وثيقة الزواج المصادق عليها من المحاكم الشرعية للدولة، وحفلات الأعراس المكلفة والمتكلفة، والمحابس الثمينة، ليست ضمان للارتباط المقدس، وما أبعدها من التعبير عن فرح وحب رجل بامرأة ما. وإلى ذلك، آمن جهاد، بأنه سيظل حراً طليقاً يملك العالم كله، طالما سيسجل صك البيت أو السيارة أو أي شيء مادي يمكن أن يبتاعه في المستقبل، بإسمي أنا، زوجته.
مفهوم وعلاقة جهاد بمصطلح "الملكية الخاصة"، استطعت أن أتفهمها وأردها لشيوعيته، التي اعتنقها في السادسة عشر من عمره، بعد أن قرأ العديد من كتب ماركس وإنجلز، وملهمه كمان كان يقول "هيغل". ولكن جهاد حين بكى شديداً ذلك المساء على مجزرة أطفال الحولة في حمص في 2012، تجرّد من شيوعيته، من كونه سياسياً، ومن عمله كصحفي وككاتب، ومن رجولته وصار لحظتها " ذكر سوري مخصي!". هذا كان رده علي، عندما قلت له ممازحة لأخفف عنه وطأة شعوره بالحزن: " الرجال لايبكون ياجهاد".
أجزم بأن جهاد ذرف دموعه يومها، لأن الحزن فاق قدرة جسده على احتماله. وأعتقد بأن جهاد بكى كثيرا صامتاً، موارياً دموعه منذ أن بدأ في سوريا "الحراك الشعبي" كما كان يسميه . والحساسية الجلدية التي غزته من رأسه حتى أخمص قدميه بداية صيف 2011 لتمتد بعدها طيلة ستة أشهر كاملة، دليل قاطع على كمية الدموع الهائلة التي أخفاها، فأطلقها جسده على شكل بثور وبقع حمراء، والتي عزا الطبيب ظهورها إلى الحالة النفسية السيئة التي مر فيها جهاد حينها.
خذلان "الرفاق القدامى والحزب"
ويختصر جهاد سبب حالته تلك بكلمة واحدة "الخذلان". الخذلان تحديداً من تياره السياسي "حزب الإرادة الشعبية" الممثل بقدري جميل وبعض الرفاق الحزبيين، فهم اصطفوا جميعاً في خندق واحد، ضد آلاف الجموع في التظاهرات التي انطلقت في ساحات وشوارع المدن السورية، والتي التحق بها جهاد، متهمين سلوكهم وسلوكه بالعشوائي المجرد من التفكير السياسي، وحين أصر وأمعن جهاد في وقوفه مع جماهير الشعب المنتفضة، اتهموه بـ"الطائفي"! بالعائد لا شعورياً لـ"سنيته".
مشدوهاً أخبرني بالتهمة العجيبة. صمت طويلاً وكعادته يتخذ قراراته المصيرية كلها حين يصمت، وسألني:
- هل تقبلين بأن يكون راتبك هو دخلنا الوحيد؟
- ماذا تقصد؟
- سأترك العمل في جريدة قاسيون.
- هل ستكون أفضل حالاً؟
- نعم.
- فليكن إذاً.
تسع سنوات أمضاها جهاد في مكاتب جريدة قاسيون (الناطقة الإعلامية لحزب الإرادة الشعبية)، قاضياً فيها وقتاً أكثر من ذلك الذي أمضاه في بيت أهله حين كان عازباً، وحين تزوج . من محرر بسيط في الجريدة، إلى مدير تحريرها، ثم ليفترق عنها في أذار 2012 بصفته رئيساً للتحرير، بعد أن يئس من إقناع كادرها بأن ما يحصل في سورية ضرورة حتمية وتاريخية.
على مفترق طرق كان يقف، حسم أمره، تحرّر من الخذلان، من اليأس، من حساسيته الجلدية، وارتحل سالكاً طريق الثورة.
