يهدف هذا المقال إلى مناقشة بعض أهم الحجج "الشعبية" المستخدمة، في الدفاع عن المثلية الجنسية، أو الهجوم أو التهجم عليها، في الثقافة العربية، وبعض أهم التكتيكات "الشعبية" المستخدمة، في هذا الدفاع والهجوم أو التهجم. فما هي التكتيكات "الشعبية" المتبعة، والحجج المقدَّمة، في هذه المواجهات الفكرية؟
(1): المراوغة والتهرب من المواجهة
التكتيك "الشعبي" الأساسي الذي يتبعه كثيرون من معادي المثليين يكمن تحديدًا في محاولة تجنب المواجهة أو الالتفاف عليها، وإظهار ضرورة و/ أو فائدة تجنّب الخوض في موضوع المثلية الجنسية، في الوقت الحالي على الأقل. والحجج التي يقدمها هؤلاء الأشخاص، لتسويغ تكتيكهم، تتمثل في القول إن طرح هذا الموضوع، في السياق السوري، على سبيل المثال، يعبِّر عن الترف الفكري وغير الفكري الذي يعيش فيه صاحبه، بحيث يعميه عن رؤية المشاكل الأساسية والأكثر أهميةً التي يعاني منها السوريون، داخل سورية وخارجها. فهل يعقل، وفقًا لمتبني هذا التكتيك، أن نترك كل المشاكل والكوارث المحيطة بنا، لننصرف إلى الاهتمام بقضية ثانويةٍ مثل قضية "المثلية الجنسية" التي لا تهمُّ إلا عددًا محدودًا من البشر؟
في مواجهة مثل هذا التكتيك وما يتضمنه من حججٍ ومحاجَّاتٍ، من الضروري التشديد على أهمية معرفة الرأي المبدئي لمتبني هذا التكتيك، في خصوص حقوق المثليين؛ لأن مناقشة مضمون هذا التكتيك ودلالاته ومتضمناته وأسسه، تختلف وفقًا لاختلاف ذلك الرأي المبدئي لصاحب هذا التكتيك، في خصوص المثلية الجنسية. وفي مواجهة مثل هذا التكتيك، ينبغي عمومًا التشديد على تكامل الحقوق (الأساسية)، بدلًا من الحديث عن أولوية بعضها وثانوية بعضها الآخر، وعلى تحالف المظلومين، بدلًا من الدخول في النفق المظلم لصراع المظلوميات.
إن عالمية المثلية الجنسية وحضورها في مختلف المجتمعات عبر التاريخ، ينفي كونها أو كون الدفاع عنها، وعن المثليين، مجرد موضةٍ مستوردةٍ وتقليدٍ للآخرين
فمن حيث المبدأ، ينبغي للمطالبة بحقوق المثليين أن تندرج في إطار المطالبة بتعزيز الثقافة الحقوقية في المجتمع، وأن تتناغم، أو ألا تتعارض على الأقل، مع المطالبة بالحقوق في مجالاتٍ أخرى. فمن المهم كثيرًا أن تتأسس المطالبة بحقوق هذه الشريحة أو الفئة الاجتماعية أو الجماعة أو تلك، على منظومةٍ حقوقيةٍ إنسانيةٍ شاملةٍ تقول بالضرورة الأخلاقية للمساواة الحقوقية بين البشر، بوصفهم أفرادًا متمايزين وأشخاصًا ينبغي احترام كراماتهم وحرياتهم وحقوقهم الأساسية، ومراعاة خصوصية الأوضاع التي تفضي إلى حرمان بعض هؤلاء الأفراد والأشخاص من المساواة الحقوقية مع الآخرين. هذا التكامل بين الحقوق أساسيٌّ. وتحفل المطالبات الحقوقية العربية بالكثير من أشكال التناقض الناتجة عن غياب هذا التكامل في رؤيتها النظرية وممارساتها العملية. فعلى سبيل المثال، هناك من يعارض ديكتاتورًا ما، ويؤيد، في الوقت نفسه، ديكتاتورًا آخر؛ وهناك من يطالب بحقوق الأقليات المسلمة في أوروبا، لكنه يرفض، في الوقت نفسه، منح الأقليات الإثنو-دينية حقوق المواطنة الكاملة، في البلدان ذات الغالبية المسلمة. وباختصار، هناك من يطالب برفع الظلم عن طرفٍ ما، ويؤيد أو يبرر، في الوقت نفسه، الظلم الواقع على طرفٍ آخر.
