في مدينة اللاذقية، على أقصى الساحل الشمالي الغربي لسوريا، لم تعُد هلا تشغّل الغسّالة، وباتت تمضي أيّامها في غسل كلّ مجموعة من الملابس على اليدين بماء بارد. كما أنّها توقّفت عن استعمال البرّاد. فالكهرباء بالكاد تُؤمَّن لبضع ساعات كلّ يوم، "وحتى عندها، تنقطع"، على حدّ قول هلا.
وحدّث ولا حرج عن الارتفاع اليومي لأسعار السلع الأساسية في المتاجر المحيطة بشقّة هلا.
تقول هلا التي طلبت عدم ذكر شهرتها لأسباب أمنية: "يختلف سعر السلع بين ليلة وضحاها، ولا ينفكّ يرتفع".
تجني هلا (44 عامًا) التي تعمل في القطاع العام راتبًا بقيمة 40 ألف ليرة سورية (80 دولار) في الشهر، وتعيش منه. أمّا زوجها الذي تعلّم مصلحة الكهرباء بالتدريب عاطل عن العمل، وما من وظائف له ببساطة.
وسط نقص الوقود، الذي يشكّل أحد مظاهر الهبوط الاقتصادي الأوسع التي تؤثر على مناطق سوريا، بات الطهو حتى مكلفًا، وفق هلا التي قالت إنّها وزوجها يكتفيان الآن بتحضير وجبة واحدة في اليوم، غالبًا ما تكون طبخة برغل، على أمل ألّا تفرغ كلّ جرّة غاز قبل شهرين على الأقلّ.
أخبرت موقع حكاية ما انحكت: "بات اللحم والدجاج حلمًا، إذ لا نستطيع تحمّل كلفتهما".
أضافت هلا أنّ الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في شوارع اللاذقية تساهم في ارتفاع ملحوظ في التشرّد والفقر في حيّهم.
سجّلت الليرة السورية أدنى مستوياتها هذا الشهر، حيث وصلت إلى أكثر من 1000 ليرة للدولار في السوق السوداء، أي أقل بكثير من السعر الرسمي البالغ حوالي 500 ليرة للدولار. كما أنّ النقص هائل في الوقود اللازم للتدفئة والطهو، بينما تنذر أزمة العملة المستمرة في لبنان المجاور بمزيد من التراجع.
قال عبد الله، تاجر ثياب في اللاذقية: "بات الوضع خارج سيطرتنا. أشتري الأغراض بسعر معيّن، لكن يرتفع هذا السعر اليوم التالي".
يلوم عبد الله الوضع على انهيار الليرة "الذي بدوره يؤدّي إلى ارتفاع الضرائب، والأذونات، والجمارك، وأجور العمّال والنقل".
يقول عبد الله: "بصراحة، لست متفائلًا".
قد يتدهور الوضع أكثر بعد. ففي 20 ديسمبر/كانون الأول، أقرّ الرئيس الأميريكي دونالد ترامب مجموعة من الإجراءات الساحقة التي، إذا نُفّذت، قد تؤدّي إلى فرض عقوبات اقتصادية وخيمة على الأطراف التي لديها تعاملات مالية مع الحكومة السورية. يخشى البعض أن يسوء الوضع بالنسبة للمواطن السوري العادي الذي يتخبّط وسط الظروف الاقتصادية الصعبة في المناطق تحت سيطرة الحكومة.
قانون قيصر
يهدّد قانون قيصر الذي استمدّ تسميته من الإسم الرمزي لمصوّر شرعي سابق للشرطة العسكرية السورية انشقّ عنها عام 2013 وهرّب آلاف الصور التي توثّق انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان إلى خارج البلاد، بفرض عقوبات واسعة النطاق على قطاعات كاملة من الاقتصاد السوري وعلى الأشخاص الذين يساعدون الحكومة السورية وحلفاءها أو يشاركون في التحريض من أجلها.
يسمح مشروع القانون ، الذي وُضع أساسًا كردّ على انتهاكات الحكومة السورية لحقوق الإنسان، للولايات المتحدة بـ"تحديد ما إذا كان بنك سوريا المركزي مؤسسة مالية تُعنى بشكل أساسي بتبييض الأموال"، ويعطي الرئيس ترامب الضوء الأخضر لمعاقبة "الأطراف التي تقدّم دعمًا ملحوظًا للحكومة السورية أو تتعامل معها".
يرمي مشروع القانون، وفق نصّه، إلى استهداف جهود الحكومة في "إعادة الإعمار" وتطوير عقارات في مناطق "أُرغم فيها المدنيون على النزوح القسري".
تتضمّن هذه الجهود مشروع ماروتا سيتي الشائن المدعوم من الحكومة. يهدف المشروع إلى بناء عدد من ناطحات السحاب المتناسقة والشوارع الإسفلتية على أنقاض حيّ بساتين الرازي للطبقة العاملة في ريف دمشق. شهد هذا الموقع تظاهرات ضدّ الأسد في بداية المشروع، لكنّ السكّان اضطُروا إلى إخلاء منازلهم كي تُنفّذ المشاريع الجديدة. ويواجه عدّة رجال أعمال سوريين استثمروا في المشروع وتربطهم علاقة بالحكومة عقوبات من الاتحاد الأوروبي أُعلن عنها في 2019. كذلك، يجري التخطيط لمشاريع أخرى مثيرة للجدل في أماكن أخرى، مثل حمص وحماة.
