً، بعض من مقاتلي الجيش الحر في حلب بتأليف نسخة من الأهزوجة موجهة ضد داعش إبان المعركة لتحرير مناطقهم من سيطرة مقاتلي الدولة الإسلامية. وفي نسخة أخرى من الأغنية بعنوان أنا وياك-دفاع وطني، يسترسل المحتوى هنا في وصف سلوكيات جيش التعفيش وسرقة الأثاث والمعدات المنزلية، وتنتهي النسخة بأن يقول المؤدي: "لا تزعل يا سوري مني، بس العرعور مجنني". نهاية تبدو مناسبة وصريحة، ويبدو أن مؤلف تلك الكلمات كان صريحاً بما يكفي مع نفسه ليصف كيف تتم سرقة الغسالات والبرادات وقطع الذهب من يد العجائز.
و بعيداً جداً (كما يبدو) في الحرب الدائرة بين وحدات حماية الشعب وداعش قام بعض مقاتلي عناصر الـ YPG بتأليف نسختهم الخاصة من الأهزوجة دعماً للأخيرة وتحدياً لعناصر داعش. ومن القامشلي إلى الغوطة حيث نشر مجموعة من شباب من الغوطة إبان الإقتتال الداخلي بين الكتائب نسخة يحثون فيها الكتائب على التلاقي وتوحيد الصف بعد حفلة تقريع مناسبة لكل الفصائل المشاركة في الاقتتال الذي أدى إلى تمزيق الغوطة وجعلها هدفاً سهلاً آيلاً للسقوط. سقوطاً كانت نتيجته تهجير أهل الغوطة كما الكثيرين. ومن على متن باصات التهجير القسري، ظهرت النسخة الأخيرة من تلك الأغنية حتى هذه اللحظة، فقد قام مجموعة من الشباب بتأليف كلمات أغنية "أنا وياك-والله راجعين" و قاموا بغناءها أثناء مرورهم بقرى الساحل في طريقهم إلى المنفى.
ويبدو البحث في تلك الحرب حول "أنا وياك" دونما نهاية، يمكن البحث عن نسخ لا نهائية تخص مجموعة من الكتائب المحلية هنا، أو شباب حارة معينة هناك لا يعرف عنها لا التاريخ ولا الزمن، ولكنها ساهمت بإضافة شيء ما لحرب كانت مكافئ شعبيٌ وأهزوجي الطابع للحرب الساخنة الدائرة على الأرض، حرب قد تبدو عبثية لا من حيث الهدف، فأهداف الجميع واضحة: البقاء على كرسي الحكم، الوصول إليه، إقامة دولة الاسلام، أو إقامة دولة مدنية لجميع السوريين، في الانعتاق أو تجديد العبودية.. ولكن العبثية تكمن جلية في المآلات التي تبدو غير منطقية على الإطلاق، لا منطقية عبّرت عن نفسها هي أيضاً عبر نسخة من "أنا وياك" قامت بأداءها، بتول محمد، بعنوان "أنا وياك- من سوريا".
مثنويات متضادة
والحقيقة أن تلك الحرب التي دارت رحاها في الحفلات واللقاءات الجمعية وزيادة حطبها عبر زيادة مشاهدات النسخة على مواقع اليوتيوب، كفيلة، كانت وما زالت، بإضافة بعد آخر إلى المسألة السورية برمتها، وخصوصاً ما يمت لعملية التحليل السياسي وتحليل المحتوى بصلة، حيث يقوم وعي جمعي يحيط بالحالة السورية أكاديمياً ومعرفياً، بل وسياسياً أحياناً، على تلخيص الحالة السورية إلى مثنوية واضحة الأطراف، يأخذ كل طرف منها حده الأقصى في كل شيء، "مقاومة النظام الأسطورية مقابل عمالة المعارضة المرتهنة" أو "صمود الشعب وحركاته المحقة مقابل خبث وإجرام النظام الدموي"، "طائفية النظام مقابل مدنية سلمية المعارضة"، "طائفية المعارضة مقابل حماية النظام للأقليات و التعددية".. كل تلك المثنويات، والتي يقوم جزء هام من مواقف البعض وآلية تحليلهم للوضع السوري على إحداها، تأتي "أنا وياك" بنسخ السياق السوري جميعها لتثبت فشل ذلك المنظور المثنوي، إنها ليست حرباً بين طرفين، وعاجزة أن تراها بذلك المنظار.
الثورة أنقذت موسيقى الراب
أما الحرب الطاحنة، والتي شغلت قطاعاً واسعاً جداً من الجمهور الشاب، سواء لصالح المعارضة أو لصالح الموالاة، فقد كانت تظهر بشكلها الوحشي عبر موسيقى الراب، والتي يمكن القول أنها موسيقى عصر الثورة في سوريا، فإن المرحلة بعد عام 2011 في سوريا لم تنقذ أي فن "بديل" من براثن الشللية أو النخبوية كما أنقذت موسيقى الراب. وكان الحال، أنّ هذا النوع من الموسيقى كان ينمو سريعاً في سوريا ما قبل الثورة ولكنه لم ينتشر بالشكل الذي فعله بعد بدايتها، فقد تمّ استخدام هذا النمط هو أيضاً من قبل الأطراف المختلفة في ساحة الصراع، وكانت أغنية داعس على القرداحة أشهر الأغاني التي أنتجها رابرز سوريا الشباب، فإن الأغنية كانت قد وصلت بين فئات الشباب إلى شهرة لم يسبقها إليها إلا أغاني "يا حيف" وأغاني الساروت والمعصراني، تبعتها أكثر من أغنية كانت تعلن وضوحاً وقوفها إلى جانب الثورة مثلاً أنا معارض و لأنو حاج للرابر إمسي ريفو وسوريا للرابرعمر أفندم، وفي نفس الوقت كان مؤيدو النظام يطلقون أغانيهم الخاصة، والتي كانت توصف التظاهر على أنه فتنة والأمن السوري على أنه نعمة من الله كأغنية أنا سوري قمة للرابر موردر أيز أو في أغنية مشتركة لـ فولكينو أم سي وكولونيست بعنوان باسمكم، والتي كانت تتغنى ببطولات الجيش السوري، وإسماعيل تمر الذي نشر مجموعة من الأغاني التي لم أسمع منها ما يعلن وضوحاً وقوفه مع النظام، ولكنه يتبنى في أغانيه كل خطاب النظام المحرض ضد الثورة والمتظاهرين، وهو عموماً محسوب على ماكينة النظام وخطابه.
ولعل أشهر ما حصل في ساحة الراب السوري في بداية الثورة كان تلك المعركة بين أم سي فولكينو وهو رابر من مدينة حمص و دي كي وهو رابر من مدينة دمشق. كان محور تلك المعركة وقوف الأول مع النظام والثاني مع الثورة.
يمكن القول عموماً أن جمهور النظام وحتى مؤسساته، كانت أسرع في التقاط الراب كأسلوب تحريض شبابي منتشر وسهل الإنتاج، كذلك فإن سيطرة النظام الواضحة شملت أيضاً الغناء الشعبي المرافق للأعراس والاحتفالات الشعبية، موسيقى الدبكة التي كانت هي الأخرى تشق طريقها لتصبح الموسيقى الرسمية في سوريا في السنوات العشرين الأخيرة، بينما تبدو سيطرة المعارضة بكل تلويناتها أوسع في ميدان الموسيقى البديلة.