يمكن لفكرة "تكامل الحقوق" أن تساعد على الحدِّ من المساحة المتاحة لتطبيق فكرة "وضع سلمٍ للأولويات"، في المسائل المتعلقة بكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية؛ لأن فكرة "تكامل الحقوق" لا تقوم على المفاضلة بين الحقوق أو على ضرورة اختيار بعضها على حساب بعضها الآخر، وإنما تقوم على الارتباط الوثيق بين هذه الحقوق، بحيث يفضي أي تقدم في أحد مجالاتها إلى تعزيز إمكانية تحقيق التقدم في المجالات الأخرى. وتساعد فكرة "تكامل الحقوق" على الحد من عنصرية الخطابات المضادة للعنصرية. فمن الملاحظ أن الخطاب المناهض للعنصرية والداعم للحقوق، في مجالٍ ما، يقع بسهولةٍ في فخ العنصرية، في خصوص مجالٍ آخر، عندما لا يكون متأسِّسًا على منظومةٍ حقوقيةٍ واضحةٍ وشاملةٍ ومتكاملةٍ. فليس نادرًا أن يتضمن خطاب بعض المناصرين لحقوق المرأة أو المثليين أو الطفل عنصريةً ما ضد الرجل أو "الشرقيين" أو المسلمين ... إلخ. وتساعد القناعة المبدئية بتكامل الحقوق الأساسية، لا بتفاضلها، على تعاضد المظلومين وتعاونهم مع بعضهم البعض، بدلًا من أن يتنافسوا في تطوير سرديات مظلومياتهم بطريقةٍ تنافسيةٍ، أو بالأحرى تناحريةٍ. لكن هذه القناعة المبدئية قد تتعرض لاختبارٍ قاسٍّ في الواقع، عندما توضع الحقوق في حالة تعارضٍ وتنافرٍ فيما بينها، تدفع في اتجاه اختيار أحدها على حساب حقوقٍ أخرى.
(2): المثلية هي موضة غربية وظاهرة هامشية لا ينبغي تبنيها و/أو الدفاع عنها
يرى كثيرٌ من معادي المثليين، والمتبنين لتكتيك "المراوغة والتهرب من المواجهة"، أنه لا يمكن تفسير موقف المدافعين عن المثليين بالظلم المتخيَّل أو الفعلي الواقع على المثليين الجنسيين؛ فهذا الموقف هو مجرد تبنٍّ، غير موفَّق وغير مناسبٍ، لصرعةٍ أو لموضةٍ غربيةٍ سائدةٍ في هذا الخصوص؛ وهو لا يراعي خصوصيات هذه الثقافة وأولوياتها، ولا يكترث بالنوعية الخاصة من المشاكل التي يعاني منها الناس في هذه المنطقة.
إن القول بأن الدفاع عن المثلية هو تبنٍّ غير مناسبٍ لموضةٍ أوروبيةٍ أو غربيةٍ، تستند هذه الرؤية إلى سوء فهمٍ ينبغي العمل على إزالته، فهي تنطلق من أن هذه الظاهرة ليست واسعة الانتشار نسبيًّا إلا في "الغرب"، وأنه من الخطأ الاعتقاد بوجودٍ مماثلٍ، كمًّا وكيفًا، لهذه الظاهرة في العالم العربي والإسلامي؛ فأعداد المثليين، في هذا العالم، أقل بكثير، كما إنهم لا يعانون المعاناة ذاتها، وليس لهم، ولا ينبغي أن يكون لهم، مطالب مماثلة لمطالب نظرائهم الغربيين. في الرد على مثل هذه الأقوال، من الضروري بدايةً التمييز بين وجود الظاهرة والحضور أو الوجود العلني للظاهرة. فضعف أو انعدام الحضور أو الوجود العلني لظاهرةٍ ما لا يعني ضعف أو انعدام وجودها الفعلي. فالمثلية الجنسية ظاهرةٌ موجودةٌ في كثيرٍ من المجتمعات الإنسانية، عبر تاريخها الطويل، لكن ثمة تفاوتٌ في قوة وجودها أو حضورها العلني، وفقًا لمدى (عدم) قبول المجتمع أو (عدم) تقبله لها.
إعلان المثلي عن مثليته يعتمد، في كثيرٍ من الأحيان، على رد الفعل المتوقع من محيطه العائلي والاجتماعي، وعلى الحماية القانونية التي توفرها له السلطات الرسمية
إن وجود الظاهرة في عددٍ كبيرٍ من المجتمعات، على الرغم من القمع الذي تتعرّض له، يشير إلى أنها ليست مجرد ظاهرةٍ عابرةٍ أو ثانويةٍ. في المقابل، إنّ قوة الوجود أو الحضور العلني لهذه الظاهرة يعتمد على مدى شدّة أو مستوى هذا القمع. فإعلان المثلي عن مثليته يعتمد، في كثيرٍ من الأحيان، على رد الفعل المتوقع من محيطه العائلي والاجتماعي، وعلى الحماية القانونية التي توفرها له السلطات الرسمية. ومن هنا نفهم، على سبيل المثال، خفوت أو انعدام الحضور أو الظهور العلني للمثليين وللمدافعين عنهم في مصر، بعد إصدار قانون تجريم المثلية مؤخرًا؛ لكن ذلك لا يعني عدم وجود المثليين أو أنّ عددهم قد انخفض لمجرد انخفاض مستوى حضورهم أو ظهورهم العلني. في المقابل، إن الحماية القانونية للمثليين من محاولات التمييز السلبي تجاههم في المجال العام، والاعتراف المتزايد بحقوقهم، بوصفهم مثليين، جعل وجودهم أو حضورهم العلني، في "أوروبا الغربية على سبيل المثال"، أقوى بكثيرٍ، مقارنةٍ مع وجودهم العلني هناك في السابق.
ولا ينبغي للعدد المتخيَّل أو الفعلي للمثليين في العالم العربي و/ أو الإسلامي أن يؤثر في موقفنا من قضيتهم، بحيث يتم التقليل من أهمية هذه القضية أو تضخيم هذه الأهمية، انطلاقًا من الأعداد المزعومة أو الفعلية للمثليين، في هذا العالم. وإذا كان كانط قد رفض سعادة البشرية، في حال كان ثمنها التضحية بطفلٍ واحدٍ، فكيف يمكننا القبول بمعاناة عددٍ كبيرٍ من البشر، أو تسويغ مثل هذه المعاناة أخلاقيًّا، بحجة ضرورة التفرغ للتخلص من معاناة عددٍ أكبر من البشر الآخرين؟
إن عالمية المثلية الجنسية وحضورها في مختلف المجتمعات عبر التاريخ، ينفي كونها أو كون الدفاع عنها، وعن المثليين، مجرد موضةٍ مستوردةٍ وتقليدٍ للآخرين. وحتى إذا قبلنا بتأثر خطاب المدافعين عن المثلية والمثليين بما يحصل في "العالم الغربي"، على مستوى الفكر والتشريعات والسياسات الحكومية، فهذا لا ينفي السمة العالمية والإنسانية العامة المحايثة لهذه الظاهرة العابرة للمناطقية. فكل الأفكار والقيم الإنسانية العامة والأساسية نشأت في هذه المنطقة و/ أو تلك، بدون أن يمنعها ارتباطها الإقليمي أو المحلي من الزعم بعالميةٍ إنسانيةٍ ما تتجاوز الحدود والتقسيمات الجغرافية والسياسية والانتماءات الفرعية. وليس من المنطقي أن يستخدم الإسلاميون المعادون للمثلية والمثليين حجة "الأصل الغربي" المزعوم للمثلية و/ أو للدفاع عنها، لرفض عالميتها وسمتها الإنسانية العامة. فهؤلاء الإسلاميين أنفسهم لا يرون في انطلاق الرسالة الإسلامية من مكة والمدينة سببًا كافيًا لإنكار عالمية هذه الرسالة، وإنسانيتها، وقيمها الأخلاقية السامية، من وجهة نظرهم.
(3): لا تكمن المشكلة في وجود المثليين وإنما في حضورهم العلني البارز
يقول عددٌ من معادي المثلية إنَّ "مشكلتهم" مع المثليين الجنسيين لا تتمثَّل في مثليتهم بحدِّ ذاتها، وإنما في ظهورهم العلني وترويجهم لأنفسهم في المجال العام. وعلى هذا الأساس، يقرُّ بعض الأشخاص بحق المثليين في الوجود، من حيث المبدأ، لكنهم يرون أنه من الأفضل أو من الواجب ألا "يبالغ" المثليون في إظهار مثليتهم والاحتفاء بها في المجال العام، وأنه من المستحسن أو الواجب تخفيف شدة حضورهم العلني وتمايزهم في المجال العام، قدر المستطاع.