يحضرني حديثاً دار بين جهاد وأحد رفاقه الحزبين المعترضين على خروج المظاهرات من المساجد، فرد عليه جهاد: " وجد المتظاهرون في المساجد، فقط، مكانا للتجمع. فأين سيجتمعون؟ في المراكز الثقافية المغبرة في بلدك؟، أم في النقابات والمؤسسات والهيئات الوهمية، وهي إن وجدت، ستكون مكبلة بالرقابة الأمنية... إذا لم يعجبكم، فلتخرجوا أنتم إذ؟اً".
على مفترق طرق كان يقف، حسم أمره، تحرّر من الخذلان، من اليأس، من حساسيته الجلدية، وارتحل سالكاً طريق الثورة.
الانغماس بالثورة حدّ أن "غاب عني أيضا"
لم يغب جهاد فقط عن قاسيون، بل غاب عني أنا أيضاً، أذكر ذات مرة أنني أخذت منه موعداً على الهاتف كي ألتقيه في باب توما! كنت غاضبة لبعده، وكان هو سعيد جداً، فقد تمكن من إدخال كرتونة من أكياس الدم ذاك اليوم إلى مدينة دوما. حقيقة لا أعرف إن كان جهاد يسمعني وأنا أشتكي غيابه الطويل عن منزلنا في حرستا، ولا أعلم إن كان يعي مدى قلقي وخوفي عليه من أجهزة النظام الأمنية التي لا ترحم. فإضافة لما كان يفعله من الخروج في المظاهرات، إلى القيام بالأعمال الإغاثية، راح يكتب وعلانية في موقع "ألف" مقالات عن الثورة وللثورة ولكل من تماهى معها.
"على هذه الأرض التي لم يهزمها أحد، ولم يخذلها إله.. ستنتصر القلوب الدافئة على الرصاص البارد، وستنتصر العيون على الظلمة الطارئة، وستنتصر الأغاني والمواويل على الشعارات العابرة، وسينتصر الحجل البري على الغربان المعدنية، وسينتصر التراب البصير على الصلب الأعمى.." يقرأ جهاد ويسألني: " هل أعجبتك؟". لم تعجبني فقط، بل طغت على روحي بالكامل، وما أوردت مقطع من مقالة "الثلج الأحمر" إلا لأمنيتي بأن يقرأها السوريون جميعاً.
"لن يخرجني من سورية إلا الموت"
وينغمس جهاد بالثورة أكثر وأكثر. يتوقف عن الكتابة، ويرفض عقد العمل في دبي ككاتب سيناريو في صيف 2012، وأمتعض أنا لرفضه فرصة ذهبية كتلك، وبهدوء يقول لي: " لن يخرجني من سوريا إلا الموت". فأصمت، وأوقن بأن جهاد صار مرهونا بالكامل للعمل الثوري وفي الميدان وعلى الأرض، ولن يجدي معه نفعاً أي حديث أو فعل لا يصب في مصلحة الثورة، فأجاريه وأنغمس معه وأعشق مثله الهتاف الذي كان يدب الحماس في قلبه: " الموت ولا المذلة".
أراد جهاد للحراك الشعبي أن يكون منظماً، مجدياً، يشارك فيه كل من يملك القناعة بأن ما يحدث في سوريا ثورة موضوعية، والأهم ليست إسلامية
في جرمانا، التقيت جهاد مساءً في أواخر صيف 2012، منهك، مشغول بهاتفه كالعادة. سألني: "كيف حالك؟"، رددت: "سيئة جداً". فقد نزحت عن منزلنا في حرستا إلى منزل أهلي في دمشق منذ أكثر من خمسة عشر يوما، بعد أن بدأت المعارك تشتد فيها. وحيدة كنت حين نزحت، أتواصل مع جهاد على الهاتف، فهو كان ربما في الغوطة، ربما في برزة ، حقيقة لا أعلم أين كان!. وكانت مدينة جرمانا نقطة التقائنا بعد أكثر من أسبوعين. بكيت حين شاهدته، أخبره بغضب: "منذ أكثر من أسبوعين لم أرك"، وبهدوئه المعتاد يرد: " معك كل الحق.. أمهليني فقط حتى أانتهي من التشبيك".
