بين التطوير الإعلامي والدعاية السرية: اختلاف ممكن وضروري


"على الرغم من إدراكنا للشكوك المحيطة بمصادر التمويل الأجنبي، لا يمكننا أن ننكر الدور الأساسي للصحافة عموما، ومنها صحافة المواطن، في أزمنة الحرب". هذا كان ردّنا على سلسلة من تحقيقات صحيفة "ميدل إيست أي" Middle East Eye في الدور المزعوم للـ"دعاية الإعلامية البريطانية" في الإعلام السوري.

27 حزيران 2020

حكاية ما انحكت

منصة إعلامية مستقلة باللغتين العربية والإنجليزية تقدم وجهات نظر نقدية حول سوريا والسوريين/ات.

 

في بدايات هذا العام، نشر الموقع الإخباري الإلكتروني ميدل إيست أي، ومقرّه في لندن، سلسلة من التحقيقات في الدور الذي لعبته "الدعاية الإعلامية البريطانية (البروباغندا) السرية" في دعم صحافة المواطن المائلة إلى المعارضة والمكاتب الإعلامية لبعض جماعات المعارضة المسلّحة في سوريا.

شجّعت المقالات على إثارة نقاش ملحّ حول حماية الصحفيين والناشطين الذين يعرّضون حياتهم للخطر في هذه المشاريع، في غياب أي تقييم للمخاطر أو تأمين. كما سلّطت التحقيقات الضوء على الحاجة إلى الشفافية في مشاريع الإعلام والمجتمع المدني التي تنفّذ أجندات سرية لخدمة كيانات الدول، وبشكل عام، على ضرورة توخّي الشفافية في الإفصاح عن هوية الجهات المانحة في التطوير الإعلامي. مثلًا، تكون التقارير الإعلامية حول الجماعات المسلّحة "المتطرّفة" هدفًا بحدّ ذاته، يُذكر بوضوح  في مشاريع غامضة مرتبطة بسوريا، مصمّمة في هالتها الرسمية لدعم المجتمع المدني.

الصحافة في روجافا (1)

29 آذار 2019
تتناول هذه السلسلة المكونة من أربعة أجزاء، والتي يكتبها الباحثان والأكاديميان، الإيطالي أنريكو دي إنجليس، والسوري يزن بدران، بيئة الإعلام في شمال شرق سوريا. وستركز المقالات الثلاث الأولى على تحليل...

لكنّ تداعيات تسريبات صحيفة ميدل إيست آي خطيرة في طابعها المبهم لأيّ شخص يعمل في مجال التطوير الإعلامي. بما أنّ المحرّرين ركّزوا على فضح الحقائق باستعمال عناوين مجيّشة للعواطف بدلًا من تبنّي مناقشة دقيقة لأخلاقيات التمويل الأجنبي، قد يقع القرّاء بسهولة في فخّ استنتاج أنّ جميع الوسائل الإعلامية التي لها قاعدة شعبية نوعا ما في سورية ليست إلا عبارة عن خليط بين الاستخبارات العسكرية والصحافة. قد يذهب بعضهم أبعد من ذلك، ويندفعون في الاستنتاج بأنّ هذه الوسائل الإعلامية ساهمت في "إطالة الحرب"، بسبب علاقاتها المحتملة بأجندات غربية.

تجدر الإشارة إلى أنّ قراءة مُمعَنة لجميع الروايات السورية المُقتبسة في مقالات ميدل إيست آي تتيح التوصّل إلى فهم أكثر دقة لهذه المسألة الشائكة، لكن، ولسوء الحظّ، الدورات الإخبارية مُعدّة للاستهلاك السريع. وعلى الأرجح، لا يتذكّر الناس سوى الرسالة السريعة والجاهزة، ومفادها أنّ الحكومات الغربية نفّذت برامجها في الدعاية الإعلامية من خلال الصحفيين السوريين. إنّ ذلك غير عادل، خصوصًا لكثير من العاملين السوريين في المجال الإعلامي الذين يعملون ويجتهدون للمحافظة على الاستقلالية التحريرية على الرغم من مصدر التمويل. في الواقع، استفاد بعض المعلّقين المؤيدين للأسد فورًا من تحقيقات ميدل إيست آي، وقدّموها كإثباتات بأنّ الحركات ذات القاعدة الشعبية والوسائل الإعلامية غير صادقة، إنّما تحرّكها أجندات أجنبية.

