حين أتأمل مسألة السجن اليوم، أطرح السؤال التالي على نفسي: إلى أي حد أنا مدين للسجن، كتجربة وموضوع، ولتجارب السجناء التي قرأتها واطلعت عليها، بما أحمله من وعي؟
بقدر ما يحمل السؤال من شبهة جنون ولا توازن (وكل كتابة هي فعل جنون، فكيف إذا كانت عن السجن وتفاصيله؟) إذ كيف يمكن للسجن، بما يحمل من عسف ودمار وجنون وتعذيب ونفي للذات البشرية أن يكون أداة وعي؟ بل أليس هو أداة لتخريب ومنع الوعي في أحد تعريفاته؟ ألا تقوم السلطات المستبدة، باعتقال المعارضين خوفا من أفكارهم ولمنعها من العبور من رؤوسهم إلى المجتمع؟
بقدر ما يحمل الكلام السابق من الحقيقة، فإن ضده أيضا يحمل من الحقيقة الكثير، أي أن الاعتقال بما يولده من شحنة مقاومة للسلطات وفضح لها، هو أداة وعي حيث تتحول السجون التي أسستها السلطات المستبدة بهدف اعتقال المناضلين والمقاومين والمعارضين لسياساتها، لقتلهم وإخفائهم وتعذيبهم، إلى وسيلة فضح وتعرية لهذه السلطات، إذ تتحول ممارساتها وسجونها إلى إدانة لها من جهة، ومادة تحريض ووعي للناس بمدى فجورها واستبدادها حين يعلم الناس بما يجري في هذه السجون من تعذيب وممارسات خارج تصوّر العقل البشري.
عالم السجن.. اهتمام مبكر
بدأ اهتمامي بعالم السجون منذ زمن مبكر، منذ العشرينات من عمري، حين علمت أن هناك سجناء سياسيين في سورية، حيث بت أسعى للحصول على كل ما تصدره المنظمات الحقوقية عن أوضاع السجناء في سورية، إضافة إلى كل الروايات الأدبية التي عالجت مسألة السجن السياسي، إضافة إلى السجناء الذين رووا تجربتهم المرة في سجون الاستبداد. وهنا لم أكتفي بالقراءة، بل كتبت عن بعض هذه الأعمال، حيث كتبت عن كتاب "الفقد"، للؤي حسين، وعن "خيانات اللغة والصمت" لفرج بيرقدار، وعن "نيغاتيف" لرزوا ياسين حسن، وهي رواية توثيقية تتحدث عن تجربة خمسين امرأة عانت الاعتقال السياسي، وأيضا عن روايتها الأدبية "حراس الهواء"، وفيلم "خارج التغطية" الذي كان أحد أبطاله سجينا سياسيا. كما كتبت عن كتاب نلسون مانديلا "رحلتي الطويلة لأجل الحرية", وهي التجربة التي يحتل بها السجن موقعا بارزا حيث قضى مانديلا أكثر من ربع قرن في المعتقل، الأمر الذي يذكرنا بمعتقل سوري، بات يعرف بعميد المعتقلين السوريين، وهو عماد شيحا، الذي أصبح صديقي لاحقا، حيث انتقلت من عملية القراءة والكتابة عن تجارب المعتقلين إلى مصادقتهم والتعرف عليهم عن كثب والاطلاع على تجاربهم وما كتبوه.
ما سر هذا الشغف؟
هذا الشغف بعالم السجن وعوالمه الكابوسية، ارتبط عندي بأمرين اثنين: جانب نضالي يتعلق بفضح الاستبداد من خلال الكتابة عن عالم السجن والوقوف بجانب هؤلاء السجناء الذين كان المجتمع قبل انفجار الثورة عام ٢٠١١ ينبذهم ويتحاشاهم خوفا من الاستبداد فيما يحترمهم في سره ويحيي نضالهم، حيث الهدف هنا مقاومة ونضال يسعى لتحرير هولاء من ربقة السجن المظلمة نحو الحرية، وسعي لبناء تصور عن عالم جديد بعيد عن عوالم الاستبداد التي نحيا في ظلها، ففضح السجن ونقده هنا مشروط بالسعي نحو مجتمع جديد ودولة جديدة، دولة يسود فيها القانون وحقوق الإنسان والحريات وتداول السلطة.
وجانب إبداعي، يتعلق بالبحث الأدبي في "أدب السجون"، والنظر والتفكير في أسئلة من نوع: كيف يتمكن الأدباء، الذين عانوا تجربة الاعتقال ومن لم يعانيها، من الكتابة عن هذا العالم؟ أين تبدأ حدود السجن وأين تنتهي في العملية الإبداعية؟ أين يبدأ الواقع وأين ينتهي؟ وقد كنت، آنذاك، أفكر في كتاب يعالج مسألة السجن في الرواية السورية، لم يسمح الوقت بكتابته بعد.
في الكتابة... والتجربة أيضا
هذا الاهتمام المتزايد بهذا العالم، أدى لأن تتمحور مجموعتي القصيصة الأولى (خطأ انتخابي) حول عالم السجن وحقوق الإنسان وعسف الاستبداد السياسي، حيث تدور أغلب قصص المجموعة ضمن هذا الفضاء، وهناك قصص تتحدث عن عالم السجن بوضوح، فاضحة السجان ومعرّية إياه.
هذا الأمر سيقودني لكتابة تجربتي عن الاعتقال تحت عنوان "كمن يشهد موته" والتي ترجمت للأيطالية. وأنا الآن بصدد كتابة رواية أيضا عن عوالم السجن الكابوسية وأثرها على حياة الأفراد والمجتمع.
السجن كرحم لولادة المثقفين السوريين!
ثمة تجربة مميزة في تجربة السجن السوري، حيث عدد كبير من المثقفين السوريين، تأسسوا ثقافيا في السجن ليتخرجوا من السجن: مترجمين وكتاب وروائيين وكتاب مسرح وممثلين، وهي تجربة تستحق الدراسة والبحث لوحدها عبر طرح سؤال: كيف تمكن هؤلاء من تحويل هذا السجن المظلم والطويل إلى مدرسة يتعلمون فيها كل هذا الإبداع؟ بل هناك موضوع لم يحكى عنه الكثير بعد، عن عالم ما داخل السجن؟ بعيدا عن التعذيب والعلاقة مع السجان والمحقق، ماذا عن العلاقة بين السجناء؟ ماذا عن التعلم داخل المعتقل؟ ماذا عن الكتب التي قرئت والمسرحيات التي مثلت على خشبات مسرح السجن؟ وماذا عن هوايات السجناء وكيف مارسوها؟.. عوالم كثيرة، لم يكشف النقاب عنها بعد، وهي عوالم مغرية للمعرفة أولا وللكتابة الروائية ثانيا.
سورية.. كسجن كبير
بعد الخروج من سورية نحو بيروت كمحطة أولى وبرلين كمحطة ثانية، مستمرة حتى اليوم، بدأت أفكر أن سورية كانت كلها سجنا بالمعنى الحرفي لا المجازي للكلمة، إذ فعلا، تمكن نظام الأسد من تسوير سوريا وعزل السوريين عن كل ما يحصل في العالم، الأمر الذي أثر حتى على طريقة تفكيرنا التي باتت قادرة اليوم على التعاطي مع العالم من موقع معرفته إلى درجة أنني أتساءل اليوم: هل أنا في المنفى أم من بقي في الداخل السوري هو من لا يزال في المنفى؟
هذا يحيلنا إلى معنى السجن وتحولاته، فمعنى السجن اليوم غير معناه غدا، فالمعنى متحول بين زمن وآخر، فلا معنى يبقى على حاله. إذن، فما معنى السجن اليوم؟
في كتابه "المراقبة والعقاب"، يتحدث الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، كثيرا عن تلك التحولات عن عالم التعذيب والسجون والمراقبة والضبط، منذ القديم حتى عالم اليوم. وفعلا، بعد خروجي من سورية، أدركت أن السجن لم يكن فقط تلك الأسوار والفروع الأمنية التي يقوم نظام الأسد باعتقال الناس وإيداعهم فيها، بل سورية كانت كلها سجنا تدار وفق آلية معينة، بدءا من سياسة وثقافة الخوف وليس انتهاء بمنع الناس من السفر، فمن لم يكن يعتقله النظام كان يمنعه من السفر خارج سورية ويطرده من وظيفته ويمنعه من العمل في أي مكان إن استطاع إلى ذلك سبيلا، فنحن هنا أمام دولة أضحت سجنا، الحدود هي جدران السجن، والجميع يسعى للانعتاق منها.