تكسي الحكايا


"الحش وامشي"، هي عبارة السائق أبو حسام المعتادة، عندما يسألونه عن الحساب. هو لم يتأخر عن موعده يوماً، يتعامل مع الجميع بصبر وإيجابية، ويشعر الجميع معه بالراحة والأمان ما يكفي للإفصاح عن قصصهم، رغم أن سيارته تمشي بلا مرايا جانبية! فما هي تلك الحكايا التي تختزنها تلك التكسي؟

31 كانون الثاني 2019

(لوحة رسمّت خصيصا لهذه الحكاية/ خاص حكاية ما انحكت)
أليس الشامي

كاتبة سورية (الاسم مستعار)

(هذه الحكاية نتاج تعاون بين حكاية ما انحكت وراديو سوريالي، يمكنكم سماع هذه الحكاية برنامج حكاية وانحكت

(دمشق)، يشعل أبو حسام سيجارة الإيليغانس الفضية السميكة، واحدة تلو الأخرى، وهو يجلس وراء مقود سيارة السابا الإيرانية الصفراء، السيارة التي تعتبر أكثر السيارات شيوعاً بين سيارات الأجرة في مدينة دمشق، بسبب رخص ثمنها، وسهولة إيجاد قطع غيار لها وصرفها المعقول للبنزين، ما يجعلها الخيار المفضل لدى السائقين. كذلك الأمر مع سيجارة الإليغانس، التي تعد أفضل الأرخص بين ماركات الدخان الذي غلا ثمنه بشكل كبير مع ارتفاع الدولار وهبوط الليرة الحاد. نادراً ما تشاهد سائق أجرة سوري لا يدخن، مع أنّ التدخين أثناء القيادة مخالفة يمكن لشرطي المرور أن يغرّم السائق عليها. لكن تجاهل هذا القانون بات عرفاً اعتيادياً، خاصة مع استحالة الامتناع عن التدخين خلال ساعات العمل في شوارع دمشق المزدحمة والمليئة بالحواجز والمنغّصات ومسبّبات التوتر  والغضب.

يعمل أبو حسام كسائق أجرة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، أمضى أكثر من نصف عمره وراء المقود، وهو لم يتجاوز الخمسين. مع أنّ منظره يوحي بأنه أكبر بكثير، بعد أن غطت التجاعيد وجهه، وغارت عيناه، وتلفت أسنانه من كثرة التدخين.

 يعاني سائق الأجرة (الطبيعي) الذي يعمل في المجال ليكسب رزقه من المشاكل نفسها التي يعاني منها السوريون من صغار الكسبة، فلا نقابة تحميهم وتنظم عملهم، ولا جهة رسمية تسهّل إجراءاتهم

مع أن سمعة سائقي الأجرة ليست طيبة في سوريا، وخاصة في دمشق، ومع أن كثيرين منهم رجال أمن متخفون، يعاني سائق الأجرة (الطبيعي) الذي يعمل في المجال ليكسب رزقه من المشاكل نفسها التي يعاني منها السوريون من صغار الكسبة، فلا نقابة تحميهم وتنظم عملهم، ولا جهة رسمية تسهّل إجراءاتهم. إذ يتعيّن على سائق الأجرة أن يحصل على شهادة قيادة عمومية، يستطيع بموجبها تحويل سيارته إلى سيارة خدمة، لكن يقع على عاتقه بالمقابل تجهيزها بما يلزم على حسابه الخاص، فهو يفصل فانوس الأجرة التي يضع عليها رقم السيارة الذي تزوّده بها دائرة المرور، ويشتري لصاقة تعرفة الركوب، وبطاقة السائق المطبوعة التي تثبّت على واجهة السيارة من الداخل، والعدّاد الذي عليه تعديله عند كل تغيير في الأسعار. وعليه أيضاً أن يدفع مبلغ التأمين الإلزامي الخاص بسيارات الأجرة، ويعادل 50 دولار أمريكي، (23 ألف ليرة سورية)، كما يجب أن تكون السيارة صفراء اللون حصراً. كما يعاني سائق الأجرة أثناء موسم المخالفات، والذي يتزامن مع موسم الأعياد، أو نهاية السنة، التي يتصيّد فيها شرطي المرور سيارات الأجرة ليخالفها بأي شيء حتى يتخلص من صفحات دفتر المخالفات، وعلى الرغم من أنّ أجرة التاكسي قد ارتفعت مؤخراً بشكل كبير، حوالي عشرة أضعاف قيمتها قبل الأزمة، إلا أنّ سائق الأجرة الذي لا يملك مزايا خاصة، كأنّ لا يستطيع تجاوز دور تعبئة الوقود ببطاقة أمنية أو عسكرية، أو أن لا يحصل على بنزين مجاني من كازية عسكرية، يعمل من الصباح إلى المساء ليحصل على أجر يومي بالكاد يكفي مصروفه وعائلته إذا طرحنا جانباً مصروف السيارة من بنزين ورسوم وصيانة.

يعمل أبو حسام كسائق سيارة أجرة منذ أكثر من ثلاثين عاماً. ولديه زبائن دائمون يطلبونه على الهاتف ليوصلهم من مكان إلى آخر، مع أنّه مختص منذ أكثر من خمس سنوات بمنطقة جرمانا، التي تعتبر من أكثر المناطق ازدحاماً وأكثرها صعوبة في تحصيل مكان في وسيلة نقل عامة كباص أو ميكرو. عدا عن الوقت الطويل الذي يمضيه الركاب على خط السير العام بسبب كثرة الحواجز ورداءة الطرقات. يفضل زبائن كثر في جرمانا أن يذهبوا إلى وظائفهم، خاصة إذا كانوا يعملون في وظيفة خاصة مع منظمة دولية ما، في سيارة أجرة على الرغم من غلاء أجورها، فأحياناً يستغرق الطريق أكثر من ساعتين في وسيلة نقل عامة للوصول إلى قلب مدينة دمشق. ويتميز أبو حسام عن غيره بأن أسعاره أقل من غيره، كذلك يتميز بأنه لا يتوقف عن الكلام، مما يساعد أدمغة الركاب على الاستيقاظ وهم في طريقهم إلى العمل.

بلا مرايا جانبية

سيارة أبو حسام ذات الفرش المهترئ، لا تملك حتى مرايا جانبية، "كنت حاططهم عند الحداد ليصلحون، بس الله لا يسامحو انتقل على زملكا لما فتحوها وأخدون معو، وأنا ماني حابب فوت لهونيك" يقول أبو حسام.

"طيب وكيف بتشوف العالم وراك يا أبو حسام؟"، سأله أحد الركاب ذات مرة.

"لا تخاف الحامي الله. على كل حال الحمد لله الأسبوع الجاية عندي عملية المي الزرقا، بيتحسن نظري. حاكم هلأ يا دوبني شايف لعند الإشارة"، يتابع أبو حسام كلامه، بينما يمتقع وجه الراكب، ويقود أبو حسام السيارة وكأنه الوحيد في الشارع.

"شو بدي بهالشوفة؟"، ضحك أبو حسام وعدّل الراكب جلسته متوتراً. حاول أن يشد حزام الأمان، لكنه لم يجد القفل: "مو شغال. خلص إنت حطو على صدرك حيلة لما تشوف شرطي". وكأن حزام الأمان موجود فقط لردع المخالفة المرورية، وليس للحماية من آثار حادث ما!

"لا تخاف الحامي الله. على كل حال الحمد لله الأسبوع الجاية عندي عملية المي الزرقا، بيتحسن نظري. حاكم هلأ يا دوبني شايف لعند الإشارة"، يتابع أبو حسام كلامه، بينما يمتقع وجه الراكب، ويقود أبو حسام السيارة وكأنه الوحيد في الشارع.

مع أنّ سيارة أبي حسام تفتقر إلى أدنى معايير السلامة، لكن زبائنه يفضلونه عن أي سائق أخر، بسبب أجرته المعقولة والرحلة المسلية معه. ففي جعبة أبي حسام قصص لا تعد ولا تحصى، ابتداء من قصته الخاصة، ومروراً بقصص زبائنه التي يرويها لبعضهم البعض غير آبه لخصوصيتها، فهو ليس طبيباً نفسياً ليلتزم بقواعد المهنية. لكنه يراعي ألا يذكر تفاصيل وعناوين وأشخاص، فالدنيا صغيرة.