في عام 2014، مثُل قيصر أمام لجنة الشؤون الخارجية التابعة لمجلس النواب الأميركي، متنكّرًا في معطف أزرق لحماية هويته، وأدلى بشهادته أمام المشرّعين الأميركيين. في مقابلة بُثّت على التلفزيون بعد ثلاثة أعوام، ناشد المسؤولين الأميركيين بالاستناد إلى الأدلّة حول التعذيب الجماعي والانتهاكات الأخرى لحقوق الإنسان، ولـ"وقف آلية القتل في سوريا".
تواجه سوريا عقوبات أميركية بشكل أو بآخر منذ سنوات، لأسباب مثل "دعم الإرهاب" أو ارتكاب "انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان"، وفق موقع وزارة الخزانة الأميركية.
لكنّ قانون قيصر يوسّع سلطة الولايات المتحدة في فرض عقوبات اقتصادية على سوريا، ويطرح أسئلة حول ما إذا كانت الإجراءات ستؤثّر على المدنيين أو ستردع انتهاكات حقوق الإنسان فعليًا.
يقول جوزيف ضاهر، ناشط وأكاديمي سويسري-سوري: "إذا نظرنا إلى الأمثلة التاريخية، نلاحظ أنّ العقوبات لم تكُن ناجحة". يذكر كمثل العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على أفريقيا الجنوبية في الثمانينيات والتي اعتُبرت بداية النهاية لنظام البلاد العنصري والتمييزي. ويقول إنّ سقوط النظام العنصري في الواقع يعود إلى عوامل سياسية أخرى.
مع ذلك، أشادت المجموعات الحقوقية بقانون قيصر واعتبرته عقابًا للحكومة السورية على الفظائع الجماعية التي ارتكبتها على مدى تسعة أعوام وعلى سفكها للدماء. وأثنى المجلس الأميركي السوري، إلى جانب مجموعات أخرى ضغطت من أجل تمرير مشروع القانون في السنوات الأخيرة، على الإجراء الذي "يحمّل مرتكبي الفظائع في سوريا مسؤولية أفعالهم الشنيعة أخيرًا".
ما التداعيات الإنسانية؟
مضى أكثر من شهر على تمرير الإجراءات، وقلّة هي العلامات حتى الآن عن كيفية تطبيق الحكومة الأميركية لها في المستقبل، والأطراف المستهدفة. لكن، على الرغم من أنّ العقوبات الأخيرة لم تُطبّق بعد، تتخبّط سوريا في أزمة اقتصادية. يعيش أكثر من 80% من سكّان البلاد تحت خطّ الفقر. وفق بعض السكّان الذين تحدّث إليهم موقع حكاية ما انحكت، تتراجع قدرتهم على شراء أغراض أساسية يومًا بعد يوم.
"وضعنا مأساوي، حتى في غياب العقوبات الإضافية".
يشعر السكّان بالتشاؤم، وقد طالتهم أصلًا التأثيرات السلبية بعد أشهر من التدهور الاقتصادي.
تكرّرت عبارة "بدنا نعيش" على لافتات المظاهرات في الأسابيع الأخيرة.
على غير عادة، التزمت إحدى قاطنات السويداء التي غالبًا ما تكون متحمّسة للحديث على الهاتف الصمت في الأسابيع الأخيرة، مع امتلاء شوارع المحافظة بالتظاهرات. وكان السبب بسيطًا: التيار الكهربائي ضعيف، ما من اتصال بالإنترنت، وبالكاد تستطيع شحن هاتفها الجوّال".
كانت التظاهرات استعراضًا شعبيًا نادرًا للامتعاض الشعبي في المناطق تحت سيطرة الحكومة.
مع بدء دمشق بإجراءات تقنين، مثل نظام "البطاقة الذكية" للوقود الذي أُطلق العام الماضي، لا يزال السكّان غير مقتنعين. وصفت شمس البطاقة بـ"المسخرة".
تقول، متهكّمة: "ماذا ستفيدنا؟ إنّها مثيرة للضحك!"
في اللاذقية، قرّرت هلا أن تجد وظيفة أخرى لتأمين لقمة العيش لها ولزوجها، إذ أنّ راتب 80 دولار لا يكفيهما قوتًا.
تفسّر: "أتعلّم كيف أقصّ الشعر وأمورًا مرتبطة بالتجميل لأنّ راتبي لا يكفي"، مضيفةً أنّها تنوي أن تفتح صالون تجميل في المنزل، لأنّها غير قادرة على تحمّل كلفة استئجار مساحة أخرى في حيّها.
تتابع: "لكنّني أريد أن أجرّب على الأقلّ كي أكسب دخلًا إضافيًا متواضعًا".
تقول: "يبدو المستقبل سوداويًا وخاليًا من الأمل. هل يُعقل أن ينتهي هذا الكابوس؟"