ورد في إحدى مقالات ميدل إيست آي أنّ "الحكومة البريطانية أسّست بشكل سرّي شبكة من الصحفيين المواطنين في سوريا خلال السنوات الأولى من الحرب الأهلية في البلاد، في محاولة لتشكيل التصوّرات عن النزاع". يلغي هذا الاستعمال للمصطلحات أي شعور لدى الصحفيين والناشطين الميدانيين بالقدرة على التصرّف، ويصوّرهم كدُمى يتمّ التلاعب بها بأفضل الحالات. في أغلب الأحيان، يُقال إنّ الصحفيين يجهلون مصدر رواتبهم، لكنّهم يسلّمون بسذاجة بأنّها مصادر "مستقلّة". مع ذلك، لطالما دار نقاش مفتوح حول تمويل الدول الغربية، بشكل مباشر أو عبر وكالات التطوير الإعلامي، لمعظم المنافذ الإخبارية التي نشأت في أعقاب الثورة السورية.

ينبغي أن تنتقد المشاريع الإعلامية جميع الأطراف وأن تحافظ على استقلاليتها عن أجندات الجهات المانحة التي لا تتّفق معها

لا تزال هذه المسألة مثيرة للجدل، لأنّ هوية الجهات المانحة لا تُكشف بانتظام للمساهمين. كذلك، في سياق اقتصادي مدمَّر، لم يكُن أمام بعض الصحفيين السوريين سوى العمل مع جهات مانحة غامضة أو غير مُعلنة الهوية.

خلال مناقشة قضية ناجي الجرف، الصحفي والناشط السوري الذي قتله عناصر الدولة الإسلامية (داعش) في تركيا عام 2015، أفادت ميدل إيست آي أنّ "ناشطين سوريين قُتلوا خلال عملهم لحساب آلة الدعاية الإعلامية البريطانية". لكنّ الجرف مات قبل كلّ شيء لأنّه التزم بمبادئه، تحديدًا في معارضته لتطرّف الدولة الإسلامية، وينطبق الأمر نفسه على ناشطين سوريين كثيرين سقطوا بصمت كجنود مجهولين. يعترف المقال نفسه بدور الجرف البارز في تأسيس شبكات الصحفيين المواطنين في سوريا. إذا كانت ميدل إيست آي تدّعي أنّ الجرف انجرّ وراء مناصرة المصالح البريطانية في سوريا بسبب المنافع المالية، فعليها أن تدعم مزاعمها بالإثباتات.

يشهد التاريخ على قبول ثوّار كثيرين بتمويل من مصادر لم تكُن بأخلاقية ونقاوة مبادئهم، بما فيها مصادر أجنبية. تذكّرنا القضيتان الفلسطينية والكردية بالحاجة المحتّمة إلى البراغماتية في أيّ نوع من حركات التحرّر. يمكن الحديث طويلًا عن التمويل الأجنبي وتداعيته السلبية على هذه القضايا. على الرغم من اعتماد المشاريع الإعلامية السورية بكثافة على الجهات المانحة الغربية منذ عام 2011 لسوء الحظّ، يشكّل اعتبار أنّ جميع هذه الجهات اختطفت رسالتهم التحريرية حكمًا عامًّا غير دقيق. بناءً على خبرتنا الخاصّة كمنظمة إعلامية، تبقى الاستدامة المالية تحديًا أكبر من أخلاقيات الجهات المانحة.

والمثير للسخرية، على أقلّ تقدير، هو أنّ هذا الانتقاد للتمويل الغربي للعمليات الإعلامية صادر عن صحيفة ميدل إيست آي التي لم تكُن قطّ واضحة بشأن مصدر تمويلها.

كما أنّ هدف "التغيّر السلوكي"، الذي يُفترض أن يقيّم نجاح هذه المشاريع بين القرّاء السوريين، والذي كشفته ميدل إيست آي، أمر مثير للجدل للغاية في الدعاية الإعلامية للحكومة البريطانية.

