في الساحل... أولاد "الشهداء" و"اﻹرهابيين" في مدرسة واحدة


"أنتو أخدتو محلاتنا" و"أنتو غريبين" و"بستاهلو اللي صار فيكن" و"أبوك إرهابي"... هي عبارات قالها تلميذ سوري من أهل الساحل لزميله النازح في المرحلة الابتدائية، الأمر الذي يخفي كما هائلا من المكبوت الذي يجد المعلمون أنفسهم بمواجهته؟ فكيف يتعاملون معه؟ وما حال النظام التعليمي في ظل الحرب؟ وأين وكيف يتعلم النازحون الذين انقطعوا لسنوات عن دراستهم؟

09 تشرين الثاني 2019

حازم مصطفى (اسم مستعار)

كاتب وصحفي سوري مقيم في اللاذقية

(اللاذقية)، لم يتوقع أحمد، الطفل في الصف السادس الابتدائي أن تنتهي مشاجرته مع زميله في الصف على باب مدرسته في حي الرمل الشمالي (شمال اللاذقية) إلى معركة تستخدم فيها السكاكين بين أنصار الزميلين. لم تكن هذه أول "معركة" يخوضها الطرفان منذ بدء العام الدراسي، إلا أنها هذه المرة اكتست طابعاً مختلفاً.

قدم أحمد إلى المدرسة بعد رحلة تهجير إجبارية لعائلته من ريف حلب (عندان)، حين بدأت المعارك بين أطراف المعارضة المسلحة وقوات الحكومة منتصف العام 2015، وحين وصولهم إلى اللاذقية اتجهوا أولاً إلى منطقة الرمل الفلسطيني حيث يتواجد بعض معارفهم إلا أن الضغط السكاني وقلة وجود بيوت للآجار وارتفاع سعرها في حال تواجدها، دفعتهم باتجاه منطقة الرمل الشمالي حيث غالبية السكان من الطائفة العلوية.

بدأت المشكلة حسب أحمد الذي التقته حكاية ما انحكت، حين امتنع عن إعارة زميله دفتر الرياضيات، فما كان منه إلا أن توعده بالضرب بعد انتهاء الدوام. ومع بدء المعركة بدأ أنصار الفريقين بتبادل اللكمات والضربات. في النهاية وقع أحد المشاركين نتيجة ضربة سكين صغيرة ونزف دماً، وبدأ الصراخ ليصل إلى مديرة المدرسة التي تدخلت على الفور، وأوقفت النزاع وطلبت مساعدة طبية من المستوصف القريب.

قد تبدو هذه المشكلة عادية وتحدث دائماً بين أولاد المدارس وبأعمار مختلفة، إلا أن مفردات السباب والشتائم التي تخللتها توضح ما هو مختبئ في أعماق بعض أجيال الحرب السورية، فالطالب الذي بدأ المشكلة، قال لزميله: "أنتو أخدتو محلاتنا" و"أنتو غريبين" و"بستاهلو اللي صار فيكن" و"أبوك إرهابي"... هذه العبارات تكررت لمرات متعددة في عدد من النزاعات وفي شرائح عمرية مختلفة. ومن حسن حظ أحمد أنّ أبوه موجود في المدينة وتمكن بالتعاون مع والد الطفل الثاني من تجاوز اﻹشكال وعدم تحويله إلى مشكلة أمنية.

حياة جديدة وسط بيئات مختلفة كلياً

توضح حالة الطالب المدرسي أحمد، وهي ليست الوحيدة، رأس جبل المشاكل المختبئ في بعض علاقات النازحين والمجتمع المحلي، ورغم أنّ العرف العام، ومنه التقليد الاجتماعي وحتى السياسي الحكومي والشعبي، تعامل مع المهجّرين ضمن منظومة القبول والتضامن (للمجتمع العام)، إلا أن هذا لا يلغي وجود احتكاكات كثيرة ظهرت في عالم الأطفال، وبين الذكور أكثر من اﻹناث، بعلنية ووضوح، بعيداً عن سياسة "التقية" التي تصرّف بها المهجّرون كما المجتمع المحلي.

