(دمشق)، في ظرف ورقي كبير، وضع الضابط أمانات سامية قبيل إدخالها إلى مهجع النساء في فرع الأمن الجنائي بباب مصلى في دمشق.
حَلَق، ساعة، مبلغ 25 ألف ليرة سورية، هوية وأوراق شخصية، ظرف دواء مسكن.
-معك شي تاني؟
-لا.
-فكي شواطات البوط واتركيهون عالطاولة.
جرت العادة أن يصادر السجانون من الموقوفين أحزمة الخصر وأربطة الأحذية وأغطية الرأس، في حال كانت امرأة محجبة، كي لا يتم استخدامها للانتحار داخل الفرع. اقتاد السجان سامية إلى المهجع، فتح الباب الحديدي وأغلقه وراءها، لتجد نفسها وسط نحو ثلاثين امرأة، جالسات على الأرض القذرة، ورائحة العرق وبقايا عطور نسائية باهتة تجعل الهواء ثقيلاً رطباً، وحبل غسيل مصنوع من شرائط ملفوفة من أكياس الخبز مربوط بين زاوية الباب الحديدي وزاوية باب دورة المياه الموجودة في آخر المهجع، وعليه علقت ثياب داخلية مغسولة تقطر منها المياه وتفوح منها رائحة صابون رديء وصنّة تزكم الأنوف.
طلبت سيدة أربعينية أنيقة، بطريقة لافتة بخروجها عن سياق المكان، طلبت من سامية أن تخلع حذاءها عند الباب وتضعه في الحمام، فحملته ومشت حافية وأسندته إلى حائط رطب بجانب عشرات الأحذية. كان الحمام قذرا بشكل لا يوصف، كانت القاذورات والفضلات تغطي زوايا الجورة الفنية مشكلة طبقة سميكة يستحيل تنظيفها، وكانت المياه تنزل من فتحة في الحائط دون صنبور في دلو حديدي صدئ. شعرت سامية بالدوار لوهلة، ثم استجمعت قواها وخرجت من تلك الغرفة المثيرة للاشمئزاز، لتوجهها السيدة لتجلس في مكان ما بالقرب من الحمام. في المعتقلات يقتضي العرف أن يجلس السجين المستجد وينام بالقرب من الحمام، ريثما يأتي نزيل جديد ويرحل نزيل قديم فيقترب خطوة من باب الخروج ويأخذ المستجد مكانه النتن وهكذا.
اعتقال بتهمة التزوير لا المظاهرات..
لم تكن تلك تجربة السجن الأولى بالنسبة لسامية، فقد اعتقلت أكثر من مرة في عام 2011 بسبب مشاركتها في المظاهرات. وكانت تخرج من السجن مرفوعة الرأس، وتعاود الانخراط في نشاطها السلمي. كانت سامية في الخامسة والثلاثين، تعمل مدرّسة للغة الانجليزية، ومن عائلة متعلمة تنتمي لطبقة دمشق الوسطى. وكانت متماسكة عنيدة، نادراً ما كانت تفقد رباطة جأشها بسبب موقف ما، وعند اعتقالها بسبب التظاهر لم تخف ولم يستطع السجن النيل من عزيمتها. لكن هذه المرة كانت مختلفة. فالاعتقال لم يكن لأسباب سياسية، بل بتهمة التزوير والاحتيال. كانت سامية عام 2014 قد قررت أن تبيع بيتها الذي ورثته عن والدها وكانت تقيم فيه هي وزوجها ووالدتها المريضة وأن تشتري منزلاً أخر في المنطقة.
لم يكن السجانون يخفون استغلالهم الجنسي لبعض الفتيات عندما كانوا يستدعونهن يومياً لمدة ساعة أو ساعتين مقابل مكعبات الجبنة الطرية أو أقلام المكياج الرخيصة أو علبة الشامبو
أمر السجان إحدى الفتيات في المهجع بتفتيش سامية وهي عارية في الحمام. كانت الفتاة في الثامنة عشرة من عمرها. كانت تبدو متأقلمة وصاحبة امتيازات، وكانت فاتنة ومتبرجة، يظهر طرف السروال الداخلي الفوشي (السترينغ) من فوق خصر بنطالها المنخفض. لم تفتش الفتاة سامية عارية واكتفت بدس صدرها ومؤخرتها بلا مبالاة. لم تكن سامية تحتاج إلى وقت طويل قبل أن تعرف أن تلك الفتاة موقوفة هي وصديقتها منذ أكثر من خمسين يوماً بتهمة الدعارة، ولم يكن السجانون يخفون استغلالهم الجنسي لها عندما كانوا يستدعونها يومياً لمدة ساعة أو ساعتين مقابل مكعبات الجبنة الطرية أو أقلام المكياج الرخيصة أو علبة الشامبو. وكانت الفتاة تفضل تلك المعاملة الخاصة على أن تعامل كباقي النزيلات، اللواتي كن يعاقبن بصفعة أو إهانة لفظية، ولا يستطعن طلب أي غرض شخصي مهما كان بسيطاً، ولو من أماناتهن أو على حسابهن الخاص.
نزيلات بتهم مختلفة
كانت النزيلات في فرع الأمن الجنائي متهمات بتهم مختلفة عن اللواتي عرفت في الفروع الامنية في السابق. لم تكن هناك امرأة واحدة معتقلة لسبب سياسي، وكان ثمّة تنوع غريب في طبقاتهن الاجتماعية وتهمهن.
كانت السيدة الأنيقة تضع صليباً في عنقها، وعندما بدأت سامية تنهار وتبكي، كحال كل المستجدات في المهجع، قالت لها السيدة بصوت هادئ: "اهدي حبيبتي، لازم تهدي، مشان ما تمرضي وتجني، ولازم تاكلي، حتى لو ما كان إلك نفس، وإذا كتير تضايقتي صلّى وادعي".
لم تكن سامية مؤمنة على أية حال. ولم يكن المكان بازدحامه وقذارته ورائحته يساعدها على القدرة على التوازن. كعادة النساء استفسرن عن سبب سجنها. عندما انتهت من سرد قصتها إحدى الموقوفات قالت: ما في دخان بلا نار. تلك الموقوفة كانت متهمة بطعن ابن أخيها، وكانت متطوعة في الدفاع الوطني، تخاطب السجانين والمحققين بكلمة (ضيعة). بمعنى أنها ابنة الضيعة مثله، علويّة وتعمل في السلك الأمني مثله، لعل ذلك يكسبها بعض المعاملة الخاصة. كانت الكلمة تنفع مع بعض السجانين دون غيرهم. وكان ذلك مكسباً مقبولاً بالنسبة لها.
نشل وتهريب عملة
في المهجع أيضاً كانت هناك مجموعة من النشالات الكرديات، كن أربعة، ولم تكن المرة الأولى التي يحبسن فيها، لكنهن في هذه المرة قمن بنشل قاضية، ولسوء حظهن ألقي القبض عليهن وقامت القاضية شخصياً بالادعاء عليهن. انسجمت سامية مع تلك المجموعة بطريقة غريبة. كن لطيفات ومتعاطفات معها، ربما بسبب بعض الملامح الكردية التي ورثتها عن جدتها. كن يتقاسمن معها الطعام والمساحة، على الرغم من أنها مستجدة ولا يحق لها إلا أن تجلس عند الحمامات. عرفت سامية أنهن نزحن من منطقة السبينة، وخسرن بيوتهن، ويقمن في غرف غير مكسية استأجرنها في منطقة الدحاديل، ويمارسن النشل في منطقة نهر عيشة، في بقعة ازدحام المارة وركاب السرافيس المتوجهة إلى صحنايا والأشرفية والكسوة. منحت النشالات سامية امتياز صراحتهن، فهن لم يكن يجاهرن بالحقيقة خوفاً من جواسيس المحققين.
كانت النزيلات في فرع الأمن الجنائي متهمات بتهم مختلفة عن اللواتي عرفت في الفروع الامنية في السابق. لم تكن هناك امرأة واحدة معتقلة لسبب سياسي، وكان ثمّة تنوع غريب في طبقاتهن الاجتماعية وتهمهن.