أراد جهاد للحراك الشعبي أن يكون منظماً، مجدياً، يشارك فيه كل من يملك القناعة بأن ما يحدث في سوريا ثورة موضوعية، والأهم ليست إسلامية. أرّقه كثيراً نعت الثورة بالإسلامية، فحارب جهاد بعنف، بالكلام، وبالفعل ليشكل فريقاً ثورياً يجمع كل أطياف ومشارب وتوجهات الثائرين ضد نظام الأسد.
لا أستطيع أن أحكم على مدى تحقيقه لما أراد، ولكن حين يُقسم "س" من دوما برب الكعبة بأنه لن يهدأ حتى يخرج جهاد من المعتقل، وحين يزعم "ع" الماركسي بأن اعتقال جهاد طعنه في الصميم، وحين تبكي "م" المسيحية على اعتقال جهاد أكثر مني أنا، أدرك حينها ماذا عنى جهاد بالتشبيك، وأدرك حجم الخوف والرعب لدى النظام من شخص كجهاد، أجمع "س وع وم" على أن اعتقاله خسارة فادحة للثورة.
تنهار حرستا على وقع الطيران والقنابل، وكحل لتشردي أنا وجهاد، أبيع كل مصاغي ونستدين المال من الأهل والأصدقاء، لنشتري في خريف 2012 منزلا في عدرا العمالية بالتقسيط الممل والطويل. " أجمل ما في المنزل.. قربه من الغوطة الشرقية" كانت هذه أول عبارة بارك فيها جهاد المنزل الجديد.
أخذ أصدقاء جهاد في الثورة عليه إيلائه واهتمامه الشديد بالثورة في الغوطة الشرقية وتحديداً مدينة دوما. وكان لجهاد وجهة نظر في ذلك، فهو اعتقد بأن الغوطة أقرب منطقة لدمشق العاصمة، وإذا ما استطاعت ثورة الغوطة اجتياح العاصمة، فهذا سيسرع سقوط النظام، وبالتالي انتصار للثورة في وقت زمني قصير وإنهاء سفك الدماء المستعر. وفي تفاصيل ثانية أخبرني عنها جهاد: " أخاف التشرذم والمناطقية، أخاف من لعنة الدولار". لم أفهم حينها بدقة ماذا كان يعني جهاد بكلامه هذا، ولكنني الآن أوافق على ما كان يخافه بعد تسع سنوات من الثورة.
أحب جهاد منزلنا الجديد في عدرا العمالية، عبر لي أكثر من مرة عن شعوره بالسكينة والأمان فيه. وأحببت أنا شعوره ذاك الذي تناقض مع شعوري، فأنا دخلت في دوامة من القلق الشديد على جهاد، لحظة علمنا عن طريق الفيس ومن أصدقائه بأن اسم جهاد نشر على الحواجز الأمنية وصار مطلوباً لأجهزة النظام الاستخباراتية. لم يكترث، أو هكذا كان يتظاهر، وأصبح غيابه عن المنزل لساعات وأيام طويلة، مبرراً بعدم مجازفته في اجتياز الحواجز وتفضيل بقائه في الغوطة أو برزة أو أي منطقة آمنة بالنسبة له.
غيوم الحزن في عينيه
كانت الساعة الخامسة مساء في بداية شهر حزيران 2013، عندما اتصل جهاد بي وأخبرني: " أنا قادم للمنزل، متعب جداً، أريد أن أارتاح". بدا حزيناً للغاية حين دخل المنزل، سألته توضيح سبب حزنه، فرد: " لاشيء". ومكث جهاد في المنزل عشرين يوماً، مغلقاً هاتفه، شارداً بعيداً، مصغياً فقط لقصيدة محمود درويش "لاعب النرد" والتي استمع إليها عشرات المرات.
- " كم أشبه أنا لاعب النرد" قال لي جهاد.
- "كيف ذلك؟" سألته.
- ويرد علي جهاد: "هنا، حين يقول محمود درويش: نجوت مصادفة، كنت أصغر من هدف عسكري، وأكبر من نحلة تتنقل بين زهور السياج". هنا، إذ يقول درويش:" ومشى الخوف بي ومشيت به حافيا ناسيا ذكرياتي الصغيرة عمما أريد من الغد...لا وقت للغد.. أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى / أرى / لا أرى / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَى / ويغمى عليّ".
نجى جهاد ذات مرة من طلقة طائشة في حرستا، ونجى مرات عدة من تفيش الحواجز الأمنية لهويته. ولكنه لم ينجو من الغرق في بحر الثورة، الذي أخذه بعيداً عن التفكير بحياته كزوج أو رجل يبحث عن أمن واستقرار. وبدأت أعتاد جهاد "القطاع العام" كما كنت أصفه، فيبتسم هو، ويمضي، ويتركني أتصل بكل من أعرفهم من أصدقائه الرجال والنساء، لأسألهم إن كان جهاد بخير أو يعرفون مكانه، عندما يغيب عني طويلا ويكون هاتفه خارج التغطية!.
"نبتدي منين الحكاية"
25 تموز يوم عيد ميلادي، هو يوم يجب أن يحتفل به جهاد مهما كانت الظروف. سألني أن أنتظره في بيت أهلي في مساكن برزة لنحتفل سوياً. كنت أنا فعلياً في منزل أهلي منذ أكثر من أسبوع، فحالة والدتي الصحية كانت سيئة جدا، حيث سيطر السرطان على جسدها.
لم أتمكن من اكتشاف نوعية السحر التي كان يمارسها جهاد على النساء، فوالدتي التي تمقت كل رجال العالم بمن فيهم أبي، أحبت جهاد، وصفته بالطيب، وقالت عنه صادق وحنون، وهي لفظت أنفاسها الأخيرة في أواخر تموز 2013 على كتفه.
كل التواريخ كتبتها باللون الأزرق عدا تاريخ واحد كتبته باللون الأحمر وأطرته دون غيره، وهو: "السبت 10/8/2013 .. السبت الأسود، ثالث أيام عيد الفطر، الساعة بين 1 و2 ظهراً ، اعتقل جهاد".
في عينيه كلام كثير أحسست، سألته أن يفصح عمّا يفكر، فيرد جهاد: "لاحقاً.. ريثما يهدأ حزنك". لم أتريث وأصريت أن يقول.
- لابد أن أغادر دمشق في أسرع وقت، لم أعد بإمكاني البقاء.
- إلى أين تغادرها؟
- الغوطة أو أي منطقة خارج السيطرة.. هل تأتين معي؟
- أينما ستذهب سأذهب.
- قد لا تحتملين القصف والحرب.
- سأتحمل.
أرسم أنا وجهاد مساء 9 أب 2013 خطة مغادرة دمشق دون أن نضع الوقت الزمني لتنفيذها، فهناك بعض الأمور التي يجب أن ينهيها في دمشق. كان جالساً، وقف، أراد أن يجري بعض الاتصالات، أحسسته طويلاً جداً وعملاقاً وأنا أنظر إليه واقفاً، ولا أعرف لماذا خطر لي فجأة شريط من الذكريات، عن جهاد الذي التقيته في تشارين 2007 ، في رحلة لفريق المشي الذي كان جهاد أحد قادته، أذهلني حينها ذلك الشاب الذي يغني ويطهو ويقطع شجرة يابسة بأكملها ليشعل النار. ثم أشاهد جهاد جالساً خلف الكمبيوتر في جريدة قاسيون، يطلب مني أن أشاهد معه مسرحية "فلم أمريكي طويل" المسرحية التي يحفظها عن ظهر قلب. وفي المساء عندما يودعني جهاد بعد أن نكون قد قطعنا مسافة طويلة ونحن نمشي في شوارع وحارات دمشق، يهديني كتاب "مائة عام من العزلة" ويسألني أن أقرأه بحب، وأركز على شخصية الكولونيل أورليانو فيها. وبعد تسعة أشهر من لقائنا نتزوج، فأسأله إهدائي أغنية خاصة بنا فيقول: "نبتدي منين الحكاية".
أحمل في حقبتي دفتر صغير أكتب عليه تواريخ أحداث غيرت مجرى حياتي، كل التواريخ كتبتها باللون الأزرق عدا تاريخ واحد كتبته باللون الأحمر وأطرته دون غيره، وهو: "السبت 10/8/2013 .. السبت الأسود، ثالث أيام عيد الفطر، الساعة بين 1 و2 ظهراً ، اعتقل جهاد".