(تعامل اﻷطفال مع بعضهم، وفقاً لمديرة مدرسة في منطقة ساحة الحمّام (اللاذقية)، طلبت عدم ذكر اسمها، اختزن جزءاً من مشاهد الحرب السورية والصراع الذي حضر بسبب مشاركة آباء الطرفين في النزاع المسلح في البلاد/ صورة لأحد المدارس في منطقة الرمل الجنوبي في مدينة اللاذقية. تصوير حازم مصطفى في ٢٢ اكتوبر ٢٠١٩/ خاص حكاية ما انحكت)

تفسّر اﻷخصائية في علم الاجتماع والموجهة التربوية، منى (مستعار/ 42 عاماً) أن "اختلاف البيئات الاجتماعية في سورية واضح، سواء بين الريف والمدينة، أو حتى بين المدن نفسها. وفي ظل اﻷوضاع السابقة للأزمة، فإن معرفة السوريين ببعض كانت محدودة وأكثرها في المجال الاقتصادي لا الاجتماعي، وفي عالم الأطفال كانت معدومة خارج معسكرات ونشاطات منظمة طلائع البعث. ما حدث من تهجير قسري للسوريين إلى مناطق مختلفة، ومنها منطقة الساحل التي تختلف في العادات والتقاليد والموقف السياسي مما جرى من أحداث، إضافة إلى كونها خزّاناً بشرياً للنظام السياسي، جعل الموقف من المهجرين وأطفالهم معقداً، ويحتمل أكثر من تحليل على أكثر من مستوى".

تعامل اﻷطفال مع بعضهم، وفقاً لمديرة مدرسة في منطقة ساحة الحمّام (اللاذقية)، طلبت عدم ذكر اسمها، اختزن جزءاً من مشاهد الحرب السورية والصراع الذي حضر بسبب مشاركة آباء الطرفين في النزاع المسلح في البلاد.

"هل نتبنى الرواية الرسمية التي تصف اﻷطراف غير الحكومية باﻹرهاب أم الرواية المعاكسة التي قدمتها المعارضة بأشكالها أن ما يجري ثورة؟".. كان هذا السؤال، أحد أقسى اﻷسئلة التي طرحت خلال الحرب وواجهت الكادر التعليمي، وما تزال تشكل عامل تنافر وخلاف

تضيف المديرة العتيقة وخريجة علم الاجتماع من جامعة دمشق (52 عاماً): "حقيقةً، إن العلاقات كانت تنقسم تبعاً للاصطفاف العسكري أو السياسي، هي واقعة موجودة ومؤثرة على حياة التلاميذ مع بعضهم بعضاً، خاصة أن جزءاً من آباء اﻷولاد يشارك في الحرب، حين يسقط أحد اﻷباء ضحية النزاع، فإن أية علاقة كانت بين تلميذين من جغرافيتين مختلفتين كانت تنتهي، وأحياناً يحدث نزاع وتضارب بالأيدي، كل طرف يتوجه للآخر باللوم على ما جرى لوالده".

النساء في المناهج التعليمية ما بين النمطية وخطوة نحو التغيير

05 آب 2019
ما هي صورة النساء في المناهج التعليمية السورية؟ هل انعكست "الثورة" في تلك المناهج، لجهة إنصاف المرأة ودورها أم جاءت مجرد تكريس للقديم والسائد بأنماط أخرى؟ وهل تختلف صورة المرأة...

وتتابع المديرة قائلة: "في مراحل النزاع اﻷولى، وبغياب خبرات لدينا للتعامل مع هذه القضايا، لم نستطع التدخل بشكل احترافي ولا علمي، كنا نقوم بإبعاد اﻷولاد عن إمكانية الاجتماع، فننقل أحدهما إلى دوام ثان، وأحياناً نجمع الولدين ونتحدث عن الوضع العام وظروف الحرب. المشكلة الأكبر: كانت هل نتبنى الرواية الرسمية التي تصف اﻷطراف غير الحكومية باﻹرهاب أم الرواية المعاكسة التي قدمتها المعارضة بأشكالها أن ما يجري ثورة؟".