حكاية لكل حالة

يختار أبو حسام من أرشيفه القصص التي تلائم الراكب، فإذا ركبت معه فتاة تصطحب كلبها، يحكي أبو حسام لها عن كلبه الوفي الذي مات برصاصة طائشة في القابون، حيث كان يملك بيتاً عربيا كبيرا يعيش فيه مع عائلته. يومها حصل اشتباك عنيف، وكان الكلب على السطح، وعندما توقف الاشتباك وصعد أبو حسام إلى السطح، وجد كلبه هامداً وقد اخترقت بطنه رصاصة. دفنه أبو حسام في منطقة ترابية بجوار المنزل وسط بكاء ابنته وزوجته.

وإذا شاركه أحد الركاب عن تجربته مع استئجار البيوت وغلاء الأسعار، استفاض أبو حسام في سرد تجربته الخاصة، فبعد أن أصبح الوضع في القابون ينذر بمزيد من التأزم، مع انتشار السلاح بين الشباب، وتوّعد النظام بضرب المنطقة، في منتصف عام 2012، وقبل تفجير خلية الأزمة ببعض الوقت، قرّر أبو حسام أن يخرج من القابون، هو وزوجته وابنته وولداه المراهقان، بسبب تخوفه من تورطهما بشكل ما في حمل السلاح. كان أبو حسام يملك بعض المدخرات التي استطاع بها أن يستأجر في منطقة ركن الدين لبعض الوقت.

بعد شهرين نزح أهل القابون بالمئات بسبب الحملة العسكرية في خريف عام 2012، وبدأت أجارات المنازل ترتفع بشكل غير مسبوق. وشعر أبو حسام أنّ الاستئجار لن يكون حلاً مديداً.

(رسم يوضح معاناة الناس في سورية، بسبب ارتفاع أجار البيوت بشكل جنوني وغير معقول)

"هون تطلعت على حرمتي وقلتلا، شو في معك دهب اشلحي يا مَرة!"، هنا يبتسم أبو حسام بكل اعتزاز، وهو يتذكر كيف انصاعت المرأة على مضض، وكيف طمأنها أبناؤها الذكور بأنّ زوجها لن يتزوج عليها.

باع أبو حسام الذهب الذي كان بقيمة أربعة ملايين ليرة سورية (25 ألف دولار أميركي) في ذلك الوقت، واشترى منزلاً في غاية السوء في أعالي عشوائيات جبل ركن الدين، وأخبر عائلته بالأمر بعد أن تمّ الشراء. وعندما وصلت الزوجة إلى البيت لطمت وجهها رافضة البقاء في تلك الخرابة لحظة واحدة.

"قلتلا مو أحسن ما نرتعب كل ما خلص عقد وبدنا نجددو، قديش رح يطلبوا منا هالمرة؟ هالبيت إلنا صار شو ما كان وما حدا بقا يدق علينا الباب".

يبتسم أبو حسام ثانية، وهو يتذكر كيف أفحم زوجته وأبناءه الذين سكنوا في المنزل منذ ذلك الوقت. وعندما دخل النظام السوري إلى القابون في منتصف العام الماضي، ذهب أبو حسام مع ولديه لتفقد المنزل، الذي كان منهوباً عن آخره، لم يجدوا لا باباً ولا صنبور ماء ولا حتى بلاطاً. عندها عاد إلى المنزل وقال لزوجته: "تخيلي لو ما اشترينا هالبيت شو كان صار فينا".

باكيت مارلبورو أحمر مُهرَّب

عندما استعرت حرب الغوطة الأخيرة في مطلع العام الجاري 2018، ضربت قذائف الهاون دمشق بوتيرة أشد من قبل، لكن أبا حسام لم يتوقف عن العمل ولو للحظة واحدة. "شعب بتنزل قذيفة جنبو بينفض تيابو وبيكمل شغل. بدنا نعيش شو على كيفنا"، هذا ما يقوله لراكب بجانبه.

لم يكن متعاطفاً مع أي طرف كان، هو رجل منهمك بشؤونه الخاصة وشؤون عائلته وشؤون سيارته، مصدر رزقه. يسلّم بحرارة وتملّق على الحواجز، ويوصل العساكر والضباط الذين يطلبون منه توصيلة إلى محطة انطلاق الباصات مجاناً. لكن ليس كلهم، فلديه زبائن من نوع خاص أيضاً، كأحد العساكر المناوبين على حاجز الفرقة الرابعة في يعفور، الذي يضطر جميع الذاهبين إلى الحدود اللبنانية إلى المرور منه. ولأن أبا حسام يبدو موالياً ومعجباً بعناصر الأمن والجيش، قدّم له العسكري الذي يطلبه في الصباح الباكر ليقله إلى مناوبته على الحاجز، باكيت مارلبورو أحمر. باكيت المارلبورو هو العملة الصعبة المتداولة بين الحاجز والمسافرين والسائقين المغادرين إلى لبنان. يكاد الحاجز لا يسمح لأحد بالمرور دون أن يناول العناصر باكيت مارلبورو أحمر مُهرَّب. يبلغ ثمن الباكيت هذه الأيام ألفاً وخمسمائة ليرة سورية على الأقل، أي ثلاثة دولارات ونصف تقريبا. مبلغ كبير مقارنة بباكيت الإليغانس الذي لا يتجاوز النصف دولار. حاول سائقو الخط التحايل على الحاجز بإعطائهم باكيت مارلبورو صيني بدولار واحد، لكن الحاجز سرعان ما تدارك الحيلة وعاقب السائقين والركاب معهم بتفتيش الحقائب والسيارات لساعات طويلة. لم يستمتع أبو حسام بسيجارة المارلبورو. ضحك العسكري: "معك حق أنا ما بحبو كمان". وكان معه (العسكري) صندوق فيه "مئات الباكيتات المسحوبة كأتاوة من السائقين". يقول السائق.

(رسم يوضح أحوال الناس المعيشية في سورية، والتي باتت تضغط عليهم نفسيا واقتصاديا واجتماعيا)

- بتعرف قديش بيسوى هاد الصندوق يا أبو حسام؟ شي مليون ليرة. منبيع الباكيت للبياع بالكشك بألف وميتين ليرة، ونحنا مو دافعين حقو. بيوقف عليه أرخص وبيكسب هو أكتر.

- وبذمتك، قديش يوميتك معلم؟

ضحك العسكري: يعني بأيام الرجل الخفيفة شي خمسين ألف (مئة دولار). لما بيكون في ضغط بتوصل يوميتي لـ 150 ( 300 دولار) ألف ليرة تقريبا.

أخبر العسكري أيضاً أبا حسام بأنه اشترى بيتا وسيارتين من عمله في الحاجز. لكنه لا يخرج بسيارته لأنه يخاف أن تتفتح العين عليه وعلى ما يملك. فيتنقل بالتكسي ويكرم أبا حسام بالأجرة لأنه يعود غالباً دون راكب إلى جرمانا مع شروق الشمس.

كسب مشروع!

شرح العسكري أكثر من مرة لأبو حسام أنه يعتبر كسبه مشروعاً، يتخذ صيغة العمل الحقيقي، فهو يقف تحت الشمس والمطر والبرد، ويجمع البواكيت ويعدها ويقوم بالجمع والطرح والحساب ويوزعها على الأكشاك في دمشق. إنه ليس عملاً سهلاً، وفيه مخاطرة ومجازفة. أما المسافرون الذاهبون إلى بيروت ليتبضعوا بمئات الدولارات أو ليسافروا عبر مطار بيروت ببطاقة سفر مكلفة إلى أوروبا أو الخليج أو ليقضوا عطلة في أحد المنتجعات "فالله لا يقيمون، شو قيمة باكيت المارلبورو بالنسبة لهالعرصات".

ابتسم أبو حسام، وهو يفكر بابنه الأكبر الذي سافر منذ عدة أشهر بعد أن بلغ الثامنة عشرة إلى لبنان هرباً من الخدمة العسكرية، ويعمل في أحد المطاعم بطريقة غير نظامية، ولم يشعل سيجارة واحدة في حياته، لا مارلبورو ولا غيرها.

هناك أطباء ومهندسون وربات منزل وأمهات وجدات وطلاب جامعات وأساتذة ومحامون وحرفيون وتجار، جميعهم يفضلون أن يركبوا مع أبي حسام في سيارته المنهكة، وأن يستمعوا إلى قصصه وقصص غيرهم من الركاب، ويشمّوا رائحة سيجارته التي يطفئها فور تذمر الراكب. لم يفاصل زبوناً من زبائنه الدائمين يوماً، "الحش وامشي"، هي عبارته المعتادة عندما يسألونه عن الحساب، كذلك لم يتأخر عن موعده يوماً، يتعامل مع الجميع بصبر وإيجابية، ويشعرون معه بالراحة والأمان ما يكفي للإفصاح عن قصصهم، على الرغم من سيارته التي تمشي بلا مرايا جانبية.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد