(هذا المقال جزء من ملف بالشراكة بين حكاية ما انحكت وأوبن ديموكراسي، حول السينما السورية الصاعدة منذ عام ٢٠١١: السياسة، التحديات الإنتاجية، الرقابات، الجمهور، وإلى أين قد تتجه الآن؟)
ينسق هذا المشروع مايا أبيض وإنريكو دي أنجيليس ووليد الحوري، بدعم من مؤسسة فريدريش إيبرت
سيطرت مؤسسة السينما السورية على عملية تمويل وإنتاج الأفلام السورية وتوزيعها منذ تأسيسها عام 1963 وحتى كسر سيطرتها مع اندلاع الحراك في سوريا عام 2011. هذه السيطرة كانت عاملاً في حجب المشاهد السوري عن السينما السورية، باستثناء فئة قليلة من المثقفين والمهتمين والفنانين، إذ لم يتم عرض معظم هذه الأفلام في دور السينما بل تركت معظمها للمشاركة في مهرجانات عربية وغربية تحضرها النخب الثقافية، على حساب عرضه في دور السينما السورية. إلا أن هذه الجدلية يتم نقضها في حالات خاصة تلعب فيها عوامل عدة.
بدأت تلك السيطرة مع قدوم حزب البعث لحكم سوريا عام 1963، فاحتكرت الدولة السورية صناعة السينما وإنتاج الأفلام وتوزيعها من خلال المؤسسة العامة للسينما التابعة لوزارة الثقافة. كما حُصر استيراد الأفلام الأجنبية وتوزيعها وتصدير الأفلام السورية إلى المشاهد الخارجي وفقاً للمرسوم 2543، بهذه المؤسسة.
ولكن وبرغم السيطرة شبه الكاملة التي فرضتها المؤسسة على المخرجين من حجم التمويل إلى المادة المنتجة، إلا أنها أعطت فرصة لعدد من المخرجين السوريين والعرب للتقدم بطلبات لتمويل مشاريعهم السينمائية، ما جعل البعض يعتبر الفترة بين أواخر الستينيات والثمانينيات الحقبة الذهبية لإنتاج السينما السورية.
السينما في ظل حافظ الأسد
تولي حافظ الأسد للحكم في سوريا عام 1970 أدى إلى تغيير آلية عمل المؤسسة العامة للسينما بشكل أكبر، وفرض على المخرجين قيوداً أكثر لتقديم أفلام متوافقة مع إيديولوجية البعث الرسمية، ما دفع بعض المخرجين للالتفاف على تلك السياسة من خلال تقديم أفلام زاخرة في الاستعارات الرمزية والتجريد الزمني لمعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية لسوريا، كفيلم "نجوم النهار" لمخرجه أسامة محمد و"الترحال" لمخرجه ريمون بطرس، و"أحلام المدينة" لمحمد ملص وغيرها الكثير من الأفلام التي شاركت في مهرجانات عالمية، مع هزلية منعها أو عدم عرضها محلياً للجمهور السوري، كما حصل مع فيلم نجوم النهار الذي أنتج بتمويل من مؤسسة السينما السورية ومثّل سوريا في عدد من المهرجانات، ولكن تم منعه محلياً بقرار من حافظ الأسد، كما يقول البعض.
كان للمؤسسة قرار محتوى الفيلم واسم المخرج، مع فرض رقابتها على الفيلم خلال جميع مراحل الإنتاج، وحصر التمويل بمخرجين محددين، معظمهم ممن تعلموا الإخراج في الخارج، كونه لا يوجد حتى اليوم مدرسة للإخراج في سوريا. كل ذلك جعل المؤسسة العامة للسينما المتحكم النهائي في الخطاب السينمائي في سوريا وبجودته التي تخضع لحجم التمويل المقدم. ساعد في ذلك عدم اهتمام جهات خارجية أو خاصة بتمويل الأفلام السورية، مما أدى لتراجع مستوى وجودة هذه الأفلام.
في لقاء مع المخرج السوري عمر أميرالاي عام 2008، ألقى أميرالاي اللّوم على تدهور صناعة السينما السورية أولاً على المخرجين أنفسهم، للاستكانة لشروط مؤسسة السينما للحصول على تمويل للأفلام، وثانياً، على المؤسسة ممثّلة بمديرها محمد الأحمد، الذي بحسب أميرالاي أصبح جلياً، أنه يكنّ للسينما السورية الازدراء والاحتقار الشديدين، الذي لم يعد قادراً على إخفائهما، بدليل أنه لا يتوان عن شنّ حملات ضدّ مؤلفي وكتّاب السينما السورية.
سينما جديدة.. تمويل جديد وشروط جديدة وجمهور جديد!
مع الشتات الذي يعيشه السوريون اليوم، والاستقطابات السياسية المختلفة والاختلافات الجذرية التي ظهرت إلى السطح مع بداية الحراك السلمي، أصبح من الصعب أكثر تحديد جمهور السينما السورية، ومن هو الممول والموزع، ومن المسؤول عن إنتاج الأفلام السورية مع غياب دور مؤسسة السينما السوريّة المُسيطر عليها كلياً من قبل النظام، ليصبح تمويل الأفلام المعارضة من جهات ثقافية خارجية ومنظمات دولية عدة، وسيلة بعض المخرجين السوريين للاستغناء عن المؤسسة.
وأصبحت الوثائقيات السورية تحديداً مصدر اهتمام عالمي كونها تحكي الحكاية السورية، ولاقت دعماً وتمويلاً أجنبياً على حساب الفيلم الروائي في كثير من الأحيان. ومن الممكن القول أن ذلك أدى لتوسع جمهور الفيلم الوثائقي ليشمل فئات جديدة، معظمها أجنبية أو أوروبية تحديداً.
