الفيسبوك: الضابط الرقيب على صراع الخطابات

موت عبد الباسط الساروت نموذجا


حين توفي عبدالباسط الساروت في العاشر من حزيران/ يونيو الماضي، اتجه النشطاء السوريون الى الإنترنت ليخلدوا ويحتفوا بذكراه. تفاجأوا أن الفيسبوك منع صوره وحذف أي منشور يذكره. نظموا أنفسهم وقاوموا، وبعد يومين، رفع فيسبوك الحظر. تبحث عبير قبطي في القوة الرقابية التي يمتلكها فيسبوك على الحوار الوطني وفي سيطرته على حرية التعبير.

18 تشرين الأول 2019

(تمام العمر)
عبير قبطي

صحفية وكاتبة فلسطينية، مقيمة في برلين حيث تحضّر لرسالة الدكتوراة في قسم الاعلام والاتصالات في جامعة برلين الحرّة. عملت في السابق كمنسقة إعلاميّة أو ناطقة بلسان عدة مؤسسات فلسطينيّة. تكتب في عدد من وسائل الإعلام كما وأعدّت وقدّمت الموسم الثالث من بودكاست “عيب” والموسم الأول من بودكاست “المستجد”.

 في العاشر من حزيران الماضي، استلمت غيفارا نمر، السينمائية السورية المقيمة في برلين، إشعارا من فايسبوك بإزالة منشورها الذي ينعي عبدالباسط الساروت، أحد رموز الثورة السورية، الذي كان قد توفي قبل يومان. السبب الذي أورده فايسبوك كان "مخالفة المنشور لمعايير المجتمع" الخاصة بالموقع.

الساروت.. بطل أم؟

عندما بدأت الانتفاضة عام ٢٠١١، كان الساروت معروفا في حمص مسبقا، كونه حارس مرمى فريق الكرامة لكرة القدم. ما لبث أن برز بسرعة كقائد مظاهرات، حيث أن الشاب ذو ال١٩ ربيعا كان مقداما، أشعل المظاهرات بالغناء والهتاف. حازت أغانيه على كثير الإعجاب وحفزت العديد من المواطنين على الانضمام للمظاهرات.

هجم النظام بعنف، وتحولت الانتفاضة إلى حرب، فتحول الساروت إلى مقاتل وقائد ثائر. عاش حصار حمص، وبعد أن سلم الثوار حمص القديمة إلى النظام عام ٢٠١٤، انتقل إلى الشمال المحرر حيث قاتل في الصفوف الأولى حتى وفاته. في حين رآه كثيرون في المعارضة كرمز ثوري وقائد شجاع، انتقد موالو النظام علاقته بالإسلاميين المقاتلين في سوريا، قائلين بأنّه كرّر أغاني جهادية للدلالة على أنه إرهابي.

الحرب في سوريا ليست حكرا على الصفوف الأمامية لأرض المعركة، هي حرب سرديات، ورمزية الساروت كأيقونة، وقع أيضا الصراع حولها عند وفاته.

الحرب في سوريا ليست حكرا على الصفوف الأمامية لأرض المعركة، هي حرب سرديات، ورمزية الساروت كأيقونة، وقع أيضا الصراع حولها عند وفاته

كان الساروت يبلغ من العمر ٢٧ ربيعا عند وفاته في مشفى في تركيا نتيجة الجروح التي أصابته في قصف للنظام على شمال حماه. أحيت وفاته أصوات جموع غفيرة مؤيدة للثورة اتجهت لوسائل التواصل الاجتماعي لتعبّر جماعيا عن حزنها وأسفها لفقد قامة وصوت بارز في الصراع ضد نظام الأسد. إلا أن حزنهم واجه محاولات إسكات من قبل الموقع المارد: فايسبوك.

هجمة منسقة

بالنسبة لغيفارا نمر، كانت هجمة منسقة واضحة: "عندما حذف منشوري من الفيسبوك، نشرت حول الحذف وأعدت نشر صورة شاشة للمنشور الذي تم حذفه. هذا المنشور الثاني أيضا تم حذفه، ومنعت من التعليق على منشورات الآخرين لثلاث أيام. لكني ظللت أرى منشورات الآخرين. قالوا أن منشوراتهم حول الساروت حذفت أيضا، لنفس السبب: "مخالفة معايير المجتمع".

بحسب الإعلام السوري المعارض، كان هناك المئات من حالات الحذف لمنشورات أو صفحات/ مجموعات أغلقت، من ضمنها صفحتي زمان الوصل وتنسيقية السوريين في فرنسا. بحسب ما تمكنا من متابعته، معظم المنشورات حذفت يومي ٩ و١٠ حزيران، بعد يوم أو يومين من وفاة الساروت. تضمن ذلك منشورات للكاتب السوري ياسين الحاج صالح، المسرحي السوري محمد العطار، الممثل السوري فارس الحلو، الكاتبة والصحفية السورية نسرين طرابلسي، والكثيرين غيرهم.

إلا أنهم قاوموا. نمر والآخرون لم يقوموا "بطلب مراجعة" الفايسبوك للحذف فحسب، بل استمروا في النشر حول الحظر. حاول النشطاء السوريون مقاومة الحظر على مدى يومين، والضغط على فايسبوك بعدة طرق، بما في ذلك حملة نشر هائلة تحت وسم #الساروت وعريضة على موقع آفاز وقعها أكثر من ١٦ ألف شخص. في الثاني عشر من حزيران أزيل الحظر وأعيدت معظم المنشورات والصفحات.

لم تكن تلك المرة الأولى التي يساهم فيها فايسبوك بإسكات أصوات المعارضة السورية. عام ٢٠١٢ اعتذر فايسبوك بعد أن حذف بالخطأ منشورا حول انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا لإحدى مجموعات حرية التعبير. عام ٢٠١٤ أغلق فايسبوك عشرات الصفحات للمعارضة السورية، بما في ذلك صفحة مركز كفرنبل الإعلامي.

من يقف وراء التبليغات؟

كلما حظر منشور أو حساب للمعارضة السورية، يرد ذكر الجيش السوري الإلكتروني كمشتبه به محتمل: منذ بدايات ٢٠١١ ظهروا كحامي لسردية النظام السوري على الإنترنت، إنهم تجمع من هاكرز ونشطاء إلكترونيين مؤيدين للأسد يستعملون تكتيكات مهاجمة المواقع وصفحات وحسابات الفايسبوك، حملات الإنتحال الإلكتروني (الفايشينغ) لسرقة الحسابات، أو إغراق وسائل التواصل الاجتماعي برسائل مؤيدة للنظام. لم تعد صفحتهم على الفايسبوك موجودة الآن، وجهودهم باتت مخفية عن المنصات العامة، إلا أن العديدين يعتقدون أنهم كانوا وراء التبليغات الأخيرة على منشورات الساروت. بغض النظر عمن قام بالتبليغ، السؤال هو: حول كيف يستجيب فايسبوك؟

فيسبوك والسياق الفلسطيني

لهذه الرقابة أصداء كثيرة في السياق الفلسطيني. وقع الفلسطينيون أيضا ضحايا لرقابة فايسبوك، إلا أنه في الحالة الفلسطينية، يعمل "الجيش الإلكتروني الإسرائيلي" في وضح النهار.

في أيلول ٢٠١٦ اجتمع فايسبوك مع مسؤولين إسرائيليين لمناقشة التعاون حول التعامل مع "التحريض" على فايسبوك. بعد بضعة شهور أعلن وزير العدل الإسرائيلي آيليت شاكد أن فايسبوك تجاوب بإيجابية مع ٩٥ بالمئة من الطلبات التي قدمتها إسرائيل لإزالة محتوى فلسطيني.

يطور فريق من خبراء فايسبوك "معايير المجتمع"، إلا أن عملهم يتأثر بسياقات الدول التي ينتشر فيها فايسبوك

المبادرة الفلسطينية "صدى سوشال" التي توثق انتهاكات منصات التواصل الاجتماعي بحق حرية التعبير الفلسطينية سجلت ٢٠٠ حالة إغلاق حسابات أو حذف صفحات أو حظر منشورات على فايسبوك خلال عام ٢٠١٧، و٣٧٠ حالة خلال ٢٠١٨.


وفق نديم ناشف، مدير "حملة"، المركز العربي لتطوير التواصل الاجتماعي: "هناك تعاون بين جهود منسقة لهيئات الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك وحدة الأمن الرقمي التي يديرها مكتب المدعي العام، وهيئات شبه حكومية كمجموعات الطلبة و تطبيقات الهواتف المحمولة المنظمة للتبليغ على المحتوى الفلسطيني، وبين تجاوب فيسبوك، الذي يقف وراء هذه الرقابة الهائلة على الأصوات الفلسطينية".

سواء في الحالة الفلسطينية أو السورية، من الواضح بالنسبة للناشف "أنها حرب تتصارع على المضمون، وموازين القوى الموجودة في الواقع تنعكس على هذه الحرب. الطرف الأكثر تنظيما، والذي يملك الموارد البشرية والمالية هو الرابح".

بالفعل، الطريقة التي يعمل فيها فايسبوك من حيث إدارة المضمون تمهد الطريق لموازين القوى هذه لتنتشر في الفضاء الإفتراضي أيضا.

تقييم وفق "معايير المجتمع"

يقيّم فايسبوك المحتوى وفق "معايير المجتمع" الخاصة به، التي نشرت العام الماضي، بعد حملة ضغط وانتقادات مستمرة حول ضبابية آلية اتخاذه للقرارات المتعلقة بحذف المضمون ولعب دور الشرطي الرقيب على التعبير.

تقود هذه الوثيقة المؤلفة من ٢٧ صفحة عن المعايير، عمل فرق فايسبوك المشرفة على تقييم وحوكمة المضمون. تعمل هذه الفرق فيما يسمى ب"مراكز الحذف"، التي يتم عادة توظيفها عن طريق متعاقدين ثانويين لفايسبوك وتقع في مختلف أنحاء العالم لتتجاوب مع فروقات التوقيت، اللغات والمناطق المختلفة. موظفي هذه المراكز مسؤولون عن تقييم مضمون المنشورات على فايسبوك التي يتم التبليغ عنها من قبل مستخدمين آخرين، و تقرير ما إذا كان سيتم حذفها أم لا.

يطور فريق من خبراء فايسبوك معايير المجتمع، إلا أن عملهم يتأثر طبعا بسياقات الدول التي ينتشر فيها فايسبوك.

محددات حكومية

ليس سرا أن فايسبوك يخضع للمحددات الحكومية، لأن وجوده في الكثير من الدول يعتمد على سماح السلطات بذلك، ويتم تحت رقابتها. يعني ذلك أن لدى الحكومات فرصة (وإن لم تكن جميع الحكومات تستغلها) لتشكيل ضغط قانوني وسياسي على صياغة معايير فايسبوك الاجتماعية. لديها أيضا القوة لممارسة الرقابة على بعض الحسابات أو المنشورات أو الصفحات عن طريق تقديم طلبات مباشرة إلى فايسبوك، كما هو واضح في الحالة الإسرائيلية.

تحدثنا من موقع "حكاية ما انحكت" مع أحد الموظفين السابقين في أحد "مراكز الحذف" الموجودة في برلين، وقد طلب الإبقاء على سرية هويته.

ليس سرا أن فايسبوك يخضع للمحددات الحكومية، لأن وجوده في الكثير من الدول يعتمد على سماح السلطات بذلك، ويتم تحت رقابتها

قال أن الساروت كان على قائمة الإرهابيين لدى فايسبوك، ولذلك تمت إزالة كل المنشورات "التي تمتدحه". كان مشرف التقييم هذا أحد مئات الموظفين لدى الشركات المتعاقدة مع فايسبوك المسؤولين عن التدقيق في المحتوى وحذفه إن كان مخالفا لمعايير المجتمع الخاصة بفايسبوك.

في ألمانيا، يوجد مركزان للحذف، أحدهما في برلين، افتتح عام ٢٠١٥ ويدار من قبل أرفاتArvato، أحد فروع بيرتلزمان Bertelsmann المتخصصة بخدمة الزبائن.

أما المركز الثاني فيوجد في إيسين، افتتح عام ٢٠١٨ ويدار من قبل شركة Competence Call Centre (مركز "كفاءة" لخدمة الزبائن الهاتفية)، وهي شركة أوروبية متخصصة بإدارة مراكز خدمة الزبائن في مختلف أنحاء أوروبا. توظف كلتا الشركتان ما يربو على ألف موظف. تعمل مراكز مشابهة في مناطق أخرى من العالم وتوظف حوالي ١٥ ألف موظف، وفق فايسبوك.

يخضع كل الموظفين بعد تعيينهم لدورة تدريبية مكثفة، يتوجب عليهم بعدها أن "يعرفوا الإرشادات عن ظهر قلب" بحسب قول الموظف السابق الذي يتابع: "ما ينشره فايسبوك على منصته من "معايير المجتمع" هي أصغر بكثير من الإرشادات التي نعمل وفقها. ما ينشر بشكل مفتوح للجميع هو عام جدا، نحن لدينا وثائق تفصيلية بأسماء وقوائم منظمات وأرقام، أي محتوى مرتبط بهم يجب حظره".

"دكتاتورية" فيسبوك

ما يشير إليه هو الكتيب الداخلي المؤلف من ١٤٠٠ صفحة الذي تم تسريبه للنيويورك تايمز عام ٢٠١٨. أوضحت الصحيفة أن هذه الملفات تكشف "عديدا من الفجوات، التحيز والأخطاء الصريحة"، وكيف أن فايسبوك لديه القدرة على "إسكات أحد طرفي نقاش وطني ما" من خلال إشرافه على المضمون.

يعتمد موظفو مراكز الحذف على هذه الإرشادات في قراراتهم حول المحتوى. سيقومون بحذف أي منشور يدعم أي شخص أو مجموعة موجودة على القائمة، إن رأوه.

تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى أرض معركة للسرديات المتصارعة

بحسب مشرف التقييم السابق في مركز الحذف "نفحص المحتوى الذي تم الإبلاغ عنه. لكي نقرر حذف منشور ما أو إبقائه، يجب أن يتم التبليغ عنه أولا، مرة واحدة أو ألف مرة، لا يهم حقيقة. أي منشور يبلّغ عنه يأتي إلينا لنقيّمه".

"نستطيع أن نرى من قام بالتبليغ، لكننا لا ننظر إلى المبلّغ، ما إذا كان مشوش حوار على وسائل التواصل الاجتماعي، أو عضو في جيش الكتروني، أو حساب يدار من قبل حكومات وما إلى ذلك… لا نفعل ذلك، ننظر فقط إلى المحتوى الذي تم الإبلاغ عنه".

من الممكن أن تتغير القوانين المجتمعية بين ليلة وضحاها "أذكر أنه في أحد الأيام، وصلنا إلى المركز واستلمنا تعميما من رؤسائنا أن خيرت الشاطر من جماعة الإخوان المسلمين في مصر أصبح الآن على قائمة الإرهابيين، وبالتالي ابتداء من تلك اللحظة، أي محتوى يمتدحه، تجب إزالته".

يظهر ذلك مدى تسييس صياغة معايير المجتمع، وإن بدت التغييرات اعتباطية أحيانا. بالإضافة لذلك، لأي درجة يفهم مشرفي المحتوى فعلا سياق وحيثيات كل بلد أو موقف، هو أيضا موقع تساؤل. الوقت المتاح لهم للتقرير بشأن منشور ما ضيق، وهم يعتمدون على تدريبهم والكتيب كمرجع.

نجاح حملة السوريين ضد فيسبوك

في حالة الساروت، تقدم النشطاء "بطلب مراجعة" للمحتوى المحذوف، بما فيهم نمر. لكن يصعب الاعتقاد بأن هذا هو التصرف الذي دفع فايسبوك لإعادة النظر. وفق مشرف التقييم السابق "٩٩٪ من الحالات التي يطلب فيها مستخدمون المراجعة، لا يتغير القرار. فقط حين يكون هناك ضغط أكبر على فايسبوك، حينها قد يعيد النظر ويغير القرار".

هؤلاء النشطاء تحركوا ونظموا حملة داعية فايسبوك لرفع الحظر، أعادوا نشر محتوى مع وسم #الساروت ووقعوا عريضة. ليس بإمكاننا الجزم بما حدث تماما داخل أروقة فايسبوك بخصوص الحظر على الساروت، إلا أنه من الواضح أن الضغط كان مثمرا.

كتب الممثل فارس الحلو على صفحته على فايسبوك: "اعتراف إدارة الفايسبوك ببراءة الساروت من التطرف، كان ثمرة جهد حثيث بذله مخلصون سوريون وعرب ردّاً على تبليغات كثيفة وممنهجة هدفها إعاقة احتفاء السوريين المنتفضين برمزية بطلهم الشعبي الساروت. وقد تجلى هذا الاعتراف بفك الحظر عن المنشورات المتعلقة بالأمر، وإعادة ما حذف منها".

"رأيت الامر كمعركة حول من سيكتب التاريخ، هي معركة شبيهة بمعاركنا على الأرض. الثورة انتهت والصراع الآن هو على روايتها والسردية حولها. بالنسبة للنظام وحلفائه الروس، تصنيف الساروت كإرهابي يخدم روايتهم. لكن بالنسبة لنا، فإنه يمثل رجلا آمن بالحرية وبالثورة وضحى بحياته من أجلها"،  تقول غيفارا نمر.

رغم أنه يمكن اعتبار هذه الحادثة كنصر للمعارضة، إلا أنها تبرز من جهة، القدرة الإشكالية لفايسبوك لممارسة دور الشرطي الرقيب على حرية التعبير، ومن جهة أخرى، كيف تحولت منصات التواصل الاجتماعي هذه إلى أرض معركة للسرديات المتصارعة. أولئك الذين يملكون قوة أكبر، عادة ما يملكون اليد العليا في النهاية. وفيما يتعلق بفايسبوك، لا يبدو أن اليد العليا حليفة للمقهورين.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد