خيبة أمل ومرارة تعلو كلمات الرسام والفنان أحمد جلل الذي يتوراى اليوم عن الأنظار هربا من جبهة النصرة، ولم لا؟ وهو الذي بدأ مسارا طويلا منذ سنوات قليلة آملا أن يصل الحرية: حرية سورية، فيما يجد نفسه اليوم محاصرا وهاربا، ليس من الدكتاتور الذي ثار ضده عام 2011 فقط، بل من قبل تنظيمات أحرقت الثورة وشوّهت معالمها، مضيفا لها مرارته من شباب الثورة الذين ضعف صوتهم بمواجهة النصرة، خاصة بعد رحيل رائد الفارس وحمود جنيد.
هذه الخيبة المريرة لا تمنعه من التفاؤل على المدى الطويل، فـ "الحراك السلمي يمرض ولا يموت، ولن تخلو البلد من الشجعان ونعول بذلك على جيل الشباب".
هنا حوار حكاية ما انحكت مع الرسام والفنان أحمد جلل. حاوره: محمد ديبو
(1): ما هو أول رسم رسمته للثورة السورية وما هو آخر رسم؟ وبماذا يختلف شعورك حين رسمت أول رسم عن شعورك اليوم؟
أول رسم كان بتاريخ 7 أيلول/ سبتمبر 2011، كانت تجربة جديدة قمت بها عن طريق الصدفة وبدون خطة مسبقة. لكن بنفس الوقت كنت أشعر أنها بداية مشروع كبير ورديف للافتات كفرنبل.
الرسمة الأخيرة بتاريخ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، أي بعد أسبوع من اغتيال رائد الفارس وحمود الجنيد من قبل جبهة النصرة.
وأنا أرسمها عرفت أنها الأخيرة، لأنه حتى في حال نجوت من الاعتقال أو الاغتيال فسيكون الثمن هو التهجير ولن يكون بإمكاني الرسم للمظاهرات.
(2): تعرضت لتهديدات مباشرة تمس حياتك بشكل مباشر؟ ممن جاءت هذه التهديدات؟ وفي أي وقت؟ ولماذا؟
تعرضت للتهديد أكثر من مرة، من قبل نظام الأسد وتنظيم داعش وتنظيم جبهة النصرة. وكلها لنفس السبب، لأني قمت بانتقادهم وتوصيف جرائمهم عن طريق اللافتات ورسوم الكاريكاتير.
يختلف تهديد جبهة النصرة عن سابقيه، بأنه لم يتم تهديدي بشكل مباشر، وإنما تم تهديد زميلي رائد الفارس أكثر من مرة بالاعتقال أو بإغلاق منظمة اتحاد المكاتب الثورية URB التي أسسها رائد والاستيلاء عليها (واحدة من المرات بسبب رسمة في مجلة المنطرة الصادرة عن المؤسسة المذكورة).
لكن بعد اتهامي للنصرة باغتيال رائد وحمود تم تهديدي بالاعتقال والاغتيال ولكن ليس من مصادر رسمية للنصرة، وإنما من قبل عناصر تابعين للنصرة.
(3): ما أول شيء فكرت به بعد أن وصلك خبر اغتيال زملاؤك الشهداء رائد الفارس وحمود جنيد؟
عندما سمعت بخبر اغتيال أصدقائي وزملائي فكرت مباشرة بالمجرم (جبهة النصرة) وبقيت في حالة صدمة ونكران للواقع عدة أيام، التزمت منزلي تلك الفترة ورفضت الإدلاء بأي تصريح لوسائل الإعلام، ولا كتبت شيئاً على وسائل التواصل الاجتماعي. وبعد هذه الفترة عدت للواقع وبدأت بمهاجمة النصرة على موقع فيسبوك كما قمت بكتابة عدّة لافتات ورسومات حملها متظاهرون في وقفة الغضب التي أعقبت اغتيال الشباب بأيام، وآخر اللافتات والرسومات التي صنعتها رفعت في مظاهرة الجمعة (بعد أسبوع من الجريمة) قبل أن أهجر منزلي وأختبئ.
