موسيقيون على الجبهة


ما الذي يفعله الموسيقيون حين يجدون أنفسهم فجأة داخل الحرب؟ كيف يتصرفون؟ وماذا تفعل اليد التي كانت تعزف الموسيقا حين تحمل السلاح وتجد نفسها فجأة وسط معركة لا ناقة ولا جمل لأصحابها فيها؟

03 كانون الثاني 2019

(لوحة رسمت خصيصا لهذه المادة/ خاص حكاية ما انحكت)
أليس الشامي

كاتبة سورية (الاسم مستعار)

(الأسماء في القصة مستعارة  لضرورات أمنية)

(دمشق)، تجدّد الأمل في قلب مضر بعدما صدر قرار تسريح عاصم، أحد أصدقائه وزملائه الموسيقيين، من دورة 102 صف ضباط بعد انتظار موجع دام ثماني سنوات، وبعد أن نجا من الموت المحقّق في أكثر من مناسبة.

التحق عاصم بخدمة العلم في أوائل عام 2011، بعد أن تخرج من كلية الموسيقا في حمص، لم تكن الخدمة العسكرية كارثة في ذلك الوقت، لكنها كانت هماً أراد عاصم أن يزيحه عن كاهله، ولم يتوقع أن تتضاعف السنوات التي كان يفترض أن يمضيها في خدمة شكلية يرشو فيها الضابط المسؤول عنه ليستطيع ترك القطعة في إجازة حيثما أراد، وأن تمرّ ثماني سنوات من عمره، تنقّل فيها بين أسوأ الجبهات وأعنفها في مدينة حلب، شاهد أقرانه يقتلون ويلفظون أنفاسهم الأخيرة بين يديه. لملم الأوصال المقطعة وجرّ الجثث التي اختفت معالم وجوه أصحابها، شاهد شباباً يضحكون ويبكون ويصرخون في هيستيريا جماعية، وشباباً يطلقون النار على أنفسهم ليحصلوا على إجازات أو تسريح. نزفت أذنه من أصوات الانفجارات والقصف المدوية، استخدم الروسية في أكثر من مناسبة وأطلق النار، مع أنه لا يعلم إن أصاب أحداً أو لا. فعند لحظات الاشتباك والاقتحام والهجوم والهجوم المضاد يختلط الحابل بالنابل، وينهال الرصاص بعشوائية عبثية، وسط هلع الشبان الصغار الذين ليس أمامهم سوى أن يتابعوا الإطلاق دفاعاً عن أنفسهم كعبيد معصوبي الأعين في حلبة مصارعة.

أما مضر، فقد التحق بالخدمة الإجبارية منذ أربعة سنوات، أي في عام 2014، كان أوفر حظاً من عاصم، وأمضى أغلب خدمته العسكرية في جبهات ساكنة نسبياً، بين مخيم الوافدين في عدرا وقطنا في ريف دمشق. ولا يزال محتفظاً به كعسكري حتى الآن. لا يتوقع مضر أن يتم تسريحه قريبا، لكن تنفيذ قرار تسريح الدورة فعلاً 102 بعد شهور طويلة من إشاعة صدوره إبان انتهاء معركة الغوطة جعله يفكر في أنّ الخروج من مصيدة الجيش المميتة ليس مستحيلاً. بقي أن يحاول أن يحافظ على حياته قدر الإمكان حتى يحين ذلك اليوم عندما يقدر له ذلك.

علق أحد الحضور متأسفاً: موسيقيين عالجبهة؟ والله حرام، شو فهمكون إنتو بالبارودة والدبابة؟

عند أول إجازة حصل عليها مضر، زار صديقه عاصم في بيته في حي جرمانا في مدينة دمشق، وفي يده كيلو حلاوة الجبن التي يعشقها. كانت المناسبة في المنزل أشبه بتحرير مخطوف، أو عودة مفقود أو خروج من السجن، كانت أم عاصم تلاحقه بعينيها القلقتين أيّنما تحرّك ابنها خوفاً من أن تأخذه منها من جديد دورية شرطة عسكرية تظهر له من تحت الطاولة أو من خلف المكتبة.

