بعد أن أنهى أوباما أي احتمالية للتدخل العسكري الدولي من أجل حماية المدنيين في سوريا منذ عام 2013 عبر الصفقة الكيماوية الدنيئة والشهيرة، وبعد أن أنهى التدخل الروسي عام 2015 أي إمكانية داخلية لإسقاط النظام عسكرياً بقوى الثورة والمعارضة المدعومة من عدة جهات إقليمية، وبعد أن كانت سيطرة النظام على كامل الأراضي السورية وإعادة تأهيله وتعويمه دولياً على يد الروس قاب قوسين أو أدنى، جاءت سنة 2020 بحدثين حاسمين:
الأول: هو الاتفاق الروسي التركي في شهر آذار/ مارس 2020، وهو الاتفاق الذي جاء بعد فشل الروس وقوات النظام بالسيطرة على كامل إدلب واستلام المعابر مع تركيا، وأنهى، إلى أجل غير مسمى، كل الأحلام البوتينية بإنهاء الملف السوري وفرض شروطه على أوروبا والعالم، واستلام ملفي إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين.
الثاني: هو قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا، الذي تم توقيعه من الرئيس ترامب نهاية 2019 وتم تأخير تنفيذه ستة أشهر، ليبدأ تطبيقه الفعلي في 17 حزيران/ يونيو 2020، وهو القانون الذي ينهي كلياً أي أمل مستقبلي للروس بتعويم الأسد أو إعادة الإعمار تحت نظام حكمه، ويضع حداً نهائياً لكل الجهود العربية والإقليمية والدولية التي سعت جاهدة لإعادة العلاقات مع النظام ودعمت الجهود الروسية لتعويمه.
مفاعيل سياسية واقتصادية
هناك مفاعيل سياسية واقتصادية للقانون، لكن الجانب السياسي منه ينقسم إلى شقين:
الأول يصيب نظام الأسد في مقتل ويجعل إعادة تأهيله أشبه بالمهمة المستحيلة، وتلخصه الشروط الستة التي وضعها جيفري لإيقاف القانون، وهي الوقف الشامل لقصف المدنيين، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، والسماح بوصول منظمات حقوق الإنسان إلى المعتقلات والسجون السورية، ورفع الحصار عن جميع المناطق المحاصرة والسماح بوصول المساعدات الإنسانية وحرية مرور المدنيين، وعودة المهجرين السوريين بشكل طوعي وآمن، ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب في سوريا.
تلك الشروط التي تلخص معظم ما جاء في قرار مجلس الأمن 2254، الذي يلتفُّ عليه الأسد والروس منذ عام 2015، والذي يتضمن تشكيل هيئة حكم ذات مصداقية وإعادة صياغة الدستور عبر "اللجنة الدستورية"، وإجراء انتخابات نزيهة بإشراف دولي، هي شروط كافية لإجراء تغيير سياسي حقيقي في سوريا، ولا يمكن لنظام الأسد الاستمرار في الحكم في حال تطبيق شرط واحد منها، دون حتى تطبيقها جميعاً، فمن المعروف أن النظام يستخدم كل شرط من الشروط المذكورة أعلاه كأدوات تفاوض وتحكّم وابتزاز، وأوراق ضغط على الشعب السوري والمجتمع الدولي في آن، وذلك ضمن إطار فرض نفسه على الجميع كنظام شرعي حاكم، والقانون يضع جميع تلك الأوراق في ملف واحد ليواجه بها استحقاقات النظام.
ما بعد الأسد والورقة الإسرائيلية
الشق السياسي الثاني من القانون يتجاوز نظام الأسد نفسه، ويصل إلى أي نظام حكم قد يأتي بعده، فما حددته الإدارة الأمريكية لإيقاف العمل بالقانون لا يتوقف عند نهاية حكم الأسد وإعادة اللاجئين ومحاسبة مجرمي الحرب (ومن ضمنها جرائم الفصائل المسلحة التابعة للمعارضة)، ولا يتوقف عند إخراج جميع الميليشيات الإيرانية من سوريا، أو تسليم ما تبقى من الأسلحة الكيماوية التي أخفاها الأسد، بل يمتد إلى إيقاف الطابع العدواني لسوريا ضد دول الجوار في أي نظام قادم. ومن الواضح أن هذا الشرط الأخير يضع إسرائيل ومجمل عملية السلام في صلب المسألة. وعلى الرغم من خطورة هذا البند الأخير حول إيقاف الطابع العدواني ضد "دول الجوار"، إلا أنه يسحب الورقة الإسرائيلية بشكل نهائي من نظام الأسد، فمن المعروف أن تبجّح النظام بالمقاومة والممانعة لم يكن يوماً إلا للاستهلاك المحلي، أما الرسالة الأهم التي أطلقها النظام السوري للمجتمع الدولي، وتحديداً منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، هي أنه الوحيد القادر على حماية حدود إسرائيل، وصيانة وقف إطلاق النار القائم منذ عام 1974، وأن نهاية النظام ليست خطراً على أمن إسرائيل فحسب كما صرّح رامي مخلوف لصحيفة نيويورك تايمز عام 2011، بل إن أي بديل "سنّي" أو "إسلامي" للنظام، قد يخرّب كل ما صنعه هو نفسه خلال أربعة عقود من الهدوء على جبهة الجولان. وأما الآن مع قانون قيصر، فإن سيف العقوبات الأمريكي سيكون مسلطاً على أي حكومة حالية أو مستقبلية تتصرف بعدوانية ضد "دول الجوار" ولا فرق في ذلك, سواء بقي الأسد أو طار الأسد.