من الواضح أن مثل هذه المطالبات تختزل المثلية الجنسية إلى الرغبة الجنسية، ولا ترى معنىً كبيرًا، أو ضرورةً فعليةً، في الحضور العلني الصريح والبارز للمثليين الجنسيين، في المجال العام، بوصفهم كذلك. في الرد على مثل هذا الاختزال، ينبغي التشديد على أن المثلية الجنسية هي جزء من هوية صاحبها ومن نمط حياته الذي يميزه عن غيره، ويحقق، من خلاله، وجوده، تحقيقًا يتفق، جزئيًّا ونسبيًّا، مع مشاعره ورغباته وقيمه وتطلعاته. ولهذا لا يمكن اختزال المثلية الجنسية إلى مجرد رغبةٍ جنسيةٍ، كما لا ينبغي اختزال التعامل المنصف مع هذه الظاهرة إلى الإقرار بالحق في الممارسة الجنسية التي تشبع تلك الرغبة الجنسية. إن الحضور العلني للمثليين، واحتفاءهم العلني بمثليتهم، وتطبيع مسألة حضورهم، المادي والمعنوي، في المجال العام، كل ذلك هو جزءٌ لا يتجزأ من الحقوق التي ينبغي أن يمتلكها المثليون، ليس بوصفهم مثليين فقط، بل بوصفهم بشرًا، أيضًا وخصوصًا.
المثلية الجنسية ليست مجرد رغبةٍ جنسيةٍ مختلفةٍ يمكن إشباعها بالممارسة الجنسية المرغوبة؛ وإنما هي "نمط حياةٍ" و"صيغة وجودٍ". وترتبط المثلية الجنسية بحياة صاحبها عمومًا، وبما يقوله ويفعله ويلبسه، وبتعامله مع محيطه الاجتماعي وبتفاعله المختلف مع الآخرين، ذكورًا وإناثًا
ولا ينبغي التقليل من معاناة المثليين، جراء الظلم الكبير الذي يتعرضون له، في هذا العالم، بوصفهم مثليين؛ كما لا ينبغي اختزال هذه المعاناة إلى مسألة الحرمان من رغبة جنسيةٍ ما. فالمثلية الجنسية ليست مجرد رغبةٍ جنسيةٍ مختلفةٍ يمكن إشباعها بالممارسة الجنسية المرغوبة؛ وإنما هي "نمط حياةٍ" و"صيغة وجودٍ". وترتبط المثلية الجنسية بحياة صاحبها عمومًا، وبما يقوله ويفعله ويلبسه، وبتعامله مع محيطه الاجتماعي وبتفاعله المختلف مع الآخرين، ذكورًا وإناثًا. ومن الصعب فهم معاناة المثلي الجنسي، إذا لم يكن لدينا خبرته أو تجربته، لكن يمكن للخيال أن يسمح لنا بوضع أنفسنا محل المثليين الجنسيين، وبتخيّل ما يمكن أن يكون عليه حالنا لو كنا في مثل وضعهم. ولقيام بذلك أقترح على من يهمه أمر فهم أوضاع المثليين الذين يتعرضون لقمع وظلمٍ من محيطهم، أن يتخيل نفسه مضطرًا إلى أن يتصرف، في المجال العام، بوصفه ينتمي إلى جنسٍ مغايرٍ ﻠ "جنسه الفعلي"، بوصفه ذكرًا أو أنثى. وينبغي للِّجوء إلى الخيال أن يترافق مع الاطلاع على وجهة نظر المثليين أنفسهم، حين يكون ذلك متاحًا. ويمكن لهذا الاطلاع أن يكون المدخل الأفضل لفهم الآخر، متمثلًا في المثلي الجنسي.
(4): المثلية الجنسية تمثِّل شذوذًا وانحرافًا عما هو طبيعيٌّ/ فطريٌّ
بعيدًا عن أسلوب "اللف والدوران" والمحاولات، المبرَّرة جزئيًّا ونسبيًّا أو غير المبررة مطلقًا، الساعية إلى تجنب اتخاذ موقفٍ واضحٍ من موضوع المثلية الجنسية، يبدو أن الحجة "الشعبية" الأكثر شيوعًا وقوةً التي يستخدمها المعادون للمثلية والمثليين تكمن في التشديد على أن المثلية تمثِّل شذوذًا وانحرافًا عما هو طبيعيٌّ/ فطريٌّ. ويبدو طريفًا استسهال كثير من الناس استخدام مفهوم "الطبيعي" بالرغم من أنه (من) أكثر المفاهيم الفلسفية إشكاليةً وصعوبةً.
ومن الضروري الانتباه إلى التسميات التي نستخدمها، في هذا السياق، والحمولة الاخلاقية والمعرفية التي يتضمنها كلٌّ منها. فالقول إن المثلية "شذوذٌ" و"انحرافٌ"، ليس مجرد "وصفٍ موضوعيٍّ"، كما يزعم معظم المعادين للمثلية والمثليين، بل هو يتضمن مسبقًا أحكامًا أخلاقيةً تدين المثلية والمثليين، إدانةً جازمةً. فمثل هذه المفاهيم هي "مفاهيم سميكة thick concepts"، بمعنى إنها ليست مجرد مفاهيم وصفيةٍ، ولا مجرد مفاهيم تقييميةٍ أو معياريةٍ، بل هي مفاهيم وصفيةٌ وتقييميةٌ أو معياريةٌ، في آنٍ واحدٍ. وينطبق الأمر ذاته، انطباقًا أكبر، على مفهوم "اللواطة" أو "اللوطي". وقد تجنبنا، في هذا النص، استخدام هذه المفاهيم (شذوذ، لواطة ...إلخ) في مناقشتنا؛ لأنها تتضمن مسبقًا حكمًا تقييميًّا سلبيًّا ناجزًا، على العكس من مفهوم "المثلية الجنسية" ذي الحمولة التقييمية الأخف، والانحياز القيمي الأقل (وضوحًا). فالجانب الوصفي هو الأقوى في مفهوم "المثلية الجنسية"، في حين أن الجانب المعياري أو التقييمي السلبي هو المهيمن في مفهومَي "اللواطة" و"الشذوذ الجنسي". ومن الضروري التفكير في هذين المفهومين الأخيرين، قبل، و/ أو أكثر من، التفكير بهما.
ويمكن تطبيق الأحكام السابقة، تطبيقًا كاملًا، على مفهوم "الطبيعة" و"الطبيعي" أو "الفطري"؛ لأنه مفهومٌ سميكٌ بامتيازٍ أيضًا. ففي استخدام هذا المفهوم، يميل الناس غالبًا، وفي مختلف اللغات والثقافات، إلى تضمينه دلالاتٍ إيجابيةٍ. وربما أمكن فهم الدلالات الإيجابية المرافقة غالبًا لمفهوم "الطبيعي"، من خلال الإشارة إلى المفاهيم المقابلة أو المضادة له. فما يمكن أن يقابل الطبيعي، ليس الثقافي فحسب، بل والمشوَّه والمنحرف والشاذ وكثيرٌ من المفاهيم ذات الحمولة التقييمية السلبية أيضًا. وهذه الحمولة التقييمية السلبية هي المستهدفة، تحديدًا أو خصوصًا، في إصرار بعض المعادين للمثلية والمثليين على استخدام مفاهيم أو ألفاظ مثل "غير الطبيعي"، و"الشذوذ" أو "الانحراف"، في هذا الخصوص. والأمر واضحٌ وضوحًا أكبر، في استخدام لفظة "اللواطة". وفي نقاش "طبيعية" أو "عدم طبيعية" المثلية الجنسية، ينبغي أخذ الجانبين الوصفي والتقييمي بعين الاعتبار. فلا-طبيعية المثلية تعني، في هذا السياق، لا-أخلاقيتها من ناحيةٍ، وتحيل على تعارضها مع التكوين العضوي والنفسي "الطبيعي" للإنسان عمومًا، من ناحيةٍ أخرى.
واقع الحياة الجنسية لدى البشر يثبت عدم ارتباط هذه الحياة بمسألة الإنجاب والتناسل بالضرورة. وعلى هذا الأساس، لا يمكن القول بلا-طبيعية/ لا-أخلاقية المثلية الجنسية، انطلاقًا من كون ممارسات المثليين الجنسيين لا تهدف إلى الإنجاب و/أو لا تفضي إليه.