"طالعلنا هالكمنجة، والله اشتقت غني معك معلم"

ضحك عاصم متوتراً، وفتح علبة الكمان ليخرج منها كمانه وقوسه، ضبط الأوتار وبدأ بالعزف بيدين مرتجفتين.

(رسم يمثّل مسلحا يحمل بزقا وسلاحا في آن/ خاص حكاية ما انحكت)

غنى مضر، المغني الشرقي المحترف، أغنية عبد الوهاب (جفنه علم الغزل). أفلتت بعض النوتات من عاصم أثناء العزف لكنه استطاع إكمال المقطوعة. وتعالى تصفيق الحاضرين من أقارب عاصم.

"عطونا شي لوديع الصافي، لفريد.."

ضحك عاصم وهو يشعر بالدم يعود للجريان في عروقه وعروق كمانه، وبدأت جلسة الطرب مع صديقه الذي لم يتسرح بعد، مرت الدقائق والساعات وسط غناء مضر ومشاركة الضيوف ببعض المقاطع التي يحفظونها. ثم أحضرت الأم الضيافة، الشاي والمتة والعَرَق والتَّبولة وحلاوة الجبن التي جلبها مضر معه.

- شو عاصم؟ ما بدك قطعة حلاوة الجبن؟ جبتلك ياها من الميدان

- والله يا معلم ما خرج، محسوبك صاير معو سكري

- أوف! من شو السكري؟

ضحك عاصم قائلاً: من حلب معلم.

هز مضر رأسه قائلا: ما فهمت.

-لك ما كنت أنا بحلب وقت هجموا المسلحين على مدرسة المشاة بآخر ال2012؟ بوقتا أكلت كم رعبة نقصولي عمري مدري كم سنة. طلعت عايش بس عندي رجفة إيدين وصار معي سكري.

تدخلت أم عاصم قائلة: الحمد لله رجعتلنا سالم. وكلو بيهون.

علق أحد الحضور متأسفاً: موسيقيين عالجبهة؟ والله حرام، شو فهمكون إنتو بالبارودة والدبابة؟

كان يود عاصم لو يشرح لصاحب التعليق أن الغالبية الساحقة من زملائه في الخدمة كانوا يفضلون تواجدهم في مكان آخر، وأنهم جميعاً ، حتى من نجا منهم من إصابة مباشرة، عانوا ويعانون من آثار عصبية ونفسية كارثية بسبب الأهوال التي عاشوها خلال سنوات الخدمة التي كانوا يظنون أنها لن تنتهي يوماً.

لكنه التفت إلى صديقه عوضاً عن ذلك: قوم ندخن سيجارة عالبرندا.

جلس الاثنان إلى كرسيي النايلون المطويين، واستندا إلى طاولة الفورميكا التي أتلفتها الشمس والمطر، وهما يدخنان سيجارتي لف كانت إحداهما ترتجف بين إصبعي عاصم.

-يا زلمة هلكت وأنا أبعت طلبات لينقلوني من أول يوم على مسرح أو أوركسترا الجيش. عبث. وأول ما عرفوا بالقطعة إني بغني هلكو سمايي، صار الضابط ما يناديلي غير ولاك مطرب طيزي. تعا ولاك مطرب طيزي وروح ولاك مطرب طيزي.

أجاب عاصم متنهداً: انسى معلم. ما بتتذكر عماد؟ ما ترك واسطة ما حطها لحتى ما يحطوه عالجبهة ويحطوه بأوركسترا الجيش. وآخر شي انلحش على خط النار، وعلق باشتباك وماتوا كل اللي معو، واتصاوب وانخطف وتبهدل، وبعد ما لقوا أهلو طريقة يوصلوا فيها للكتيبة اللي خطفتو ودفعولها مدري كم مليون لفلتوه.

-أوف! ووينو هلأ؟ رجع عالشام؟

- شو مجنون يرجع عالشام؟ الخاطفين فلتوه بتركيا، طلع تهريب على أوروبا وصار بهولندا، عم يعزف ويعمل حفلات وما أحلاه.

