اليوم هو يوم حزين لأهل إدلب.
مناطق شتى جنوب المحافظة تقع تحت الأنقاض، وشوارع بأكملها مهدمة جراء القصف العنيف، ناهيك عن المنازل والمراكز المجتمعية والمدارس المسوّاة بالأرض.
إلا أنها ليست المرة الأولى التي تتساءل فيها نساء إدلب عن بقاء أسرهن على قيد الحياة. هن يسألن أنفسهن هذا السؤال كل يوم طوال الأشهر الثمانية الماضية، على وقع القنابل المتساقطة من حولهن. هل يستطعن مغادرة المنزل اليوم؟ أم عليهن البقاء ومداراة أطفالهن؟
وسط المخاوف اليومية والحرب الوحشية والدمار العاطفي والمادي السائد منذ ثمانية سنوات، أصبحت الأعمال اليومية الصغيرة لنساء إدلب بحد ذاتها مهام بطولية.
مطلع الاحتجاجات السلمية في سوريا عام 2011، شهدت إدلب سريعاً تطوراتها الخاصة. ازدهرت حركات المجتمع المدني ومبادرات الإدارة الذاتية المحلية، وسرعان ما تحول محيط المدينة التقليدي المحافظ شمال غرب سوريا إلى نموذج بارز لمقاومة الأسد. وعلى عكس حلب والغوطة الشرقية، لا تزال إدلب إلى يومنا هذا تقاوم الوقوع في قبضة النظام.
ومع ذلك، فإن الأهالي يدفعون ثمناً باهظاً، منهم أكثر من مليون نازح إلى إدلب، والأسوأ القصف الشديد والمتواصل من قبل القوات السورية والروسية على المحافظة منذ أبريل/ نيسان.
البطولات اليومية
تركز معظم التغطية الإعلامية على إدلب على الجانب العسكري، وهو ما يصرف الانتباه عن الغالبية المدنية من المحاصرين في إدلب، والذين يمثلون وفقاً للأمم المتحدة أكثر من 99% من السكان على وجه الدقة. كيف يصمد هؤلاء يوماً بعد يوم، تحت تواصل قصف مستمر، وفي غياب أي مخرج؟ من يزعمون عدم وجود "جهات خيّرة" في سوريا لا يعترفون بمئات آلاف النساء والرجال الذين يكافحون كل يوم من أجل سوريا أكثر عدالة يؤمنون بها، والذين يواصلون حياتهم المدنية بطريقة أو بأخرى.
من منظمات المجتمع المدني التي تشكلت بعد الاحتجاجات "النساء الآن من أجل التنمية"، والتي تعنى بحقوق المرأة وتديرها نساء سوريات. تقدم المنظمة للنساء والفتيات دورات تعليمية، وبرامج دعم نفسي واجتماعي، وتدريبات على القيادة في المراكز المجتمعية. وقد تعرض مركز النساء الآن في معرة النعمان للدمار الشديد نتيجة القصف أواخر العام الماضي. ومنذ افتتح أبوابه لأول مرة عام 2014، كان مركز معرة النعمان مساحة نابضة بالتعلم والمشاركة ودعم المجتمع.
البطولات اليومية هذه ضرورية للحفاظ على استمرار الحياة الطبيعية، خاصة بالنسبة للأطفال، الذين لا يعرفون شيئاً سوى الحرب في كثير من الأحيان
لقد دعمتُ هؤلاء النساء لأكثر من ثلاث سنوات في كفاحهن من أجل المشاركة والحريات في سوريا، لذلك أدرك غياب البطولات اليومية التي يقمن بها عن النقاش الدائر حول سوريا.
بعد الهجوم الكيميائي على خان شيخون في أبريل/نيسان 2017، توالت الرسائل الصوتية من زميلاتي اللواتي أخذن يصفن الفظائع الحاصلة. أخبرتني إحداهن أن زوجها، الذي يعمل في المستشفى الوحيد في بلدة معرة النعمان القريبة، لم يستطع إزالة المواد السامة عن الضحايا رغم كل محاولات الغسل. عاد إلى المنزل ليلاً وهو مرهق تماماً، قبل أن تشعر الزوجة وأطفالها بحروق في أعينهم بسبب المواد الكيميائية التي علقت على جلده وملابسه.
في ذلك الوقت، بدأت العديد من المنظمات المحلية النظر في خيار تعليق أنشطتها. احتجت النساء بشدة.
بغض النظر عن الخطر، النساء مصرّات. قالت زميلتي: "في كل دقيقة نقضيها في المنزل، ثمة ما هو أسوأ بكثير من الخطر الموجود هناك ينتظرنا. الانتظار أسوأ من الموت".
البطولات اليومية هذه ضرورية للحفاظ على استمرار الحياة الطبيعية، خاصة بالنسبة للأطفال، الذين لا يعرفون شيئاً سوى الحرب في كثير من الأحيان.
الأطفال والحرب
كتبت عبير في إدلب في مايو/ أيار 2019: "ضربوا عنا تلت غارات الساعة خمسة الصبح مبارح، نحنا عم ننام بالممر والأولاد بالحمام لأنو فوق الحمام فيه سقفين، أهون من سقف واحد، بنتي عمرها سنة وسبع شهور عم تخاف كتير، بس الصغير لسه ما بيعرف. بضل بقول لها هي لعوبة هيك بيعملو طق [صوت انفجار] مشان نحن نضحك. وكل ما عدت الطيارة بقلها هي لعوبة وبضحكلها مشان تفكرها عن جد لعبة".
تهوِّن الأمهات من مخاوفهن لدفع الأطفال للاعتقاد بأن الأمور طبيعية. الأمور ليست طبيعية منذ حوالي عشر سنوات.
تتذكر بشرى التي تعمل حاضنة أطفال: "عندما بدأ القصف أمس، كنا في المركز وكان الأطفال في الرعاية النهارية، بعيداً عن أمهاتهم. ما يعني أنهم كانوا خائفين بشكل مضاعف على خلاف لو كانوا معهن. تجمّع أكثر من 20 طفلاً حولي، يبكون ويصرخون بصوت عالٍ. لم يمض وقت طويل حتى أتت كل أم وأخذت طفلها. لكن في تلك الدقائق القصيرة، عندما كنت وحدي مع الأطفال، لم أكن أريد أكثر من امتلاك أذرع أطول لاحتضان كل منهم وإشعارهم بالأمان".
"سنستمر، بغض النظر عن كل شيء!"
وصلتني صورة غريبة خلال استراحة موجزة من الحملة العسكرية المستمرة لأكثر من نصف عام على إدلب التي يسيطر عليها المتمردون. سلحفاة وأيدٍ ترفع علامة النصر. قررت إحدى المعلمات في المركز استغلال الاستراحة القصيرة لتفسيح أطفالها في الخارج. كانوا مختبئين في منازلهم لعدة أيام، وأحياناً حتى تحت أسرتهم. عندما خفت وتيرة القصف، بدأ الأطفال يترجّون أمهاتهم للخروج. وبما أنها كانت نهاية شهر رمضان، فقد رضخت المعلمة وأخذتهم للتجوّل في الطبيعة. وجدوا السلحفاة على الأرض والتقطوا صورة لها لإظهار أنه لا تزال هناك حياة طبيعية في إدلب. كان فعلاً بطولياً آخراً. "يجب أن يعيش الأطفال بشكل طبيعي قدر الإمكان. نحن نحب الحياة!".
كثيرا ما يسألني الناس: "ما هو القادم بالنسبة لسوريا؟"
لدى النساء إجابة واضحة: "سنستمر، بغض النظر عن كل شيء!"
لا يردن الخضوع والاستسلام. لقد قاتلن من أجل الكثير وحققن الكثير خلال السنوات القليلة الماضية، لذلك لا يردن الاستسلام. لقد قمن بمهام جديدة، كانت حكراً على الذكور ثم تولين هنّ أمرها بعد وفاة أو اعتقال أو تعرض معظم الرجال لرضوض شديدة. هذا ما يجعلهن أكثر عزماً وتصميماً فيما يتعلق بمواجهة نظام الأسد، والذي يرفضن رفضاً قاطعاً العودة إلى العيش تحت مظلته. هذا النظام هو نفسه ما سبق أن ثرن عليه؛ نظام للتعذيب وللاضطهاد.
من شأن مشاهدة البطولات اليومية الصغيرة التي تقوم بها نساء إدلب أن يعطينا لمحة أفضل عن مستقبل سوريا؛ أفضل من الهوس بتحليل الميليشيات والجيوش والإرهابيين في النزاع
وكما دونت نبال، وهي معلمة لغة فرنسية في "النساء الآن": "الحرب التي قتلت فينا أشياء كثيرة، قتلت أيضاً خوفنا من أشياء كثيرة".
إن من شأن مشاهدة البطولات اليومية الصغيرة التي تقوم بها نساء إدلب أن يعطينا لمحة أفضل عن مستقبل سوريا؛ أفضل من الهوس بتحليل الميليشيات والجيوش والإرهابيين في النزاع.
روح ستشكل مستقبل البلد
رغم كل الصعاب، كان السعي الحثيث وراء مستقبل أفضل واضحاً للعيان في الأسابيع الأخيرة. كلما استراحت الطائرات المقاتلة وتوقفت عن قصف المدنيين، كان الناس يعودون إلى الشوارع للمطالبة بحريتهم وبإسقاط الأسد. هذه الروح المتمردة لم تنكسر منذ حوالي عشر سنوات من الحرب الوحشية. إنها الروح نفسها التي ستشكل مستقبل البلد.
في مقطع الفيديو الذي نشرته "النساء الآن"، يظهر المركز الذي تعرض للقصف وتحته تعليق: "ليس هذا المستقبل الذي انتظرناه، وليست هذه النهاية التي نقبل بها".
ربما نجح النظام في استعادة معظم سوريا بالقوة العسكرية، لكنه لن يتمكن أبداً من قهر قلوب الناس.
(نشرت النسخة الألمانية الأصلية من هذا المقال على مدونة مؤسسة هاينريش بول، يمكن قراءة المقال هنا)