أما السيدة الأنيقة، فكانت متهمة بتهريب العملة الصعبة خارج البلاد، ألقي القبض عليها على الحدود السورية اللبنانية وهي تهرب مئات الآلاف من الدولارات إلى زوجها المقيم في لبنان، والذي كان يمتلك شركة كبرى للصرافة في دمشق. كانت السيدة قد اعترفت وأبدت تعاونها مع المحققين، الذين تحققوا من أنها موالية ولم تكن مشاركة في تمويل (الإرهاب)، خاصة بعد فتح صفحتها على فيس بوك التي كان واضحاً فيها توجهها المؤيد المطلق للنظام، والحاقد تحديداً على سكان وأهالي (جوبر) الذين كانوا يستهدفون المناطق (المسيحية) بالصواريخ والتفجيرات. عندما كانت النساء في المهجع يتعرضن إلى عقاب جماعي، كحرمانهن من الضوء إذا أصدرن ضجيجاً، أو من الماء الكافي للجميع، كانت تلك السيدة تهمس لسامية: "شايفة الذل؟ الرئيس مخصّص ميزانية كبيرة للأكل والدفا والنظافة، بس كلو عم ينسرق".
كانت سامية تتنهد وتكتم صرخاتها الغاضبة التي لم تكن تجرؤ على مشاركتها مع أحد. وفي الحقيقة كانت تلك السيدة لطيفة معها، أعطتها منشفة صغيرة لتضعها تحت رأسها، بعد أن استطاعت إحدى الواسطات الثقيلة بعد شهر كامل من حبسها أن تضغط على إدارة الفرع لتمرر لها كيساً صغيراً من عائلتها فيه بعض الثياب الداخلية وأغراض النظافة الشخصية.
استعار جوالها فاتهمت بالتعاون مع المسلحين
في المهجع أيضاً، كانت هناك سيدة من الضمير مقيمة في دمشق، متهمة بإجراء اتصال مع المسلحين، كانت قد أعارت جوالها فعلا لأحد المارة ليقوم بالاتصال بأحدهم. لم يصدق الأمن تلك الرواية، واتهمها بالتعاون مع المسلحين على الرغم من أنها كانت المكالمة الوحيدة من هاتفها. وبعد تعذيبها وضربها لأسابيع بدؤوا يقتنعون بأنها لم تكن تكذب، لكنهم لم يفرجوا عنها وقرروا تحويلها إلى القضاء.
كانت هناك أيضاً سيدة حامل تعمل في مستوصف طبي، قبض عليها بسبب ختمها لوثيقة ميلاد لرضيع جلبه أبوه إلى المستوصف وهو نازح من مدينة حمص. كان الأب محتاجاً إلى وثيقة الميلاد ليثبت ابنه في القيد المدني، لكنه على ما يبدو كان قد ولد في حمص، وفي منطقة كانت تسيطر عليها القوات المعارضة. ألقي القبض على الأب وعلى الموظفة التي كانت تحاول فقط أن تساعد الطفل، وقبضت مبلغ 400 ليرة سورية (دولار واحد) مقابل تلك الخدمة.
في المهجع أيضاً كانت هناك صبية أخرى، كانت ممتلئة وترتدي ثياباً ضيقة وكاشفة، بدت جريئة ذكية. كانت تعمل في مكتب حوالات وكانت متهمة بقبض حوالة مشبوهة. أخبرت تلك الفتاة سامية بأنها مطلقة، وبأن زوجها السابق لا بد وأنه ضليع بالقصة، وأنه ورطها بالأمر ليستطيع أخذ حضانة طفلتها. كانت تبكي أحيانا وتصلي وتمسك بصليبها هي الأخرى، لكن ما كان يعدل مزاجها فعلا، كان سيجارة يمررها لها أحد السجانين المسنين بين الحين والآخر، كانت تدخنها خفية في الحمام. علّمت الفتاةُ سامية كيف تربط شعرها بقطعة نايلون من كيس الخبز، وكيف تحافظ قدر الإمكان على شعرها وجسمها من عدوى القمل. في إحدى جلسات التحقيق الخاصة بسامية عرض عليها المحقق سيجارة إن كانت تدخن، فأخذتها منه وأعطتها لزميلتها تعبيراً عن امتنانها لنصائحها القيمة.
كن ينمن على البلاط البارد، ويأكلن الخبز اليابس ويشربن من نفس القارورة البلاستيكية المهترئة، ويستحممن ويقضين حاجتهن في نفس مجمع القاذورات العفن، وينشرن سراويلهن الداخلية على نفس الحبل المصنوع من النايلون المربّط.
في المهجع أيضاً كانت هناك سيدة هاربة من منزل زوجها، الذي قام بالادعاء عليها وقدم طلب بحث فأمسكت بها الشرطة وزجت بها في السجن. خيّرها زوجها بين العودة إلى المنزل وإسقاط ادعائه أو البقاء في السجن فاختارت السجن. كانت تجيد الغناء أكثر من أكثر المغنيات شهرة ونجومية، وكان ممتعاً لسامية الاستماع لصوتها وهي تفلّي رأس صديقتها من القمل.
وكانت بين النزيلات فتاة درزية متزوجة من شخص سني سراً، ولسوء حظها وحظه وجدت معه في المكان الخاطئ والزمان الخاطئ، في منزل صديق لهما تعرض لمداهمة وألقي القبض على جميع الموجودين. فعرف أهلها بأمر زواجها بأسوأ طريقة ممكنة. كانت أيضاً تفضل البقاء في السجن على الخروج ومواجهتهم.
صادفت سامية أيضاً فتاة من الحسكة تعمل مدرّسة في حمص، تخلّفت عن الإدلاء بشهادتها في إحدى المحاكم، فتم توقيفها ونقلها إلى دمشق، كانت الوحيدة التي كانت تجرؤ على انتقاد الوضع علناً وسط وجوم الجميع: "هي دولتكي، هيش تتعاملُ مع الأبرياء، وتتركُ المجرمين..".
تمنت سامية لو تعرفت عليها أكثر لكنها لم تمكث سوى يومين قبل أن يتم تحويلها إلى القضاء.
لربما كانت جميع القصص التي عرفتها سامية أثناء تواجدها في الفرع تحمل شيئاً من الكذب. لكنها شعرت بوحدة حال مع أولئك النسوة اللواتي كن ينمن على البلاط البارد، ويأكلن الخبز اليابس ويشربن من نفس القارورة البلاستيكية المهترئة، ويستحممن ويقضين حاجتهن في نفس مجمع القاذورات العفن، وينشرن سراويلهن الداخلية على نفس الحبل المصنوع من النايلون المربّط.
لم تمكث سامية طويلاً في ذلك المكان، وبسبب تحرك علاقات أهلها وضغطهم، أحيلت بعد أسبوع واحد إلى القضاء وتركت وراءها النساء اللواتي كنّ سجينات قبلها وبقين في السجن بعدها، بمن فيهن تلك الفتاة الصغيرة المتهمة بالدعارة والحاصلة على الامتيازات مقابل إمتاع السجانين. والتي عندما غادرت سامية المكان كانت ممددة على الأرض وهي تلعب بخصلة من شعرها وهي تردد: "كتير برد، لو بيعطونا غطا بس".
قبل أن تترك سامية المهجع كتبت لها بعض النساء أرقام هواتف عائلاتهن بقلم الكحلة على قطعة كرتون من علبة جبنة فارغة، مع بعض المعلومات لإيصالها إليهن. بعد أن أحيلت سامية للقضاء تركها القاضي لكونها ضحية كصاحب المنزل الأصلي، لتدخل بعدها في دوامة من التفاوض لتستطيع الخروج من القضية بأقل خسائر ممكنة. لكنها لم تنس أن تحاول الاتصال بجميع الأرقام التي كانت في حوزتها. لم يردّ البعض، ردّ آخرون وأقفلوا الخط في وجهها، وأبدى البعض امتنانهم. لم تعد سامية تعرف شيئاً عن أولئك النسوة ، لكنها ظلت تتمنى لو تصادف إحداهن، حتى لو كانت إحدى النشالات وهي تقوم بعملها على أحد المواقف، لربما تنشل ضابطاً هذه المرة وتنجو بفعلتها.