كانت هدى، ستة وعشرون عاماً في ذلك الوقت، في آذار عام 2012، تضع طبخة الكواج على النار، وهي تحاول تجاهل غثيان الصباح الذي يترافق مع الفترة الأولى من الحمل، فالغداء لا بد أن يكون جاهزاً عند عودة زوجها حسام من العمل في الساعة الثانية.
خفّفت هدى من قوة النار، وخرجت إلى حديقة المنزل الأرضي الصغير في جرمانا، لكي تبتعد عن رائحة الطهي التي كانت تزيد من حالتها سوءاً، وما إن جلست على كرسي القش، حتى قفز من سور الحديقة عشرة رجال مدججين بالسلاح، ويرتدون زياً عسكرياً. شلّت الصدمة هدى، وابتلعت الهواء وهي تحاول الصراخ، لكن صوتها اختنق، وثم شعرت بالدوار ووقعت على الأرض، وهي تشاهد العناصر وهم يصرخون: "وينو العرعوري؟ وينك يا خرا؟ شوفو بهي الغرفة! شوفوا بالسقيفة!".
سمعت هدى صوت تكسير وتحطم زجاج، حاولت النهوض لكن أحد الجنود صوّب بندقيته فوق رأسها "خليكي مبطوحة وليه!".
ولم تكن هدى لتستطيع الحركة على كلّ حال، فقد خارت قواها من الهلع. قلب العناصر المنزل رأساً على عقب بحثاً عن زوجها حسب ما استنتجت. وبعد أن تأكدوا من أنّه ليس في المنزل، همّوا بالخروج. لكن أحدهم التفت باتجاهها، وهي لا تزال ممدّدة على الأرض، وصرخ: "جيبوها لهي".
بعض العناصر كانوا متردّدين في تنفيذ الأمر، استطاعت رؤية ذلك في عيونهم، لكنها سرعان ما وجدت نفسها بين شابين ضخمين يمسكان بذراعيها ويجران جسدها المرتخي. همست هدى بصوت مرتجف: "ناولني الإشارب". رمى أحد العناصر غطاء رأس كان معلقاً وراء باب الخروج، فوضعته هدى كيفما اتفق، وخرج العناصر ومعهم رهينتهم وسط دهشة وخوف الجيران الذين صرخ بهم العنصر "انضب إنت وياه، ما في شي تشوفوه".
ترك العناصر الباب مفتوحاً وراءهم، وكانت رائحة الكواج تفوح في البيت وعند مدخل البناء. كانت الصدمة قد شلّت تفكير هدى تماماً. أمرها رئيس المجموعة بالركوب من الباب الخلفي لسيارة جيب، فاستجابت بطريقة آلية. ولم تدرك كم مضى من الوقت، وهي في سيارة الأمن بين العناصر قبل أن تصل إلى فرع الخطيب في قلب العاصمة دمشق.
كانت تختلج بشدة ولم تعد تقوى على الوقوف. نقلها عنصران من داخل الفرع حملاً إلى منفردة كتب عليها رقم 22. نظرت هدى حولها، كانت المنفردة ضيقة جداً، على أرضها كان هناك غطاء لباد. وفوق رأسها مصباح كهربائي مضيء. كانت الجدران مطلية بالكتابات. لكنها لم تستطع أن تقرأ كلمة واحدة. كانت منهارة ومعطلّة الحواس، وتساءلت إن كانت قد ماتت وإن كان هذا هو قبرها.
زواج تقليدي
تزوجت هدى، وهي صبية حمصية من عائلة بسيطة تقيم في دمشق منذ سنوات، من الشاب الدوماني الذي يعمل في توزيع المواد الغذائية في أسواق دمشق، منذ سنة ونصف، أي في أواخر عام 2010. أتى الزواج بعد فترة خطبة تقليدية استمرت لعدة شهور. كان زواجاً هادئاً خالياً من أي خلاف يذكر. كانت هدى قليلة الكلام، هادئة، بطيئة الإيقاع، وكان زوجها لطيفاً كتوماً، لا يتفوه إلا بما تقتضيه الضرورة من كلمات. لم يرفع صوته في وجهها يوما، إلا في مرة واحدة، عندما كانت قد انطلقت المظاهرات في سوريا، وكانت هدى تتابع تسجيلاً على قناة الدنيا في ذلك الوقت لشاب يسكب على وجه صديقه الكولا ليغسله من آثار الغاز المسيّل للدموع. كانت هدى فتاة بسيطة ساذجة، وكانت تصدق الإعلام الرسمي وتعبّر عن استيائها من هؤلاء "الجهّال" حسب تعبيرها، الذين يريدون أن يخربوا البلد. لم يكن حسام يعلّق، وكان يكتفي بتغيير المحطة. لكنه في تلك المرة، لم يتمالك نفسه، وهو يسمع أكاذيب المذيع الذي كان يفسّر الصورة على أنها فبركة لتمثيلية لتشويه صورة الأمن، وأنّ الكولا هي دم مزيف!
-ما بقا تبطلي إدمان على هالقناة الزبالة؟
-عم نشوف شو صاير بالبلد حسام، ليش عصبت عليي؟
-إذا بدك تعرفي شو صاير بالبلد أنا بقلك. العالم عم تعمل مظاهرات والأمن عم يقتلون. عرفتي كيف؟
سكتت هدى لحظات، ثم سألته: وإنت؟ عم تنزل؟ الله يخليك يا حسام، إذا بيصرلك شي بموت من قهري.