يصعب اليوم تحديد جمهور الفيلم السوري أو طرق توزيعه، إلا أن نظرة عامة على أماكن عرض الأفلام السورية غير المرتبطة بالنظام، تبيّن أن الفيلم السوري يتم توزيعه بإشراف مؤسسات أجنبية، تضمن وجوده في مهرجانات وصالات عرض، معظم جمهورها من غير السوريين
يصعب اليوم تحديد جمهور الفيلم السوري أو طرق توزيعه، إلا أن نظرة عامة على أماكن عرض الأفلام السورية غير المرتبطة بالنظام، تبيّن أن الفيلم السوري يتم توزيعه بإشراف مؤسسات أجنبية، تضمن وجوده في مهرجانات وصالات عرض، معظم جمهورها من غير السوريين.
يقول الكاتب والمسرحي، عمرو سواح، أنه لا يوجد اليوم جمهور للأفلام السورية من السوريين، ويقسّم الجمهور إلى جمهور الداخل السوري، الذي تزايد بشكل قليل مع حركة النزوح الداخلي، وتركز الكثافة السكانية في المدن، أما جمهور الخارج من السوريين فهو جمهور غير متحمس لحضور الأفلام السورية التي تعرض، والتي معظمها يكون من الأفلام الوثائقية.
زياد كلثوم، مخرج الفيلم الوثائقي "طعم الإسمنت"، يصنف الجمهور السوري إلى قسمين، الأول جمهور مع الثورة والثاني مع النظام، مضيفاً أنه بعد اندلاع الثورة أكثر من 90% من الأفلام السورية هي أفلام وثائقية، مع وجود بعض المحاولات لأفلام روائية. ويقول أن الجمهور السوري في الخارج هو معني بكل ما ينتج عن قصته، وأن الجمهور الأوروبي هو أيضاً معني بهذه الأفلام، إذ أنها طريقته لمعرفة ما يحصل في سوريا.
في لقاء معها، تقول المخرجة والكاتبة السورية، واحة الراهب، أن الجمهور المحلي للأفلام السورية، كان قبل اندلاع الثورة مُقبل على الأفلام بشكل كبير، مُضيفة أن فيلمها الأول "رؤى حالمة" من إنتاج المؤسسة العامة للسينما عام 2007 مثالاً على ذلك. الفيلم يروي قصة فتاة حالمة اسمها جميلة في عصر الهزائم والعنف واليأس، تحاول جميلة إيجاد فعل وطني أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، لتنضم بعد ذلك للمقاومة خلال الإجتياح الإسرائيلي، فتصل لما هو أهم، وهو اكتشاف ذاتها.
وبحسب الراهب، فقد رد الفيلم سعر إنتاجه من عرضه في محافظة اللاذقية من دون دعاية مسبقة بحسب ما أعلمتها به المؤسسة العامة للسينما، وحقق ربحاً، مؤكدةً أن الجمهور السوري قبل الثورة والحرب كان جمهورٌ نابضٌ ومتفاعلٌ بكل شرائحه وفئاته العمرية ومعنيٌ بالأفلام المحلية.
ما بعد حافظ الأسد
وفاة حافظ الأسد في عام 2000، وقدوم بشار للحكم، خلقت لدى الكثير من الفنانين، الأمل أن الابن سيتمكن من قيادة البلاد إلى مستقبل حر وديمقراطي قد يتغير معه المشهد الثقافي والسينمائي، وقد تُفتح معه آفاقاً جديدة تسمح بكسر سيطرة المؤسسة العامة للسينما على إنتاج الفيلم السوري وحصره في أيدي مخرجين محددين. وبالفعل بدأ حراك لإنشاء صالونات ثقافية وسياسية يتم فيها نقاشات حيّة حول مستقبل سوريا، بالإضافة إلى نقاشات ثقافية وعرض لأفلام سورية وغير سورية، لكنه سرعان ما تم سحق هذا الحراك وسجن عدد من نشطائه وتم تحييد الفنانين والمخرجين الميالين لهذا التغيير.
الجمهور السوري مغيّب عن السينما التي تخصه وتخص قضاياه... أصبحت حكايته اليومية تقدّم لجمهورٍ غيره، ويتم عوضاً عن ذلك عرض الأفلام التي تناسب إيديولوجية النظام وقضاياه التي يروج لها للجمهور السوري.
ومع ذلك، ظهر إلى المشهد السينمائي جيل جديد من المخرجين السوريين، منهم محمد عبد العزيز الذي أخرج فيلم "دمشق مع حبي"، ونضال الدبس مخرج فيلم "تحت السقف"، وجود سعيد مخرج فيلم "مرة أخرى". كما قدمت ريم علي فيلم وثائقي بعنوان "زبد"، وقدم نبيل المالح سلسلة أفلام وثائقية خاصة بالمرأة لم يتم عرضها إلا لجمهور ضيق في مؤسسة شؤون الأسرة. معظم هذه الأفلام لم تخترق وعي المشاهد السوري بحكم اقتصار عرض معظمها على جمهور خاص أو على جمهور المهرجانات في الخارج. كما في حالة فيلم ريم علي أو وثائقيات نبيل المالح.
كل ذلك جعل الجمهور السوري مغيّب عن السينما التي تخصه وتخص قضاياه، وبعكس الحالة السائدة، أصبحت حكايته اليومية تقدّم لجمهورٍ غيره، ويتم عوضاً عن ذلك عرض الأفلام التي تناسب إيديولوجية النظام وقضاياه التي يروج لها للجمهور السوري.