كان هذا السؤال، أحد أقسى اﻷسئلة التي طرحت في تلك السنوات، وما تزال تشكل عامل تنافر وخلاف، تضيف المديرة: "هناك أيضاً مشكلة مضافة، هي الرواية المنقولة في وسط العائلة، بحضور اﻷب هناك ميل إلى تبني الرواية الرسمية، مع التمني بتوقف الحرب على مبدأ طرح كثيراً هو "الله يطفيها بنوره"، وهو أمر فرضته الجغرافيا المؤيدة إلى حد كبير، كان هناك من اﻷهالي المهجّرين والمقيمين يتمنى علينا بشكل صريح ألا يجلس طفلهم مع طفل من خارج المنطقة، إلا أننا لم نكن نوافق على اﻷمر، خاصة بوجود نسبة كبيرة من الأطفال النازحين في كل المدارس، إضافة إلى أن جزءاً من الوافدين إلى المنطقة غيّر رأيه السياسي مع الفشل الذريع للمعارضة المسلحة في إدارة المناطق التي سيطر عليها وارتكاب كثير من الأفعال غير الإنسانية ولا القانونية".

في حين أن غياب اﻷب يوجّه المشكلة إلى اعتباره "إرهابياً" ضدّ "الدولة"، وهذه تشمل النظام السياسي، تضيف المديرة: "قد لا يكون غياب اﻷب بسبب انضمامه إلى جماعة مسلحة، فقد يكون عالقاً في مخيم، أو خارج البلاد، أو ﻷي سبب آخر، إلا أن الصورة العامة المتناقلة هي بوضوح اعتبار كل أب غائب مع الجماعات المسلحة".

مدارس لا تستوعب هذا العدد

استوعبت مدارس اللاذقية والساحل عموماً، حتى في أقاصي الريف، أولاد المهجرين بنسبة كبيرة، ما شكّل ضغطاً حقيقياً على الكادر التدريسي والمدارس نفسها.

في سنوات 2013- 2018، كان من الترف بالنسبة لكل أطراف العملية التعليمية أن يحظى تلميذان اثنان بمقعد واحد، ومن النادر وجود أقل من 50-60 تلميذ مع مدرس واحد لساعة تعليمية (40 دقيقة) في صف واحد، حيث يقضي المعلم نصفها في محاولة ضبط الصف في ظل قرار رسمي بمنع الضرب بأي شكل كان في المدارس.

(استوعبت مدارس اللاذقية والساحل عموماً، حتى في أقاصي الريف، أولاد المهجرين بنسبة كبيرة، ما شكّل ضغطاً حقيقياً على الكادر التدريسي والمدارس نفسها/ مدرسة في منطقة الرمل الجنوبي في مدينة اللاذقية. تصوير حازم مصطفى في ٢٢ اكتوبر ٢٠١٩/ خاص حكاية ما انحكت)

في شهر أيار 2019 قمنا بزيارة مدرسة تعليم أساسي (من الصف اﻷول إلى التاسع) في منطقة الرمل الفلسطيني، كان عدد التلاميذ في المقعد الواحد بين 4-6 تلاميذ، وبدوامين، بإجمالي عدد تلاميذ يصل في الدوام الواحد إلى 1500 تلميذ، في حين أن النسبة الطبيعية ﻷي صف لا يجب أن تتجاوز 20 طالب، ويختلف استيعاب المدرسة حسب عدد الشُّعب فيها، وبالمتوسط فإن العدد يفترض ألا يتجاوز 400 طالب.

تشير إحصائيات منظمة اليونيسيف المنفذة بالتعاون مع وزارة التربية السورية الحكومية أن جميع مدارس اللاذقية، قد استقبلت أو قبلت أطفالاً نازحين بمعدل يصل إلى 40% من إجمالي عدد الطلاب في المحافظة بالنسبة لمرحلة التعليم اﻷساسي، وبنسبة 20% لطلاب المرحلة الثانوية، وبنسبة إناث أعلى من الذكور بمقدار الضعفين.

بين عامي 2012-2015 مثلاً، استقبلت 6 مدارس ضمن عينة مختارة لمسح عشوائي 6635 تلميذاً منهم 4530 إناث، أي بمعدل ألف طالب لكل مدرسة، مع الأخذ بالاعتبار أنّ الدفعات اﻷولى من الأطفال لحقت مواقع سكن أهليهم، وبأخذ وجود موجات هجرة بعد التدخل الروسي 2015، فإن اﻷعداد قد تزايدت. ففي عام 2018 تحققت اﻷمم المتحدة من حصول 142 هجوماً على مرافق التعليم، وهو الرقم اﻷعلى على اﻹطلاق منذ بدء الحرب. ومدارس المحافظة (ومثلها مدارس محافظة طرطوس المجاورة) لم تتعرض للتخريب، في حين أن جزءاً منها استخدم في مرحلة من النزاع كملاجئ مؤقتة، وقد بلغ عددها بين 2011-2015 عشرة مدارس تسبّبت في خروجها من الخدمة، وفقاً لحديث مسؤول في التعليم التقني في مديرية تربية اللاذقية، ولكن غالبيتها استعادت دورها بعد 2018.

أدّى هذا العدد الكبير إلى انتشار مشاكل كثيرة مختلفة اﻷنواع في كل مدارس المرحلة الأولى التي تمتد حتى الصف التاسع. تقول المدرسة "نجوى محمد" (مستعار/ 36 عاماً، مدرّسة لغة إنكليزية) إن السبب اﻷساسي "يتعلق بالعدد الكبير للتلاميذ وضيق الحصة التدريسية، اﻷمر الذي لا يسمح بتنفيذ المنهاج وفق اﻷصول المعتمدة، فالصف النموذجي يتسع بحد أقصى لعشرين تلميذاً أو حتى أقل، لكن الأرقام مضاعفة. بالتالي، فإن الاهتمام الذي كان يجب أن يكون من نصيب عشرين طفلاً يتوزع على خمسين، أدى هذا إلى ضعف فعلي للعملية التعليمية وإلى تجاوزات في تقييم سوية الطلاب حتى، فمنع الرسوب (هو توجيه رسمي  أخذ به منذ سنوات) في مرحلة السنوات اﻷولى (حتى السادس) أنتج جيلاً أمياً إلى حد كبير في كثير من المدارس ذات الازدحام العالي العدد".

اﻹناث أكثر من الذكور بنسبة الضعف

غالبية الملتحقين بالتعليم الأساسي كانت من الإناث، وبنسبة الضعف فأكثر، وفقاً لدراسات منظمة اليونيسيف السابقة، وتزيد النسبة كلما كبر الولد وأصبح في عمر قادر فيه على العمل في أي مهنة.

يقول السيد محمد، والد الطالب أحمد، والذي يعمل في المنطقة الصناعية لدى صاحب محل إصلاح سيارات، إن ابنه سوف يلتحق به بعد انتهاء الصف التاسع (وهو الصف الذي يسمح فيه رسمياً بالانقطاع عن المدرسة) فالبيت وتأمين مستلزمات العيش أهم من العلم والتعليم، مضيفاً: "أحمد يحب الدرس ويمكنه أن يلتحق بمدرسة تعليم مسائي" الذي وفرته منظمة اليونسيف.

(غالبية الملتحقين بالتعليم الأساسي كانت من الإناث، وبنسبة الضعف فأكثر، وفقاً لدراسات منظمة اليونيسيف السابقة، وتزيد النسبة كلما كبر الولد وأصبح في عمر قادر فيه على العمل في أي مهنة/ لوحة للفنانة سلافة حجازي، وهي تنشر بموجب الاستخدم العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)

تؤكد اﻷخصائية، منى تنزكلي (مستعار/ 42 عاماً)، والتي التقيناها أن "علاقات الإناث مع المجتمع الجديد كانت أقل حدّة وأكثر تقبلاً من الذكور، رغم احتفاظ غالبية النساء بتقاليد بيئاتهن، ومنها الحجاب مثلاً، وحتى العباية السوداء الشهيرة لم تتعرض في المجتمع الجديد للتغيير. بالطبع جزء من الأسباب، رغبة النظام السياسي بتقديم الوضع في هذه المناطق كاستمرارية لما كان قبل 2011 حيث اﻷمن واﻷمان والوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي المتماسك كما يؤكد دائماً، وهو ما التزم به أنصاره في الساحل بوضوح".

أما على مستوى اﻷطفال اﻹناث "فقد شهدت المدينة (اللاذقية) حقيقة علاقات سوية وعلاقات مساعدة ودعم اﻷطفال لبعضهم بعضاً"، كما تقول منى.

 سيادة النظام الأبوي

من جانب ثان، تشير الاختصاصية منى "إن علاقات الذكورة في المجتمع أكثر حدةً في ظل سيادة النظام اﻷبوي في المجتمع، وظهور الذكر دائماً كوريث ثم كحامي لدور اﻷب الغائب، إضافة طبعاً لعلاقة الذكور اﻷقوى بأوضاع المجتمعات التي قدموا منها كأفراد متأثرين بالجو السياسي والتغييرات التي طالت ثوابت ورمزيات تلك المجتمعات (لم تعد الأيقونة السياسية للرئيس مثلاً تحتمل تلك القداسة، خلاف ما هي عليه في مجتمع الساحل)، وهو أمر تسبّب أحياناً، وفي عدة قصص، بمشاكل للأولاد الذكور دون أن تتطور تلك الحالات إلى خارج جدران المدرسة".

وهنا كانت حالة التفهم من قبل غالبية المدرسين سائدة، إذ عمدوا دائماً إلى "لفلفة" تلك القصص واعتبارها "طيش أولاد" وفقاً للمدرس محمد، من إحدى مدارس "الرمل الفلسطيني" للتعليم اﻷساسي.

منهاج حكومي وآخر موازي

مستوى الطلاب المهجّرين في كثير من الحالات كما تشير المدرّسة وعد حمّاد (مستعار/ 42 عاماً)، والتي سبق لها وأن درّست في مركز إيواء كلية الرياضة (في اللاذقية الكورنيش الجنوبي) الذي ضم مهجّرين من بلدة حارم (ريف إدلب) "كان ضعيفاً قياساً بزملائهم في نفس العمر".

تضيف: "كان لديّ في الصف تلاميذ بعمر 12 و13 لا يعرفون القراءة والكتابة، أحد هؤلاء كان في الصف الثالث اﻷساسي بعمر 12 عاماً، ولا يمكن وضعه مع تلاميذ الصف الثالث (8سنوات)، بصراحة شكّل اﻷمر تحدياً كبيراً للنظام التعليمي هنا، وتحدياً مضافاً للمعلمين الذين تردّدوا كثيراً في قبول تدريس طلاب ليس لديهم أي معرفة، أمية بمعنى من المعاني".

اليافعون ممن انقطعوا عن الدراسة منذ سنوات الحرب اﻷولى، وهم نسبة ليست بالقليلة، خضعوا لمنهاج مختلف، هو المنهاج B الذي أقرته وزارة التربية بالتعاون مع منظمة اليونسيف، وهو منهاج يحاول تقليل الفجوة التعليمية بين نظراء العمر الواحد وضغط الفاقد التعليمي إلى حدود إمكانية عودة الطلاب إلى المنهاج النظامي بعد وقت من انتهاء التعليم بالمنهاج B.

حسب وزارة التربية الرسمية فإن المنهاج B يستهدف اﻷطفال بين عمر 8-15 سنة ممن لم يلتحقوا بالمدارس أبداً (أميين) أو الذين عادوا للمدراس بعد انقطاع عام على اﻷقل، بمن فيهم من خضع لدورات تأهيلية في مراكز وزارة الشؤون الاجتماعية التي تحيلهم إلى وزارة التربية، ويقبل هؤلاء في شعب خاصة ملحقة بمدارس التعليم اﻷساسي، حيث يجتازون الصفوف من اﻷول حتى الثامن وفق أربعة مستويات في أربع سنوات (أي كل عامين في عام واحد).

يدرس كل طالب في فصل دراسي واحد منهاجاً يحتوي على المعلومات الأساسية لسنة كاملة ويخضع الطالب إلى امتحان في نهاية كل فصل للانتقال من صف إلى صف في نفس المستوى، علماً أن المنهاج يطبق فقط في المدارس الرسمية، ومعلموه من ملاك المدارس نفسها، ويخضعون لدورات تدريبية تقدّم طرقاً "واجب إتباعها لتنفيذ المنهاج وتحقيق الأهداف المرجوة منه، والتكيف مع الظروف المحيطة بالمتعلم، وإتباع الطرق التعليمية التي تتناسب مع تلك الظروف" وفق موقع الوزارة.

بدأ تطبيق المنهاج B مع بداية العامين 2015-2016 وطبّق بالتدريج في أكثر من 200 مدرسة ضمن المناطق التابعة للحكومة الرسمية.

ضعف المستوى واختبارات شكلية

في حالات عديدة وصل هؤلاء التلاميذ إلى المنطقة بعد رحلة تهجير بلغت عدة سنوات. تقول ريما (24 عاماً، قدّمت هذا العام لشهادة الثانوية ونجحت فيها) أنها قضت برفقة عائلتها أربع سنوات مهجّرين بعد خروجهم من الرقة، "لم ألتزم بمدرسة ولم يمكنني ذلك ﻷن ظروفنا كانت فوق كل احتمال".

تتابع الصبية التي حصلت على شهادة التعليم اﻷساسي من حماة حيث قضت سنتين في رحلة تهجيرها: "من حسن حظي أن أبي أصرّ على إكمال تعليمي رغم كل الظروف، وإلا لكنت في بيت زوج أربي أطفالاً".

وصل كثير من التلاميذ إلى المنطقة دون وثائق رسمية، ومنها شهادة الميلاد التي كان سهلاً تأمين بديل عنها في ظل أتمتة قيود النفوس المدنية، إلا أن غياب البطاقة المدرسية المعتمدة في سجل حياة التلميذ أو وثيقة الحضور والدوام أو غيرها من الوثائق، تسبّب في خضوع بعض التلاميذ إلى اختبارات قبول في المدارس التي حاولوا الالتحاق بها، بعضهم تمّ قبوله مباشرة فيها، ولعب العمر دوراً في تأكيد أو نفي القبول.

يتم تحديد المستوى التعليمي لغير المتسربين وفقاً لحديث المدرّس وضاح (اسم مستعار لمدرّس لغة عربية في ثانوية الصليبة)، بناء على اختبارات في المواد الرئيسية (اللغتين العربية واﻹنكليزية، الرياضيات وبعض اﻷسئلة العامة). وكانت وزارة التربية قد وجّهت شفوياً بعدم التشدد في الاختبارات وفقاً للمدرّس وضاح، "السبب هو الوضع العام الذي أدى إلى محاولة إبقاء النظام التعليمي على قدميه كجزء من محاولة المحافظة على مؤسسات الدولة ولو شكلياً".

يتلقى الجميع نفس المنهاج التعليمي الرسمي، الذي يتضمن مادة الاجتماعيات حتى الصف السادس، ومن ثم تضاف مادة القومية في الصف السابع حتى آخر صف في الثانوي، ومثلها التربية الدينية التي تبدأ في الصف اﻷول ابتدائي حتى الثانوي أيضاً، وتشكل هاتين المادتين تحديداً استمراراً لرؤى النظام الرسمي في قضايا التدين والسياسة دون فتح المجال لحضور أي مكون آخر، فيها مثل المكون الكردي أو المكون الديني غير السني الرسمي.

إلى أين؟

لا يتوقع أن يتغير المشهد التعليمي في الساحل، وسوريا عموماً، في السنوات القادمة في ظل الواقع الراهن للمدارس والتدريس والمعلمين معاً. تعقب السيدة "منى" مضيفةً: "للأسف، لا تكفي جميع الجهود المبذولة في تغيير الواقع الراهن، هناك من الصعوبات والمشاكل ما يحتاج سنوات من العمل الجماعي الجاد، وعدا عن عشرات المشاكل النفسية المرتبطة بمجريات الحرب التي تتطلب إرشاداً نفسياً واجتماعياً كبيراً غير متوافر كثيراً، فإننا بحاجة إلى إعادة ترتيب دواخلنا كي نرمم الجروح العميقة في علاقتنا كسوريين ببعض، ولا يبدو هذا قريباً في ظل سيادة منطق الانتصار والإلغاء والتخوين".

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد