(دمشق)، "لربما كان إيماني بالله، وبأن كل ما حصل هو ابتلاء وامتحان لقوتي وصبري، ولربما لأنني كنت متمسكة بالحياة بنفسي، كلما شعرت بذلك اليأس الكاوي الذي كان يعذبني في كل لحظة، كان ثمة شيء ما في داخلي يشدني من القاع، ويشعرني بأنني لا أستحق كل هذا الألم، وأنني أستحق أن أكون سعيدة على الرغم من كل شيء".
هذا ما تقوله أم علاء لحكاية ما انحكت وهي تدير اللبن على النار في ورشة الطبخ التي تديرها المرأة الخمسينية في منزلها الذي تستأجره في منطقة دمر البلد، تعمل مجموعة من ثمانية نساء دون كلل أو ملل لإنجاز طلبيات المأكولات والحلويات لعدة عائلات ثرية في دمشق ولمناسبات مختلفة: خطبة، عيد ميلاد، وليمة غداء عائلية وغيرها.
كثيرات هن النساء اللواتي امتهن الطبخ في منازلهن واستلام الطلبيات معتمدات على علاقاتهن ومعارفهن وعلى سمعتهن الطيبة من جودة الطبخ ونظافته وتسليمهن المواد المطلوبة على الموعد وبأسعار مقبولة. لكن ورشة الطبخ البيتي التي تديرها أم علاء، تتميز بكونها أيضاً، أمنت فرص عمل لمجموعة من السيدات النازحات من الريف الدمشقي، وكلهن زوجات لمفقودين وقتلى. كذلك هن المعيلات الوحيدات لأسرهن ومقيمات في بيوت بالأجرة في مناطق مختلفة من دمشق.
نزوح أم علاء
أم علاء نفسها عانت ما عانته في السنوات الماضية، فبعد أن نزحت مع ابنيها الشابين من داريا في عام 2012، وتركت زوجها يقاتل مع المعارضة المسلحة، كان آخر تواصل بينها وبين زوجها عام 2013.
اعتقل ابنها علاء على أحد الحواجز الامنية عام 2013، وفي نفس الفترة سحب ابنها الآخر علي، إلى خدمة العلم، وقتل في حلب بعد ذلك بعام واحد، ثم استلمت هوية ابنها علاء الذي قتل تحت التعذيب في أحد فروع الأمن العسكري حسب ما تعتقد عام 2015. لم يبق لدى أم علاء ما تعيش لأجله، وفكرت بالانتحار أكثر من مرة، لكن شيئاً ما كان يمنعها، وفق ما تقول لحكاية ما انحكت.
على موعد مع الحب
عام 2013 بدأت أم علاء تطبخ في منزلها وتبيع ما تطبخه على نطاق ضيق لتسد قيمة الأجار واحتياجاتها واحتياجات ابنها العسكري الذي كان لا يزال على قيد الحياة في ذلك الوقت. واستمرت بالعمل وحدها حتى عام 2015، عندما قرر صاحب المنزل رفع الأجرة، دون أن يلقي بالاً لكل ما كانت تمر به في ذلك الوقت من فجيعة بمقتل ابنيها. وفي خضم كل ذلك البؤس، كان جارها، وهو مساعد أول في الأمن السياسي، من جيرود، يعيش قصة حب صامتة كانت هي بطلتها.
أبو مضر، رجل في الخمسينات أيضاً، مطلق ويعيش وحده في بيت في دمر البلد، صادف أن بابه مواجه لباب منزل أم علاء، كان ينتظرها كل صباح عندما تخرج من بيتها لتشتري أغراضها من لوازم الطبخ، كان يراقبها بهدوء، واستغرق منه وقتاً طويلاً قبل أن يعرض عليها خدماته في مساعدتها بحمل حاجياتها في طريق عودتها إلى البيت. كانت أم علاء خمسينية، ممتلئة الجسم، ورغم كل ما مرت به كان وجهها بالكاد يحوي على التجاعيد، ابتسامتها الطيبة الخجولة ودعواتها له بالتوفيق كانت ترفع مزاجه لأيام، وهو الأعزب الذي لا يوجد من يؤنسه في وحدته.
رب ضارة نافعة
تضحك أم علاء وهي تعطي تعليماتها لإحدى السيدات التي تعمل في لف اليبرق: "لا تخليها تخينة كتير، ما بيحبوها هيك.. المهم.. سبحان الله قسمة ونصيب. ما كانت فارقة معنا لا أنا ولا أبو مضر. كنا مرتاحين ومبسوطين. وهو آدمي ودرويش ووحداني. كنا نقعد ناكل ونحكي وما نحس بالوقت. بعدين بيوم من الأيام قلي تتجوزيني يا أم علاء. وقلتلو إي. بصراحة أنا ما تجوزت جوزي عن حب. الله يسهلو إذا كان عايش ويرحمو إذا كان ميت. بس أنا عايشة ومن حقي إني ارتاح وانبسط بالوقت البقيان من عمري".
الماضي الذي لا يمضي
الحب يعدي أم التجربة؟
طعم الحرية
عنايت، أيضاً فتاة عشرينية تزوجت مبكراً قبل أن تنزح مع أطفالها من الغوطة الشرقية ويقتل زوجها في إحدى المعارك مع الجيش النظامي، تبدو متحفظة قليلاً تجاه تجارب قريناتها. ولكنها تقول لحكاية ما انحكت: "والدي بيوصلني لعند أم علاء وبيرجع بياخدني، لأنو بيخاف على سمعتي وسمعة أولادي. عم اجي اشتغل وساهم بأجرة ومصروف البيت. عايشين أنا وأختي وأولادنا، وأختي كمان زوجها مو معروف وينو، وأبي وأمي بغرفتين ومنتفعاتون بوادي بردى. أحياناً كتير بيعرضوا عليه انو يزوجني مرة تانية بس أنا عم ارفض مشان أولادي. وبصراحة أنا اكتفيت من الزواج كلو، ما اجاني من هالقصة غير التعتير ووجع الراس. بس بدي ولادي يكبروا ويتعلموا وما يشتهوا شي".
الحب في الخمسين
تضحك أم علاء، وهي تقول: "حدا بيحب بالخمسين غيرنا؟ الله لا يحرم حدا من المحبة!".