(هذا المقال جزء من ملف بالشراكة بين حكاية ما انحكت وأوبن ديموكراسي، حول السينما السورية الصاعدة منذ عام ٢٠١١: السياسة، التحديات الانتاجية، الرقابات، الجمهور، وإلى أين قد تتجه الآن)
ينسق هذا المشروع مايا أبيض وإنريكو دي أنجيليس ووليد الحوري، بدعم من مؤسسة فريدريش إيبرت.
خضعت السينما السورية لرقابة قاسية بشكل خاص، لعقود طويلة تحت حكم نظام الأسد. البوصلة الإيديولوجية لحزب البعث، المتأثرة بالسوفييت، آمنت بقوة السينما في تشكيل وإلهام العقول والقلوب، لسوء حظ السينما.
حُصرت صناعة الأفلام بالإنتاج الرسمي للمؤسسة العامة للسينما، التي لم تنتج أكثر من فيلمين في السنة، أعطيت لحفنة من محابي النظام، العاملين ضمن أجنداته الإيديولوجية والرقابية الصارمة.
حتى الأفلام الأجنبية التي كانت تعرض في الصالات السورية تعرضت لرقابة قاسية، فلم يسمح بعرض معظم الأفلام "الغربية" أو الهوليوودية، مع استثناء يتيم لسينما فندق ٥ نجوم في وسط العاصمة (أوتيل الشام) خلال التسعينات.
السينما وانتفاضة ٢٠١١
انتفاضة عام ٢٠١١ شكلت منصة دفع للأصوات المستقلة لتكسر المحددات على صناعة السينما التي فرضها النظام، وذلك بفضل التطور التكنولوجي، الاهتمام العالمي، المواضيع الغنية بشكل استثنائي.
لجأ معظم صنّاع الأفلام الصاعدين إلى النوع التسجيلي، جزئيا، بسبب انخفاض كلفته الانتاجية. ولكن أيضا بسبب زيادة الطلب في سوق صناعة الأخبار، فضلا عن الحاجة شبه الغريزية لديهم لتوثيق ما يشهدونه.
شهدت سنة (٢٠١٨) أول ترشّح في تاريخ السينما السورية لجوائز الأوسكار لفيلم سوري الصنع، الأمر الذي ساعد وثائقي فراس فياض "آخر الرجال في حلب" على كسر دوائر المهرجانات النخبوية في أوروبا والوصول إلى منصات عرض جماهيري متاحة عالميا مثل نيتفليكس. لحقه بالترشح للأوسكار العام الماضي وثائقي طلال ديركي "آباء وأبناء" الذي يحكي قصة عائلة إسلامي راديكالي مسلح في شمال سوريا.
أيضا، فيلم وعد الخطيب "إلى سما"، الذي يحكي قصة الحرب وسقوط حلب من وجهة نظر أم شابة، نال أكثر من ٢٥ جائزة دولية حتى الآن منذ إطلاقه في بداية العام ٢٠١٩، بما في ذلك جائزة العين الذهبية في مهرجان كان الفرنسي، ووصل لقائمة ترشيحات الأوسكار لهذا العام أيضا.
ورغم ما يسميه البعض بإنهاك إخباري عالمي من سوريا، تستمر الأفلام القوية بالظهور.
خاض فريق حكاية ما انحكت، مع شركائنا في أوبن ديموكراسي، عديد النقاشات الحامية حول الوضع الحالي للسينما السورية اليوم، نتج عنها مشروع ملف الخريف المطوّل حول السينما السورية الصاعدة: السياسة، التحديات الانتاجية، الرقابات، الجمهور، وإلى أين قد تتجه الآن؟
الكاميرا مستهدفة على جبهتين، الأولى من النظام، والثانية من نفس الناس الذين تحاول رواية حكاياتهم.
هنا، أحد النقاشات التي حضرناها بين ثلاث صنّاع أفلام تسجيلية شاركوا في نوفمبر عام ٢٠١٨ في مهرجان إدفا للافلام التسجيلية بأمستردام، الذي عرض عدة أفلام سورية أو متعلقة بسوريا.
داليا الكوري (لكل جرح عالم) وإياد الجارود (القربان) وليلى أبيض (رسائل إلى س.)، مخرجون استغلوا فرصة تواجدهم سويا في المهرجان كي يجتمعوا ويتحدثوا عن وضع الأفلام السورية وبعض أهم التحديات التي تواجهها وعلاقتها بالمجتمعات التي تروي حكاياتها.
جمهور منهك؟
داليا: آتي إلى مهرجان إدفا وأبعث رسائل لبعض الأصدقاء السوريين، أقترح مشاهدة أحد الأفلام السورية المعروضة، لكنهم غالبا يترددون ويفضلون مشاهدة أفلام أجنبية عن قضايا لا يعرفونها كثيرا. لذلك عندما نتحدث عن المصاعب التي يواجهها السوريون في الوصول إلى الأفلام السورية، عليّ أن أسأل: هل يريد السوريون مشاهدة حكاياتهم؟
إياد: خلال عملي في تغطية أحداث عنيفة ومؤلمة في سوريا، كنت أشكّك في الهدف من توثيق العنف، ثم إعادة عرضه على ضحاياه مجددا. ألم يكفي تحمله؟ لم نعيد اجترار الألم؟
داليا: لكن الناس تريد أن تروي حكاياتها. يريدون أن يشعروا أنهم لم يتم نسيانهم أو التخلّي عنهم، وأنّ أحدا ما يحاول إخبار العالم عنهم والتأكد من أنهم لن يُنسوا.
إياد: أعرف ولكن برأيي يختلف الأمر بحسب الموضوع. هذه الحكايات والرسائل يجب أن ترسل لأحد آخر، لمجموعة أخرى في مكان آخر. لم أعد أصنع الافلام لأغيّر العالم، لا أؤمن بذلك. لن تغيّر السينما رأي كبار الساسة وصانعي القرار، هؤلاء يعرفون الحقائق. لكني في عملي أخاطب مجموعة إنسانية أخرى. أحاول ترجمة حكاياتنا وتقريبها منهم عن طريق خلق روابط ومقارنات مع أحداث مشابهة في مجتمعاتهم وتاريخهم، كي يتمكنوا من التواصل على مستوى إنساني بطريقة أفضل. أيضا أصنع الأفلام لتقديم رواية بديلة للتغطية الإعلامية التقليدية لأحداث بلدنا، للتأكد من أننا نكتب تاريخنا ونروي حكاياتنا بأنفسنا.
داليا: أنا أيضاً لا أصنع الأفلام لأني أظن أنها ستغيّر العالم، ولا يوجد في ذهني مجموعة جغرافية معينة من الجمهور عندما أصنعهم. أصنع الأفلام حين تشدّني حالة إنسانية معينة، وأود معاينتها سينمائيا من خلال الفيلم. إن كان الفيلم جيدا في النهاية، سيصل لأي متلقي يشاهده.
عندما يعرض فيلم في مهرجان أجنبي شهير، يتحمّس السوريون، ويسعدون لرؤية قصصهم تروى على الشاشة الكبيرة. يسألون: لم لم تذكري أيضا هذا الأمر أو ذاك… لكن عندما ترفعين الكاميرا وتحاولين تصوير الأمر، لا أحد يريد أن يأخذ مخاطرة أن يتم تصويره.
في فيلمي هذا (لكل جرح عالم) عن المعتقلين السياسيين السوريين السابقين، لم أختر أن أصنعه لأنهم سوريون. شاءت الأقدار أن أكون من المنطقة (المشرق العربي) لذلك غالبا ما تكون هي موضوعي. صنعت الفيلم لأني كنت مشدودة بالكيفية التي ينجو فيها البشر من صدمة تروما من هذا النوع. كان هناك بعض النكت والمزاح المرتبط بالثقافة المحلية، قد يقول المرء أنها صعبة الفهم بالنسبة لجمهور أجنبي، لكني لم أنوي إزالتها. الفكاهة هي وسيلة قوية جدا يستعملها الناس للتغلب على التروما والصدمات والتعامل معها.
إلا أنه بعد أن أصبحت مسودة الفيلم جاهزة، عرضتها على مجموعة من الأصدقاء. كانت إحداهن سورية ونصحتني ألا أضمّن هذا القدر من الفكاهة في الفيلم لأنها من الممكن على سبيل المثال أن تكون مهينا بالنسبة ل… فلنقل لوالدة شخص قتل تحت التعذيب، أن تحكي نكتة حول الاعتقال السياسي.
بالتأكيد لم يكن هدفي أن أهين أحد. لذلك قمت بإزالة بعض النكات، وأبقيت بعضها. الفكاهة هي جزء من واقع هذه الحالة الإنسانية. وفي النهاية، المعتقلون السابقون هم أنفسهم من يلقي النكات حول تجربتهم، لست أنا. لكني سعيدة أنني قمت بالعرض التجريبي، فمن المهم أن نبقى على اتصال مع المجتمعات التي نتحدث عنها في أفلامنا.
ليلى: تماما! بالنسبة لي غياب ردود الفعل من المجتمعات المعنية هو مشكلة. لكن أيضا، عدم وصول الأفلام إليهم يعقّد عملي أكثر. كما قالت داليا، يريد الناس أن تُروى حكاياتهم. كان هذا الأمر واضحا وبسيطا جدا عام ٢٠١١. في بعض المناطق، كان يكفي أن نأتي مع كاميراتنا كي يسرع الناس إلينا ليحكوا قصصهم، أو يرونا مبنى تعرّض للقصف، أو يأخذونا للقاء جريح، الخ… كان الأمر أكثر من أن نتمكن من الاستجابة له. مع مرور الوقت، وشعورهم أن العالم بات يعرف ما يحصل، ومع ذلك لم يقدم عونا يذكر، لذا عام ٢٠١٢ بدأ الناس بالتردد بالحديث أمام الكاميرا، خاصة، وأن الأمر يهدّد حياتهم، إن قبض النظام عليهم بعد العرض. عندما فقدوا الأمل بأنّ أحدا ما سيساعدهم على إيقاف النظام إن عرف ما يرتكبه، فقدوا الثقة بدور الإعلام ككل. وفي عام ٢٠١٣، بات المصورون المحليون يعانون لتصوير مجرّد مبان قصفها النظام في بلداتهم. لأن السكان لم يريدوا أن يعرض التوثيق بالفيديو على اليوتيوب، نتيجة استعمال النظام سياسة العقاب الجماعي بالقصف على البلدات التي تنشر أخبار هجماته عليها. جعل هذا الأمر الكاميرا مستهدفة على جبهتين، الأولى من النظام، والثانية من نفس الناس الذين تحاولين رواية حكاياتهم.
مع ذلك، عندما يعرض فيلم في مهرجان أجنبي شهير، يتحمّس السوريون، ويسعدون لرؤية قصصهم تروى على الشاشة الكبيرة. يسألون: لم لم تذكري أيضا هذا الأمر أو ذاك… لكن عندما ترفعين الكاميرا وتحاولين تصوير الأمر، لا أحد يريد أن يأخذ مخاطرة أن يتم تصويره.
الحلقة الانتاجية المتعثرة
داليا: إذا كيف تتعاملون الآن مع انقطاع الاهتمام الحالي في القصص السورية؟ لدي فكرة لفيلم جديد ألهمتني إياها تجربة المنفى التي يخوضها سوري أعرفه. إلا أنني مترددة في اختياره كشخصية رئيسية. في النهاية ما يمرّ به في منفاه هو مشترك مع كل الأجانب الآخرين في نفس البلد. إن كنت بولنديا أم يمنيا التجربة واحدة…
إياد: هل كان هناك اهتمام كبير سابقا؟
إياد: لم أكن أعرف الكثير عن مصادر التمويل في تلك الفترة. صوّرت فيلمان (دفاتر العشاق والقربان) بين ٢٠١١-٢٠١٣، واستغرق الأمر خمس سنوات حتى تمكنت من إنهاء الفيلم الثاني (القربان) وعرضه الآن!
كما قلت، أنا أصنع الأفلام كوثائق تاريخية، لأزيح عن كاهلي مسؤولية الشاهد. كنت مدرس رياضيات قبل أن يبدأ كل هذا. متابع شغوف للسينما، لكن لم يكن لدي تدريب أو خبرة سابقة في صناعة الأفلام. عندما بدأت الثورة شاركت بالمظاهرات وكتابة الغرافيتي على الحيطان وما إلى ذلك. وبما أني كنت أملك كاميرا، كنت أوثق بعشوائية ما كنا نقوم به. مع مرور الوقت واستيعابنا أنّ الأمر سيدوم أطول مما كنا نظن، ليس موضوع أسابيع أو أشهر، بدأت النشاطات تصبح أكثر تنظيما، وتغيرت الحياة بكافة جوانبها من حولنا بسرعة: أصدقاؤنا، ديناميكيات تفاعلنا الاجتماعي، نقاشاتنا واهتماماتنا، عملنا، حتى الشوارع والمدينة التي نقطنها تغيّرت. عرفت حينها أنّ مجرد صور فوتوغرافية على صفحة فيسبوك لن تتمكن من إيصال كل ذلك. هذا الأمر يحتاج إلى سينما.
داليا: أعرف، هذا هو أكثر ما يشدني في القصص حول سوريا. لقد مررتم بالكثير من التغييرات بسرعة كبيرة، من الصمت المطبق على الجميع إلى كم هائل من الأصوات والتجارب المختلفة ومحاولات اكتشاف الذات، الأمر يكاد يشبه المرور بمرحلة المراهقة، بكل عواطفها واكتشافاتها المتسارعة.
إياد: نعم، إنها تجرية غنية جدا بالطبع. إلا أنني لم أكن أعرف شيئا عن الإنتاج السينمائي، المنح، شبكات التوزيع وما إلى ذلك… قمت بمعظم العمل بنفسي وبالكاد حصلت على منحة أو اثنتين لتغطية بعض التكاليف التقنية. عندما أنهيت فيلمي الأول، أرسلته لزميل لي لديه بعض العلاقات الإعلامية لأرى ما إذا كان من الممكن بثه على قناة ما، إلا أنه لم يجب على رسالتي إلا بعد أن وصل الفيلم إلى العرض في أول مهرجان له.
رغم أنّ معظم المخرجين اليوم يعرفون بعضهم أو لديهم معارف مشتركة، إلا أننا لازلنا لا نعمل كمجتمع سينمائي يقوم بدور الفلتر أو المرشح الأول للإنتاج لاختيار وترويج أعمال بعضنا البعض. عليّ أن أذهب للمهرجانات الدولية، ويتم التعريف عني في الخارج أولا، وبعد ذلك قد أحصل على فرصة عرض في الفضائيات العربية. لا منتج لدي وأملك كافة حقوق النشر لأفلامي، بإمكاني وضعها على يوتيوب ببساطة، لكن حينها لن يشاهدها سوى حفنة من أصدقائي.
بين المهرجانات والتلفزيون
داليا: هذه مشكلة الأفلام الوثائقية في كل العالم، لطالما كان الأمر على هذه الشاكلة. من الطبيعي أن يكون هناك تنافس بين صانعي الأفلام. على الأقل سنحت لك الفرصة أن تعرض على التلفزيون.
ليلى: ولكن العودة من المهرجانات إلى عالم التلفزيون قد يساعدك أيضا في التفاوض مع رقابتهم التي يحاولون فرضها على الفلم.
معظم القنوات العربية لا يهمها إن حزت على جوائز عالمية أم لا، إن لم يرغبوا بترويج الأفكار التي في فيلمك فلن يعرضوه.
داليا: … وذلك في أفضل الأحوال! معظم القنوات العربية لا يهمها إن حزت على جوائز عالمية أم لا، إن لم يرغبوا بترويج الأفكار التي في فيلمك فلن يعرضوه.
ليلى: هذا صحيح، المشاهد ليس بوصلتهم. تمويلهم سياسي ويعملون كمكبرات صوت لمموليهم. لا يهمهم ما يريد المشاهدون متابعته، ولا نسب المتابعة ولا حتى المعلنين.
داليا: على كل حال، العرض على التلفزيون هو كإقناع المقتنع. إن كان أحدهم مختلفا معك سياسيا لن يشاهد العمل ولو عرض على التلفاز.
ليلى: نعم ولكن حتى أولئك المتفقين معك بالرأي لا يجدون فرصة لمشاهدة العمل. بالنسبة لي، أحاول متابعة مهرجانات الأفلام لأبقى على اطلاع حول ما ينتجه مخرجون سوريون آخرون. من المريح لي أن أجد أحدا قد غطى أحد المواضيع التي تنخر في رأسي. أشعر أن بإمكاني الاسترخاء قليلا وتضييق إطار عملي ليصبح أكثر دقة.
داليا: ولكن ألا تفكرين أن: "لا! لقد أخذوا الفكرة ولم أعد الآن أستطيع العمل عليها"؟
داليا: نعم ولكنك لست صانع الأفلام التقليدي. أنا لا يوجد ٢٠ فيلم في رأسي سويا كل الوقت!
الثمن المقابل
الأرشيف السوري!
ليلى: باع بعض الشباب أرشيفهم الذي صوّروه على مدى سنوات بالكيلو لبعض وكالات الأنباء وقنوات التلفاز!
تحديات الحرب
إياد: لكن الحرب أيضا فرضت تحديا آخر علي، وهو سؤال: أين أتوقف عن التصوير؟