أحمد جلل: الجيش الحر المحسوب علماني، عناصره يخافون الله في دماء المسلمين، وذلك بعكس الفصائل الإسلامية التي تدّعي تطبيق الشريعة الإسلامية، وفي نفس الوقت لا يخافون الله في دماء المسلمين واستباحة الدماء، هو أمر أقل من عادي عندهم.
(4): كيف تحمي نفسك الآن وكيف تتعامل مع الرسم والحراك وما يجري؟ أي حدثنا عن حياتك وكيف تقضي يومك خلال فترة التخفي هذه؟
كنت مختبئا في كفرنبل عند أحد المعارف، لا أخرج من البيت أبداً لأنه لا مجال للمجازفة، فالخطر كبير وحقيقي. أنا تقريباً أعيش في سجن صنعته بنفسي. وبما أنه لا يوجد في الوقت الحالي متظاهرون يجرؤون على رفع لافتاتي، لجأت إلى وسائل التواصل الاجتماعي لانتقاد النصرة عبر منشورات وتصاميم ورسومات (رقمية).
طبعاً اضطررت لمغادرة كفرنبل منذ أيام قليلة لأن النصرة تفرغت لملاحقتي بعد انتهاء اقتتالها مع فصائل الحر، وأنا الآن في مناطق خارج سيطرتها.
(5): الصراع مع تيارات القاعدة في سورية ومواجهة هذه التيارات للنشاط السلمي ولكم باتت معروفة، ولكن يبقى السؤال: لماذا تمكن هؤلاء من إقصاء الحراك السلمي؟ كيف تمكنوا من خداع الأهالي والبعض من النشطاء، سابقا والآن؟ هل تحدثنا كواحد من الفاعلين والشهود القلائل عن سيرورة العلاقة بين الحراك السلمي والتنظيمات الجهادية؟ وهل كل التنظيمات (الإسلامية) مثل بعضها البعض أم هناك اختلاف ما بينها؟
أولاً، إنّ الحراك السلمي تراجع في سوريا بشكل عام بعد اتجاه الثورة للعسكرة، حيث فقد الناس إيمانهم بتأثير الحراك السلمي في ظل صمت المجتمع الدولي وترك المدنيين فريسة لمجرم العصر. وانتقل التأثير للبندقية في مواجهة النظام.
التنظيمات الإسلامية المتطرفة استغلت وجود الأكثرية المسلمة للمجتمع السوري وتاجرت بالدين مثلما تاجر النظام بالممانعة والمقاومة لحكم الشعب. واستغلت الفساد الذي انتشر عند بعض عناصر الجيش الحر وضخمت الإشاعات بهدف شيطنة الجيش الحر واعتباره كله فاسد ومرتزق لكي يظهروا بمظهر المخلص القادر على نصرة الشعب المسلم المغلوب على أمره. ففي بداية ظهورهم كسبوا حاضنة شعبية واسعة عند الشعب، لكن مع الوقت ظهرت عيوبهم وتجارتهم بالدين وانتهاكهم لحقوق المدنيين وأصبحوا مكشوفين للجميع ولكن بعد فوات الأوان، أي بعد أن سيطروا على معظم المحرر.
التنظيمات ذات الفكر الشمولي على اختلافها لا تقبل بالرأي الآخر ولا التعددية. فالكلمة هي من أشد أعداء المستبد، لذلك بطش النظام بالمتظاهرين وحاول تصفية معارضيه، كما لاحق تنظيم القاعدة ومخلفاته نشطاء الرأي وحاول اعتقالهم وتصفيتهم، وكذلك فعل ذلك حزب العمال الكردستاني.
الجدير بالذكر أن التنظيمات الإسلامية ليست متشابهة، مشكلتنا هي مع التطرف والاستبداد وليس مع الإسلام. فأي حزب أو تيار من حقه الحكم، سواءا كان حزبا دينيا أو قوميا أو غير ذلك. طالما أنه يؤمن بالديمقراطية وأنه سيصل للسلطة عن طريق الانتخابات.
(6): تقول في تقرير نشرته الزميلة "عنب بلدي": "المشاركة في آخر مظاهرة بكفرنبل ضعيفة جدًا من قبل الأهالي ومخجلة بعد رحيل رائد ابن كفرنبل وأهم شخصية في الشمال السوري"، كيف تفسر هذا الأمر؟ ولم تعزو هذا التراجع؟ هل خوف الناس أم فقدانهم الأمل أم ضياع البوصلة؟ وهل يمكن عودة النشاط السلمي مستقبلا؟ وكيف؟
بعد رحيل رائد وحمود خرجت مظاهرتين:
الأولى، وقفة الغضب على أثر الجريمة بعد حصولها بثلاثة أيام، شارك فيها حوالي 500 متظاهر، وهو عدد قليل بالنسبة للحدث العظيم، كما أن نصف المشاركين كانوا ناشطين من القرى المحيطة واقتصر المشاركين من كفرنبل على أقارب وأصدقاء المرحومين.
المظاهرة الثانية، كانت يوم الجمعة بعد أسبوع من الجريمة، ولم يتعدى عدد المتظاهرين الثلاثين (أقارب وأصدقاء مقربون). وذلك لأنه أثناء وقفة الغضب خرجت بعض الهتافات ضد الجولاني وتتهمه بالجريمة. فتوقع الجميع وجود قوة أمنية تابعة للنصرة في وقت ومكان مظاهرة الجمعة، ولذلك لم يجرؤ أحد على التواجد في ساحة المظاهرات. وتواجد في المظاهرة حوالي عشرة إعلاميين محليين لتصوير المظاهرة. وبعد المظاهرة قال لي أحدهم بالحرف الواحد: "لا يجرؤ أحد منا على نشر صور المظاهرة على حسابه الشخصي، لذلك سنرسل لك الصور عبر الإيميل وأنت انشر الصور إذا أردت". وللأسف لم يرسل لي أحد منهم أي مادة على الإيميل خوفاً من أن يتم معرفته من قبل النصرة في حال تم اعتقالي. لذلك استعنت بصور التقطها أحد الأصدقاء وقمت بنشرها.
طبعاً الخوف مبرّر لأن اللافتات كانت قوية ومباشرة، وذلك بخلاف اللافتات التي رفعت في وقفة الغضب، والتي كانت لافتات خفيفة ودبلوماسية.
وبشكل عام، إنّ خوف الناس من المشاركة مبرر، لأنه تم اغتيال أحد أهم الشخصيات في الشمال السوري، بالإضافة إلى اعتقال الشخصية المهمة الأخرى (الحقوقي ياسر السليم) منذ حوالي أربعة أشهر، لذلك اقتنع الناس أنهم لن يكونوا إلا مجرّد أرقام تضاف للشهداء أو المعتقلين وبدون جدوى، لأنّ الجميع صار يعلم أنّ مصير المناطق المحررة أصبح مرهوناً بالاتفاقيات الدولية ولا فائدة من أي نضال سلمي أو حتى مسلح.
من قام بالحراك السلمي في البداية هم ثوار ال2011، لكنهم الآن بين شهيد ومعتقل ومهجر، وهذا أثّر كثيراً على الحراك، لأننا في الوقت الحالي نفتقد لمثل هذه الشريحة الجريئة القادرة على اتخاذ موقف وقادرة على التغيير. لكن في النهاية الحراك السلمي يمرض ولا يموت، ولن تخلو البلد من الشجعان ونعول بذلك على جيل الشباب.
(7): نشرت مؤخرا على الفيسبوك عن استهداف الجيش الحر لجبهة النصرة؟ من هو الجيش الحر الموجود اليوم؟ وهل يمكن أن نكون أمام محاولة تأسس "مقاومة جديدة" بمواجهة النصرة عسكريا ومدنيا؟ وحتى لو حصل ذلك؟ هل يمكن المواجهة على جبهتين، جبهة النظام من جهة وجبهة التيارات المتطرفة من جهة؟
الجيش الحر للأسف أصبح مطية للنصرة، فهو مجبر على تقديم قسم من عتاده للنصرة كأتاوة ليضمن الفصيل استمرار وجوده، وهو ليس صاحب قرار ولا وزن ولا شأن له من الناحية الأمنية ولا الإدارية في مناطقه. طبعاً يستثنى من ذلك الفصائل المعادية للنصرة والمهددة بالزوال كالزنكي (تم حلّه فعلاً) وأحرار الشام وصقور الشام، ولا يوجد في الوقت الحالي فصيل قادر على مواجهة النصرة، والتي يظهر بشكل واضح أنها مدعومة دولياً.