ضحك مضر وهو يتذكر قصة مشابهة حصلت مع عامر، عازف ناي شاب سوري، شاء قدره السيئ أن يساق إلى خدمة العلم الإلزامية، وأن يتواجد في جوبر على أحد خطوط التماس الساخنة بين الجيش النظامي والجيش الحر في شهر تموز من عام 2013، عندما هجم الجيش الحر على المخفر وكتلة الأبنية الفنية وما عرف بكتيبة الموسيقا، واستطاع اقتحامها وقتل أغلب الجنود المحاصرين داخلها. كان عامر يحاول عبثاً الوصول إلى السترة الواقية من الرصاص، والتي كانت معلقة فوق رأسه على الحائط. وعندما دخل المسلحون من الجيش الحر إلى المكان أعدموا جميع من كانوا يرتدون الستر الواقية وأبقوا على حياة عامر ومجموعة صغيرة من الجنود وأخذوهم كأسرى. لم يعرف عامر لماذا كان معيار انتقاء الأسرى متعلقاً بارتداء السترة الواقية من عدمه. ربما اعتبر عناصر الجيش الحر السترة دليلاً على أن الجنود كانوا يطلقون النار، على أية حال فقد كان عامر أوفر حظاً من زملائه المساكين لأنه لم يصل إلى سترته المعلقة على الحائط.

في الأسر، استطاع عامر أن يحسّن من ظروف إقامته وإقامة من معه من أسرى بسبب حدث في غاية الطرافة. فمن قطعة أنبوب بلاستيكية صنع عامر ناياً بسيطاً وأصبح يعزف ألحاناً شعبية وأخرى أعجبت عناصر الجيش الحر بشكل خاص، أغان ثورية مثل يلا ارحل يا بشار ويا وطنا ويا غالي وغيرها. وعقدت حلقات الدبكة كل مساء حول ناي عامر البلاستيكي، الذي كان في تلك الساعات القليلة يتحكم بالجميع مثل الساحر. لكن حظه الجيد لم يتوقف هنا، ففي أحد الفيديوهات التي صورها الجيش الحر للأسرى الذين كانوا مجبرين على طأطأة رؤوسهم رفع عامر وجهه مقابل الكاميرا لأجزاء من الثانية، كانت كافية ليتعرف عليه أحد أصدقائه من العاملين في إحدى المنظمات الإغاثية في تركيا، فبذل الجهود للتواصل مع المجموعة المسلحة التي طلبت مبلغاً من المال للإفراج عن عازف الناي، وبعد دفع الفدية أطلق سراح الشاب الذي كان الحظ حليفه في كل ما جرى. ويعيش لاجئاً اليوم في إحدى الدول الأوربية.

(أغنية "يلا أرحل يا بشار" خلال مظاهرة في مدينة حماة، وهي الأغنية التي حازت شعبية كبيرة في الثورة السورية، وهي ذات الأغنية التي غناها عامر حين احتجزه المسلحون. المصدر: يوتيوب والأغنية تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)

سحب عاصم آخر نفس من سيجارته قبل أن يرمي العقب من الشرفة.

-أحياناً بحسو متل المنام. تمن سنين وأنا حاسس حالي برا جسمي. مين هاد اللي لابس بدلة مموهة وعم يفك ويركب مشط البارودة؟ ليش حامل سلاح بدال قوس الكمنجا؟ ليش بالمهجع أو بالبناية المهدمة عم اتقاتل مع مدري مين بدال المسرح؟ يا ترى هالسنين اللي مرقت كنت بس عم اتمرن واشتغل فيها وين كنت صرت؟

ربت مضر على كتف صديقه: ما صار شي معلم، هلأ بترجع، كل عمرك 32 سنة.

-مع رجفة ايدين وسكري. يمكن حتى طلعة المسرح ما عاد تواتيني.

-قوم خلينا نرجع لجوا. بكرا بترجع كل أمورك تمام.

عاد الشابان إلى الداخل، عاصم بقلب مثقل بتجربة لن تمحوها فرحة التسريح، ومضر بأمل وحيد، أن يخطفه المسلحون وينتهي به الأمر في أوروبا بضربة حظ.

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد