(ريف إدلب)، يجلس بجانب مدفئة الحطب لساعات طويلة وبقربه يضع عدته البسيطة، وبعض المناديل الورقية التي يحتاجها لمسح الدماء التي تسيل من يديه أثناء العمل.
بعد انقطاع لمدة 55 عاما يعود الرجل السبعيني، حميد طوبال، للعمل في مهنة تعلّمها في صغره أثناء عيشه في قريته (جب طورس) الكائنة في جبل التركمان في ريف اللاذقية الشمالي، لتكون سندا له، حاليا، ومصدر رزق يعيل بها نفسه وأسرته. كانت هذه المهنة، وهي صنع الدبق (أداة تستخدم في القرى لصيد العصافير)، قد اختفت، لكن الحرب والظروف الصعبة التي يعيشها الناس والعودة للاعتماد على كل ما هو قديم، جعل فكرة إحيائها أمرا ممكنا.
حميد رجل يبلغ من العمر72 عاما، حزين الملامح وهادئ في الكلام، يتحدث بعض الكلمات باللغة التركية وأخرى بالعربية الفصحى والعامية، يخلط بينهم أثناء أي حوار.
يعود أصله إلى تركمان منطقة الباير بريف اللاذقية، يرتدي سرولا أسودا عريضا وسترة شتوية، ويجلس على كرسي واضعا أحد الأغطية تحتها لكي يمنع وصول أي قطعة من الخشب إلى السجادة أثناء العمل. يجلس يوميا على هذه الشاكلة. كان منهمكا في عمله عندما بدأ حديثه مع موقع حكاية ما انحكت. لم يرفع نظره عن القنديل (البيت الذي يوضع بداخله الدبق) الذي كان يصنعه.
يروي قصته لنا، وهو يتابع عمله "أبشر عملي بعد صلاة الفجر. عم ضل للمغيب تقريبا، بنتج يوميا قنديل إذا كنت عم اصنع قناديل، أما الدبق أصنعه بكميات كبيرة ولا يحتاج لوقت طويل، وهناك موسم محدد لصنعه في فصل الصيف لأنه يحتاج للشمس لينشف، وبالشتاء بساوي القناديل. أضع داخل كل قنديل دبق وأبيعهم بمبلغ يصل الى حدود أربعة آلاف ليرة سورية (ما يعادل أربعة دولارات)".
"هالشغل ما بيطعمي خبز"
يوضح طوبال، أن الفكرة جاءت عندما طلب منه أحد معارفه أن يصنع له دبق ليمارس العمل بصيد العصافير، لم ينس كيفية صنعه رغم مرور هذه السنين الطويلة لأنه تعلم هذه المهنة على صغر "لا يمكن نسيان الأشياء التي ترسخ في أذهاننا ونحنا بعمر صغير، لم يعجبني كثيرا أول دبق وقنديل صنعتهم بعد هذه السنوات كثيرا، مع التكرار تحسّن عملي"، يستدرك كلامه بعد نفس طويل "لكنه كان جيدا بعد 55 عام من التوقف عن هذا العمل".
يتابع قائلا "تعلمت هذه المهنة بمفردي وبمجهود شخصي مني، فعندما كنت في الخامسة عشر من عمري أوكل لي والدي مهمة حراسة أراضينا الزراعية بجبل التركمان خلال فصل الصيف لمنع الطيور والحيوانات من أكل المواسم الزراعية. كنت أمضي وقتا طويلا هناك أشعر بالملل. مناطقنا تتميز بالجبال والغابات الكثيفة. كنت شوف بعض الرجال يلي يجيبو القصب وقضبان الريحان من هذه الغابات، وهي المواد الأساسية لصنع الدبوقة والقناديل، ويقومون بصنعها أمامي. كنت قلدهم أثناء حراسة الأراضي، ونجحت بتعلم هذه المهنة، بعرف أصنع سلل وقراطل التي كانت تستخدم لسلق الحنطة والبسط يلي بتنمد على الأرض في القرى والمكانس، وهي كلها بتنصنع بشكل يدوي من القش. كانت أيام حلوة رغم إنو والدي كان يعصب علي وقت يشوفني عم اصنع أي شي من القصب، ويقلي حاج تلتهي، ها الشغل ما بطعمي خبز بس اجى يوم وصار يطعميني"، يقول ذلك وهو يضحك.
نزوح متكرر
حميد كان يعمل سابقا بالخياطة، وهو خياط معروف في مدينة اللاذقية، ويملك العديد من المحلات. ففي العشرين من عمره توّجه للعيش في اللاذقية، وهناك تعلّم الخياطة وعمل بها حتى عام 2012.
لكن هناك أسباب كثيرة تمنعه من العمل بمهنته هذه في الوقت الحالي، أبرزها تقدمه في السن وعجزه عن فتح محل مستقل، فضلا عن فقر الناس والاستغناء عن هذه الأمور والاعتماد على المساعدات من الملابس.
توّجه في بداية العام 2012 نحو قريته، التزم بالعمل بأراضيه حتى سيطر النظام عليها، فأجبر على النزوح مجددا في عام 2015 نحو قرية خربة الجوز بريف إدلب الغربي، وخسر كل شيء، فبات يترتب عليه دفع آجار المنزل وتأمين الأكل والشرب له ولعائلته.
توضح الناشطة المدنية من ريف اللاذقية، ريم عبد الكريم، لحكاية ما انحكت، أن "السبب الأساسي في عودة هذه المهن التي كانت تعتبر تراث في سوريا، وبعضها كاد أن يختفي، هو الحاجة وعودة الحياة للأساليب القديمة بسبب انقطاع الكهرباء ونقص المحروقات وغياب الغاز، مما أجبر الناس على إيجاد حلول بديلة لمتابعة الحياة، فكان إحياء هذه المهن أمر ضروري".