تنهد حسام: لا تخافي. ما عم إنزل.
إعجاب سطحي وزوج "إرهابي"!
كانت تلك المرة الوحيدة التي استشفت فيها هدى من حسام موقفه مما يجري. في حقيقة الأمر، هي لم تكن تملك أي موقف. كان هاتفها المحمول يحمل صوراً لبشار الأسد وأخيه المتوفى باسل، كما كان يحمل صور كاظم الساهر وباسل خياط. كان موقفها من النظام الحاكم كموقفها من ملصق لأحد المشاهير على الحائط. مجرد إعجاب سطحي من مسافة بعيدة، لا يستحق حتى البحث عن مبررات.
في فرع الخطيب، وبعد يومين ظلّت هدى فيهما منهارة وحيدة في منفردتها، استدعيت للتحقيق للمرة الأولى. لم يكن المحقّق فظاً، كان هادئاً، لم يوّجه لها أي اتهام، وسألها عن زوجها بضعة أسئلة، عن مكان عمله، عن موقفه السياسي، عن أيّ نشاط له معاد للدولة. لم تكن هدى تعرف عن حسام شيئاً. وجعلها ذلك تشعر بالهلع والغربة. هل يعقل أن يكون زوجها إرهابيا؟ هل يمكن أن يكون قاتلا؟ ماذا ستفعل الآن؟ وما مصير طفلها القادم؟
أعيدت هدى إلى المنفردة، وتوّقعت أن يكون إخلاء سبيلها خلال ساعات. لكنها بقيت في المنفردة أسبوعاً كاملاً دون أن يتكلّم معها أحد. بدأت عندها تفقد صوابها، وذات يوم صرخت للسجانين، وهي تبكي: "طالعوني من هون. مشان الله طالعوني من هون".
كان قسم المنفردات مختلطاً، غالبية المعتقلين فيه كانوا رجالاً، مع بعض النساء اللواتي كان السجانون أيضاً ينادونهم بصيغة المذكر، ربما لكي لا يعرف المعتقلون الذكور بوجودهم، أو كي لا يثيروا حمية الرجال، لذلك كان عقاب المرأة شديداً عندما كانت ترفع صوتها وهي تنادي. كأن تعنّف لفظياً، أو أن تغلق فتحة باب المنفردة عدّة ساعات، أو أن تصفع وتدفع إلى الداخل بقوة.
استفزاز السجانين
استفزت هدى السجانين بصراخها، فأسرعوا إلى باب المنفردة ليعاقبوها، وعندما أخبرتهم أنّها حامل علهّم يعاملونها ببعض اللطف، جلبوا لها طبيب السجن ليكشف عليها، فتعامل معها كما يتعامل البيطري مع بقرة. أحد السجانين أبدى اهتماماً بها، وأصبح يمرّر لها حبات البندورة والخيار، وأحياناً الخبز الذي لم يتعفن بعد. كانت تبتسم له، وتشكره، ولم تعد تضع حجابها أمامه، ثم تخلّت عن حجابها أمام الجميع.
كان الحمام قذراً بشكل لا يوصف، رائحته تصيبها بالغثيان، وكثيراً ما تقيأت داخله قبل أن تعود إلى المنفردة، فهي لا تريد أن تتقيأ حيث تنام.
كانت المنفردة خانقة بما يكفي لكي لا تربط حول رقبتها أي شيء. قضت هدى معظم وقتها في النوم، ولم تكن تنهض إلا من أجل الأكل أو الذهاب إلى الحمام. كان حمام المنفردات مشتركاً، وكان السجانون يأخذون السجناء من المنفردات إلى الحمام وينتظرونهم حتى ينتهوا. كان موعد الحمام مرتين يومياً، لكن كان هناك بعض الاستثناءات لمرضى السكري ولهدى الحامل. كان الحمام قذراً بشكل لا يوصف، رائحته تصيبها بالغثيان، وكثيراً ما تقيأت داخله قبل أن تعود إلى المنفردة، فهي لا تريد أن تتقيأ حيث تنام.
محقق آخر
وبعد أن مضى أسبوع، استدعيت هدى مرة ثانية للتحقيق، لكنها في هذه المرة ذهبت مع السجانين إلى غرفة التحقيق وهي مطمشة العينين، كان محققاً آخر، جلفاً وبذيء اللسان. وكان مصراً أنها تخفي شيئاً.
-ما بدك تحكيلنا شو عامل جوزك ما هيك؟ هالعرعوري الكلب، عم تصرفوا من مصاري قطر والسعودية يا خونة. احكي أحسنلك يا إما بتعفني هون. ما بتطلعي غير على المقبرة.
أنكرت هدى وبكيت وتوسلت. وعلى الرغم من أن المحقق لم يضربها، لكنه كاد يفقدها وعيها من الخوف والتوتر.
"هي تاج راسي"
استمرت التحقيقات من هذا النوع ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع، استدعيت هدى مرة جديدة إلى غرفة المحقق بدون غطاء للعينين، وعندما دخلت، وجدت زوجها مكبّلاً شبه عار، مطمّشاً، والدم ينزف من رأسه وأنفه وفمه ورجليه.
صرخ المحقّق: اخرسي وليه. مين سمحلك تحكي؟
أصيبت هدى بالدوار وسقطت أرضاً، فحملها السجانون إلى المنفردة، وكانت تلك آخر مرة ترى فيها زوجها.