ماذا عن الأثر الاقتصادي للقانون؟
الجانب الاقتصادي للقانون لن يطال السوريين الخاضعين لسيطرة المعارضة في إدلب، ولا الخاضعين لسيطرة "قسد" في الشمال الشرقي، ولكنه سيؤثر حتماً على السوريين الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام، وسينقل حالة الفقر التي يعيشها الناس هناك أصلاً إلى حالة عوز قد تصل إلى مجاعة كبرى، فعلى الرغم من أن جميع المستهدفين في العقوبات؛ كيانات وأشخاص، هم إما مجرمي حرب، أو من الأثرياء والفاسدين المنغمسين في دعم آلة الحرب، إلا أن النظام الاقتصادي السوري الفاسد هيكلياً، والخاضع لمافيات السلطة كلياً، والقائم على انعدام الكفاءة إدارياً، لا يمكنه أن يعمل دون تلك العصابة الاقتصادية السياسية المترابطة، والعقوبات التي ستطال تلك البنية العصبوية، سوف تشلّ الاقتصاد السوري كاملاً ليس لأنها موجهة ضد جميع القطاعات؛ فقطاعات كالأغذية والأدوية على سبيل المثال غير مشمولة في القانون، بل لأن ما بقي من اقتصاد سوري، من ثروات ومعامل وشركات ومعاملات، جميعها مرتبطة بتلك البنية الذئبية التي تنهش جسد المجتمع السوري وتأكل الأخضر واليابس فيه، وتسرق حتى المساعدات التي تأتيه من الأمم المتحدة، والتي تصل إلى 30 مليار دولار سنوياً حسب الاقتصادي السوري أسامة قاضي، ولا يصل منها بالمناسبة أكثر من 12%، إلى المستهدفين بتلك المساعدات في مناطق النظام.
الشعب السوري كرهينة
من الواضح إذا أن النظام السوري يأخذ شعبه كرهينة لحماية نفسه من الانهيار والمحاسبة، ومثل كل عملية احتجاز رهائن، قد تؤدي مغامرة اعتقال المُحتجِز وفك الرهائن، إلى قتل اللص والرهائن معاً، وتلك المعضلة الأخلاقية الناتجة عن هذه الوضعية، والتي قسّمت السوريون بين مؤيد للقانون بحجة توجهه ضد النظام، ومعارض له "ولو من المعارضة" بحجة تأثيره على الشعب بشكل أساسي وليس على النظام، هي معضلة ليست جديدة على السوريين، بل رافقتهم منذ انطلاق الثورة السورية بأشكال ومظاهر متنوعة، فمنذ بدايات المظاهرات الأولى، علت الأصوات المطالبة بعودة الناس لبيوتها لأن النظام قاس وسيقتلهم، ولأنه وعد بالإصلاح وألغى قانون الطوارئ والمادة الثامنة وزاد الرواتب. ثم انتقلنا إلى معضلة السلاح، فعلت الأصوات المنددة بالمظاهر المسلحة كونها تورط الجميع في القتل والعنف والطائفية، مقابل الأصوات التي قالت بأنه لا يمكن مواجهة النظام وإسقاطه سلمياً، ثم دخلنا في معضلة مشابهة مع أسلمة الثورة وصعود الفصائل الإسلامية، ثم معضلة تأييد الضربة الأمريكية التي تراجع عنها أوباما أو رفضها.. الخ. وفي مجمل تلك الممرات الإجبارية التي مرت بها الثورة السورية والشعب السوري، كان السؤال الإشكالي هو ذاته: هل نخرج ضد نظام قوي وقاتل ومدعوم دولياً رغم معرفتنا بأنه لن يدمر الخارجين ضده وحدهم، بل عائلاتهم وقراهم ومدنهم، أم نصمت حفاظاً على أرواح الناس وممتلكاتهم، الناس الذين يدفعون أثماناً لا طاقة لبشر على حملها؟
موضوعياً تبدو تلك الأسئلة، رغم قسوتها وواقعيتها، مجرد رفاهية، فالبركان السوري انفجر، والأثمان دُفعت، وستبقى عملية دفعها جارية ومستمرة، ولا يمكن لأحد من إيقافها سوى النظام ذاته، النظام الذي يأخذ شعبه كرهينة، ويطالبهم هذه المرة بالجوع، كي لا يُفرض عليه هو الركوع... إنها سخرية القدر عندما تأتي على شكل تراجيديا سوداء ومأساوية.