(تنشر هذه المادة ضمن ملف "أفاق العلمانية في سوريا" بالتعاون مع "صالون سورية" وجدلية)
لا يتوقف الانشغال في موضوع العلمانية حتى في البلدان التي تتبنى منذ أكثر من قرن من الزمان علمانية جذرية أو ما يسمى أحياناً بالعلمانية الصلبة، مثل فرنسا. لا يهدأ النقاش بشأن العلمانية التي تواجه على طول الخط تحديات تطال قدرتها على استيعاب المستجدات، وحفاظها على التوازن بين حقوق المساواة وقضايا الهوية. لكن انشغالنا بالعلمانية، نحن أبناء البلدان المفقرة، والتي لم تعثر على آليتها الخاصة في الاجتماع وفي إنتاج الشرعية السياسية بعيداً عن منطق الغلبة بالعنف، يتعلق بشكل العلمانية التي نريد، وبكيفية وحدود الفصل بين الدين والسياسة، وباستكشاف قدرة العلمانية، أو عدم قدرتها، على المساعدة في الخروج بالمجتمع المسلم، أقصد الذي يشكل الإسلام دين غالبية السكان فيه، من وهدة الصراعات العقيمة التي تستهلك طاقاته وموارده وتهدد وجوده.
توسع التطرف الديني
ما شهدناه في السنوات الأخيرة في سورية وغيرها من البلدان العربية، من اتجاه واسع نحو التطرف الديني والسعي للعودة بالمجتمع إلى حكم ديني (خلافة وإمارات ومحاكم شرعية ..الخ) مع تكفير الديموقراطية والعلمانية، هو إحدى نتائج تعثر تطور مجتمعاتنا. الفشل أرض خصبة لشتى أنواع التطرف واللاعقلانية، ولا سيما في الأمم المكسورة، والتي ترى إلى نفسها، مع ذلك، على أنها متميزة ومصطفاة و"ذات رسالة"، كما هو حال "الأمة العربية". التطرف الديني الإسلامي الذي شهدته السنوات الأخيرة والارتداد نحو ماض غابر، سواء في الأحكام أو في الرموز والتسميات، هو احتجاج طفولي ضد الشطر المسيطر من العالم، أو ضد النظام العالمي الذي "يهملنا" مع أننا "الأعلون"، وهو احتجاج أو ارتداد ضد الذات أيضاً بالقدر نفسه. نقصد إن فشل هذا التطرف الديني أو هذه الجهادية الدينية العالمية أو المحلية هو أمر محتوم في هذا العصر، وما الإصرار والتضحيات المقدمة في سبيلها سوى تعبير عن إدراك عميق بالعقم والاستحالة. لا مكان في العصر الحديث لحكم الدين الذي يبشر به منظرو الجهادية، وليست هذه قناعة بعيدة عن عقول المتطرفين الإسلاميين أنفسهم، إنها فقط طريقتهم في استجلاب الاعتراف لأنهم لا يمتلكون طريقاً آخر للاندماج في العالم من موقع الشريك والتابع (طالبان في أفغانستان، وربما جبهة النصرة في سورية). وقد نقول أيضاً إن هذه الجهادية العنيفة هي طريقة غير واعية في الانتقام من الذات "الفاشلة".
بين العلمانية والمذهب العلماني
العلمانوية كنتاج لانحطاط السلطات
بماذا تتميز العلمانية عن الحكم الديني؟
من ناحية أخرى، تميز العلمانية بين مجال عام (المجال السياسي) يتساوى فيه أهل البلد بوصفهم مواطنين بحقوق وواجبات يحددها الدستور والقوانين، وبين مجالات خاصة يتمايز فيها الناس بحسب معتقداتهم الخاصة، فيمارسون في مجالهم الخاص سلطاتهم الدينية وأنشطتهم الروحية وطقوسهم وتقاليدهم بكامل الحرية. هذا يعني أن العلمانية ليست ضد الدين إلا بقدر ما يسعى الدين إلى اقتحام المجال العام، أي بقدر ما يتحول إلى إيديولوجيا لسلطة سياسية. "الدين دين في حدوده، وهو إيديولوجيا خارجها"، بحسب تعبير عزمي بشارة في كتابه (الدين والتدين)، الجزء الأول من ثلاثية بعنوان (الدين والعلمانية في سياق تاريخي)، يدافع فيها بشارة عن فكرة أساسية تقول إن العلمنة هي عملية تاريخية طويلة من التمايز بين الدين والدنيا.
هل يمكن علمنة الخطاب الديني الإسلامي؟
علمانية أرضية مقابل علمانية سماوية
علمانية الأقليات الدينية والمذهبية
في مواجهة سعي الإسلاميين إلى إقامة "حكم الشرع"، سوف تميل الأقليات إلى القبول بأي خيار آخر، حتى لو كان التمسك بنظام يستبد بهم، ولو كان يقيم "ديناً دنيوياً" يكرس فيه إلها ملموساً ومشخصاً اسمه "السلطة". يقبلون أن يتساووا مع الجميع تحت سيف قمع "علماني"، على أن يطالهم سيف التمييز الحتمي للحكم الديني الإسلامي الذي سوف يميزهم بحسب ولادتهم. فما بالك إذا كانوا يشعرون أن السيف "العلماني" أقل قسوة عليهم من قسوته على أهل الأكثرية التي يخشى دائماً من أن تقوم للمطالبة بحكم الشرع؟ ولن يكون مفاجئاً أن تميل الأقليات إلى القبول حتى بالأجنبي، في مواجهة محاولة "حكم الشرع" الوصول إلى السلطة، كما نرى في الموقف من التدخل الإيراني والروسي.
أصبحت الأقليات، والعلويون بوجه خاص، مرهونة للنظام بقدر ما هو مرهون لها