والذين قاموا باستهداف حواجز النصرة هم عناصر من الحر غير راضين عن الوضع ويعملون بشكل سري وفردي دون الرجوع لقياداتهم ويستخدمون أسلوب حرب العصابات. طبعاً من الممكن أن تتحول هذه المحاولات لمقاومة شعبية لكن الجميع ينتظر لمعرفة أي مجرى ستتجه إليه الأمور (الكل يعلم أن النصرة مدعومة دولياً، وفي نفس الوقت سيأتي اليوم الذي يصدر فيه الأمر بإنهائها، لذلك الجميع حالياً في مرحلة تحفز وانتظار).
الجيش الحر على الرغم من ضعفه في إدارة المناطق التابعة له وافتقاره للتنظيم والمركزية التي تتمتع بها التنظيمات الإسلامية المتطرفة إلا أنه لا أحد ينكر قدرته وشجاعته في محاربة النظام (تم تحرير حوالي 80% من الأراضي السورية على يد الحر سابقاً). فإذا تمكن من التنظيمات المتطرفة، فهو بالتأكيد قادر على محاربة النظام وحماية مناطقه. لكنه دائماً ما يخسر أمام هذه التنظيمات، وذلك لسبب إيديولوجي، فهذه التنظيمات تمتلك الشرعيين الذين يبررون الحرب مع الحر ويحفزون عناصرهم على القتال بشراسة واستباحة الدماء، بعكس الحر الذي يعتبر أن عدوه الأساسي هو النظام، وكل ما دونه هي معارك جانبية ومعظم عناصر الحر لديهم خطوط حمراء تجاه استباحة دماء الفصائل الأخرى.
يعني بالمختصر الجيش الحر المحسوب علماني، عناصره يخافون الله في دماء المسلمين، وذلك بعكس الفصائل الإسلامية التي تدّعي تطبيق الشريعة الإسلامية، وفي نفس الوقت لا يخافون الله في دماء المسلمين واستباحة الدماء، هو أمر أقل من عادي عندهم.
(8): كيف تقيّم الموقف التركي في الشمال السوري؟
تركيا قد تكون أفضل دولة تعاملت مع الشعب السوري، لكن ذلك لا يمنع أنها تعمل لخدمة مصالحها الإقليمية أولاً. الجميع تاجر بالقضية السورية ومن ضمنهم تركيا، وأردوغان أثبت أنه التاجر الأشطر.
لا يخفى على أحد علاقة تركيا بجبهة النصرة وتوظيفها لهذا التنظيم المتطرف في خدمة مصالحها، وذلك عبر محاصرة الفصائل التي لا تنصاع لتركيا كلياً وإجبارها على حل نفسها وانضمامها للجيش الوطني أو لدرع الفرات التركي بامتياز، كما أنها قد تستخدم النصرة في حربها مع حزب العمال الكردستاني شرقي الفرات، بالإضافة لاستخدامها كورقة ضغط في المنطقة أثناء مفاوضاتها مع روسيا وأمريكا.. طبعاً هذه كلها تحليلات سياسية قد تخطئ وقد تصيب، لكن التنسيق بين النصرة وتركيا حقيقة واضحة.
(9): بماذا يحلم أحمد جلل اليوم؟
أنا أحلم بتحقيق أهداف الثورة الأولى التي خرجت ضد الظلم والاستبداد والفساد، أحلم بإقامة دولة القانون، دولة ديمقراطية تكون فيها حقوق المواطنة مصونة ومتساوية للجميع، دولة تحترم التعددية وحرية الرأي، دولة تكون فيها قيمة المواطن هي القيمة الأسمى، دولة ترقى لهذا الكم الهائل من التضحيات التي قدمها الشعب السوري.