ولتسويغ قولهم ﺑ "لا-طبيعية المثلية الجنسية"، وللتدليل على طبيعية العلاقة الجنسية بين المغايرين، ولا-طبيعية تلك العلاقة بين المثليين، يشدّد معادو المثلية على اختلاف التكوين العضوي الفيزيولوجي بين الأنثى والذكر. فثمة جنسان (ذكرٍ وأنثى)، وكلٌّ منهما بحاجةٍ إلى الآخر ومكمِّلٌ له جنسيًّا، في الوقت نفسه. ويبين تكوين الأعضاء الجنسية لدى الطرفين اختلافهما وتكاملهما في الوقت نفسه. فكلٌّ من القضيب لدى الذكر، والفرج لدى الأنثى، يمثلان المركز الأساسي للشهوة الجنسية لدى الرجل والمرأة، على التوالي، ويمكن لكلٍّ منهما أن يسهم في إثارة الآخر جنسيًّا، بما يساعد الطرفين على بلوغ النشوة الجنسية المرغوبة. وتبلغ حجج معادي المثلية الجنسية، والقائلين بلا-طبيعيتها/ لا-أخلاقيتها، ذروة قوتها، حين يقومون بالربط بين الممارسة الجنسية وعملية الإنجاب والتناسل. فطبيعية هذه العملية الأخيرة مرهونةٌ بالضرورة بالممارسة الجنسية بين الذكر والأنثى، وليس بين المثليين جنسيًّا. وعلى هذا الأساس يمكن القول بلا-طبيعية/ لا-أخلاقية الممارسة الجنسية بين المثليين؛ لأنها لا يمكن أن تفضي إلى الإنجاب والتناسل.
لوهلةٍ أولى أو أكثر، تبدو أطروحة "لا-طبيعية/ لا-أخلاقية المثلية الجنسية" قويةً ومقنعةً، جزئيًّا ونسبيًّا على الأقل، على الرغم من لجوء كثيرين من أصحاب هذه الأطروحة إلى معلوماتٍ مغلوطةٍ أو غير دقيقةٍ، عند محاولتهم إظهار علمية أطروحتهم وموضوعيتها. ويتفاجأ كثيرٌ من متبني هذه الأطروحة، حين يعلمون أن التصنيفات العلمية قد توقفت عن النظر إلى المثلية الجنسية على أنها مرضٌ أو شذوذٌ منذ ثمانينيات القرن الماضي، وأنه يصعب كثيرًا حاليًّا العثور على أي مؤسسة طبيةٍ أو علميةٍ، في "الدول المتقدمة علميًّا وطبيًّا"، يمكن أن تتبنى المعلومات المغلوطة المشار إليها آنفًا. وليس نادرًا حينها أن ينتقل معادو المثلية من محاولات الاستناد إلى العلم والطب، لإظهار موضوعية أطروحتهم، إلى التشكيك في علميتهما وموضوعيتهما والقول بتأثرهما بتحيزات أيديولوجية وتوجهات سياسيةٍ غير علميةٍ أو مضادة للعلمية. ولن نجادل هنا في مدى علمية العلم الذي يقول بطبيعية المثلية الجنسية، ولن ننكر إمكانية تأثره بتحيزاتٍ أيديولوجيةٍ وسياسيةٍ وأخلاقيةٍ، لكننا سنكتفي بالتشديد على زيف كل المحاولات الساعية إلى إثبات علمية الأطروحة القائلة بلا-طبيعية/ لا-أخلاقية المثلية الجنسية، وزيف كثيرٍ من الإحصاءات التي يتداولها معادو المثلية، في هذا الخصوص.
للرد على مثل هذه الأطروحة وعلى الحجج التي تسندها، لا بد، بدايةً، من التشديد على أنّ "طبيعية" المغايرة الجنسية لا تعني مطلقًا أنّ المثلية الجنسية غير طبيعيةٍ أو منافيةٌ للطبيعة. فالاعتقاد بأحادية الطبيعة، وعدم محايثة الاختلاف والتنوع لها، هو افتراضٌ ميتافيزيقيٌّ لا تسنده التجربة، ولا يقتضيه المنطق، من حيث المبدأ. فالمغايرة الجنسية هي حالةٌ طبيعيةٌ، وكذلك هو حال المثلية الجنسية؛ والاختلاف الأساسي بين الحالتين يكمن تحديدًا في الشيوع الأكبر للأولى؛ لكن هذا الشيوع لا يجعل المثلية الجنسية أقل طبيعيةً أو ينفي هذه الطبيعية. إنّ المثلية الجنسية، مثلها مثل المغايرة الجنسية، مرتبطةٌ بهرموناتٍ عضويةٍ وبميول نفسيةٍ؛ وكلا الأمرين (الهرمونات والميول) طبيعيان ونتاج طبيعة الإنسان، العضوية والنفسية.
احترام الآخر المختلف عني هو أمرٌ أكثر صعوبةٌ، وأكثر ضرورةً وإلحاحًا، وبالتالي أعلى قيمةً، في الوقت نفسه
قد يسلم، معادو المثلية جدلًا بكل ما سبق، في سبيل الوصول إلى ما يمكن اعتباره حجتهم الأقوى القائلة بوجود ارتباطٍ عضويٍّ طبيعيٍّ بين المغايرة الجنسية والإنجاب أو التناسل، وبأنّ غياب هذا الارتباط، في حالة المثلية الجنسية، يسمح بتبني الأطروحة القائلة بلا-طبيعية/ لا-أخلاقية المثلية الجنسية. على الرغم مما يبدو من قوة هذه الحجة إلا أنها لا تستطيع الصمود طويلًا أمام أي محاكمةٍ نقديةٍ صريحةٍ. صحيحٌ أن هناك من يمارس الجنس لغاية الإنجاب (أيضًا)، لكن ذلك لا يعني أن ممارسة الجنس مشروطةٌ بتحقيق هذه الغاية فقط أو بالضرورة. فكثيرون من الناس يمارسون الجنس، على الرغم من عدم رغبتهم في الإنجاب أو عدم قدرتهم على الإنجاب، لأسبابٍ متعددةٍ ومتنوعةٍ. فواقع الحياة الجنسية لدى البشر يثبت عدم ارتباط هذه الحياة بمسألة الإنجاب والتناسل بالضرورة. وعلى هذا الأساس، لا يمكن القول بلا-طبيعية/ لا-أخلاقية المثلية الجنسية، انطلاقًا من كون ممارسات المثليين الجنسيين لا تهدف إلى الإنجاب و/أو لا تفضي إليه؛ فهذا هو الحال أيضًا في بعض أو أغلب الممارسات الجنسية لدى المغايرين.
وقد يقبل المدافعون عن المثليين، لغايات جدليةٍ، أطروحة معادي المثلية بلا-طبيعية المثلية الجنسية، لكنهم سيشددون حينها، من جهةٍ أولى، على أن اللا-طبيعية هنا لا تعني مطلقًا اللاأخلاقية، ومن جهةٍ ثانيةٍ على أن مقابل الطبيعي هنا هو الثقافي، وليس الشاذ والمنحرف أو المشوه ... إلخ. ومن المفيد التذكير، في مثل هذا السياق، بأن الأخلاق، والأحكام المتأسسة عليها، تنتمي، بالدرجة الأولى، إلى ما هو ثقافيٌّ، وليس إلى ما هو طبيعيٌّ أو فطريٌّ في الإنسان. وعلى هذا الإساس، لا يمكن لمعادي المثلية أن يقوموا بمماهاة اللا-طبيعي باللا-أخلاقي، وإلا لكان عليهم أن يدينوا أخلاقيًّا الأخلاق ذاتها وبمجملها؛ لأنها، بمعنى ما، غير طبيعيةٍ، بل ومضادةٌ للطبيعة، جزئيًّا ونسبيًّا، أيضًا.
(5): في (عدم القدرة على) احترام المثليين: التمييز بين الاحترام بوصفه شعورًا والاحترام بوصفه سلوكًا
قد يضطر معادو المثلية إلى أن يقبلوا، على مضضٍ، حصول المثليين على حقوقٍ مساويةٍ لحقوق المغايرين؛ لأن معارضتهم ليست مجديةً و/ أو قانونيةً، أو لم تعد كذلك. وهذا هو حال الكثير من اللاجئين العرب والمسلمين في أوربا الغربية، حيث أصبحوا فجأةً مطالبين باحترام المثلية والمثليين، بعد أن كان من البديهي أو المسلم به، في ثقافاتهم وبلادهم ومجتمعاتهم، لا-أخلاقية ولا-قانونية المثلية. لكن كثيرين من هؤلاء يحتجون على مطالبتهم باحترام المثلية والمثليين، ويشددون على عدم قدرتهم على ذلك، وعلى أنهم لا يستطيعون التخلص من الشعور بالنفور الشديد من الفكرة، ومن متبنيها وممارسيها، وحتى ممن يدافع عنها وعنهم.
في مواجهة هذه الحالة الشائعة، ينبغي بدايةً تعليق الأحكام الأخلاقية بحق مثل هؤلاء الأشخاص وبحق ما يشعرون به. فالأحكام الاخلاقية تختص بما هو إراديٌّ فقط لدى الإنسان. وما لا يمكن للإنسان أن يسيطر عليه، ويغيره، لا يمكن محاكمته أو الحكم عليه، في خصوصه، أخلاقيًّا على الأقل. ومن الضروري التنبُّه والتنبيه إلى هذه النقطة؛ لأن المدافعين عن المثلية والمثليين كثيرًا ما يستسهلون إطلاق الأحكام السلبية بحق من يختلف عنهم، في هذا الخصوص، ليس بالرأي فحسب، بل وبالمشاعر أيضًا. وحتى إذا كان علينا إطلاق بعض الأحكام الأخلاقية، في خصوص من يقتصر على الشعور بالنفور من المثلية والمثليين، بدون أن يعبر عن نفوره بسلوكٍ أو لفظٍ يؤذيهم، فينبغي لنا حينها النظر إلى هؤلاء الأشخاص على أنهم ضحايا تربيةٍ ومجتمعٍ وثقافةٍ سائدةٍ، وليس على أنهم مرتكبو خطايا، أو حتى أخطاء، بحق المثليين. والتفهم والتعاطف مطلوبان بالتأكيد حينها، وليس مبادلة النفور بالنفور، واللجوء إلى خطاب "الهتِّ والتعيير"، للتدليل على الدونية الأخلاقية المزعومة لهؤلاء الأشخاص.
النظرة الدونية التي يحملها كثيرون تجاه المثليين، موجودةٌ أحيانًا لدى المثليين أنفسهم تجاه ذواتهم ومثليتهم
ومن الضروري، في هذا السياق، التمييز بين معنيين للاحترام، من أجل توضيح معنى "الاحترام" المقصود في تعبير "ضرورة احترام المثليين". يمكن لمفهوم الاحترام أن يحيل عادةً على أمرين متمايزين: الاحترام بوصفه شعورًا، والاحترام بوصفه سلوكًا. من حيث المبدأ، المطلوب من النافرين من المثلية، وغير القادرين على تقبلها، نفسيًّا وفكريًّا، هو الاحترام، بوصفه سلوكًا، وليس الاحترام، بوصفه شعورًا.
والاحترام، بوصفه سلوكًا، يعني التعامل مع الآخر/ المثلي، في هذا السياق، على أنه إنسانٌ واعٍ لا ينبغي لأحد أن يتدخل في القرارات التي يتخذها في خصوص حياته الشخصية، الخاصة والعامة، ما دام يحترم القوانين التي يُفترض أو ينبغي أنها تحترمه أيضًا. والاحترام، بهذا المعنى، مطلوبٌ من الآخرين، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الشخص المعني، أو المشاعر التي يشعر بها الآخرون، والأفكار والقيم التي يتبنونها، في هذا الخصوص. إنّ عدم احترام الآخر هو مسٌّ بكرامته، لأنه يعني فرض الوصاية عليه من الخارج، واعتباره شخصًا غير مؤهلٍ لأن يقرّر ما هو مناسب له. الاحترام مطلوبٌ، وذو قيمةٍ أكبر، في حال وجود اختلافٍ عميقٍ بين الأشخاص. ففي حالة اتفاق الأشخاص، في خصوص أمرٍ ما، من السهل نسبيًّا أن يكون الانسجام هو الطاغي، ولن يكون حينها صعبًا أن يقبل ويتقبَّل ويحترم كل طرفٍ الطرف الآخر. أما في حالة الاختلاف القيمي الكبير، فاحترام الآخر المختلف عني هو أمرٌ أكثر صعوبةٌ، وأكثر ضرورةً وإلحاحًا، وبالتالي أعلى قيمةً، في الوقت نفسه. وعلى هذا الأساس، يبدو أن الاحترام الذي يمكن أن يبديه النافرون من المثلية الجنسية، تجاه المثليين الجنسيين، هو أكثر صعوبةً وأكثر رقيًّا، بالمعنى الأخلاقي للكلمة، من ذاك الذي يبديه كثيرٌ من المثليين أنفسهم، تجاه بعضهم البعض، أو ذاك الذي يبديه، تجاه المثليين، كثيرون ممن يدافعون عنهم ولا يشعرون بأي مشاعر سلبيةٍ تجاههم. وينبغي التنبيه هنا إلى أن النظرة الدونية التي يحملها كثيرون تجاه المثليين، موجودةٌ أحيانًا لدى المثليين أنفسهم تجاه ذواتهم ومثليتهم. لهذا ينبغي إظهار التفهم عند مواجهة هذه النظرة، من قِبَل غير المثليين، في بوحٍ وجداني أشبه بالاعتراف بالذنب. ولا ينبغي إدانة صاحب هذه النظرة، طالما أنها لم تنعكس في سلوكٍ سلبيٍّ تجاه المختلفين عنه.