تخاطر أي وسيلة إعلامية تملي عليها سلطات أجنبية محتواها بإضفاء الشرعية على تهم التجسّس الجاهزة الموجّهة إلى صحفيين في ظلّ أنظمة ديكتاتورية

تشمل إحدى علامات هذا التغيّر السلوكي "تعزيز المعارضة لنظام الأسد". عند مناقشة هذه الأهداف علنًا في لغة التطوير الإعلامي، قد تُعاد صياغة عبارة "معارضة الأسد" واستعمال جملة أقلّ شحنًا وهي "دعم الديمقراطية". لكنّ الجرف، ككثير مثل الصحفيين السوريين، كان فعلًا ينوي أن يفضح جرائم الأسد وآخرين من مجرمي الحرب. لم يخضع، لا هو ولا غيره، لغسيل دماغ وتلقين بخطاب بريطاني معادٍ للأسد. دعونا لا ننسى أنّ الصحافة المستقلّة والمحترفة مضادّة للأنظمة الديكتاتورية ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالشفافية والمساءلة.

انطلاقًا من ذلك، ينبغي أن تنتقد المشاريع الإعلامية جميع الأطراف وأن تحافظ على استقلاليتها عن أجندات الجهات المانحة التي لا تتّفق معها. نجحت صحافة المواطن السورية في تحقيق هذا الهدف في أكثر من مناسبة عبر كتاباتها التي لم تكتفِ بانتقاد الحكومة السورية، إنّما طالت أيضًا أجهزة المعارضة والجماعات المسلّحة والسياسات الغربية.

في الوقت نفسه، وواقعيًا، ليس هناك بدائل كثيرة للتمويل الغربي لصحافة المواطن السورية (باستثناء التمويل من الأنظمة المَلَكية المتسلّطة في الخليج العربي، وهو تمويل مثير للجدل أكثر). لأسباب واضحة، من المستبعد أن تموّل كلّ من روسيا والصين المتسلّطتين والمتحالفتين مع الحكومة السورية، الصحافة الديمقراطية في البلاد. على حدّ قول الناشطة الفلسطينية، بدور حسن، حول تحقيق ماكس بلومنتال عن الخوذ البيضاء: "لسنا بموقع يسمح لنا بمحاضرة المدنيين السوريين تحت هول القنابل عن مَن يقدّم لهم الدعم المالي"، خصوصًا إذا كان هذا التمويل يتيح لهم العمل كصحفيين في بلد تعصف به الحرب، وحيث فرص العمل محدودة جدًا.

من دون تمويل غربي، لا وجود لشبكة "إعلاميين من أجل صحافة استقصائية عربية" (أريج)، وهي من أبرز شبكات الصحافة الاستقصائية في المنطقة.

نحن، في أسرة "حكاية ما انحكت"، وهو مشروع يستمرّ بفضل التمويل الأوروبي (منظمة دعم الإعلام الدولي، المؤسسة الأوروبية من أجل الديمقراطية، وغيرها من المنظمات غير الحكومية)، نشعر بالحاجة إلى إعلاء صوتنا حول هذا الموضوع والتوضيح بأنّه لا يجوز تصنيف جميع مشاريع التطوير الإعلامي تحت خانة الدعاية الإعلامية المُغرضة. كذلك، نؤمن بوجوب عدم قبول التمويل الغربي، والتمويل النابع من أيّ بلد في العالم، على حساب الاستقلالية التحريرية. عندما نضحّي بهذه الاستقلالية، يفقد هدف بناء مشهد إعلامي ديمقراطي في سياق ما بعد الأنظمة الاستبدادية، الذي يدفع معظم هذه المشاريع الإعلامية، معناه.

تخاطر أي وسيلة إعلامية تملي عليها سلطات أجنبية محتواها بإضفاء الشرعية على تهم التجسّس الجاهزة الموجّهة إلى صحفيين في ظلّ أنظمة ديكتاتورية. في هذه الحالة، تتخلّى الصحافة عن مهمّتها في مساءلة الأشخاص في السلطة وتتحوّل إلى آلة دعاية إعلامية ومجرّد أداة من أدوات القوّة الناعمة.

ترمي عملية التطوير الإعلامي، بكل عيوبها الغربية المشكوك بها، إلى إضفاء المهنية والاحتراف على صحافة المواطن. حتى لو كانت صحافة المواطن "كارثية" على صعيد دقّة التقارير والتغطية، كما قال أحد المجيبين على أسئلة ميدل إيست آي، فإنّ بعض مشاريع التطوير الإعلامي ساهمت في الحدّ من المخاطر عبر نشر المعايير الصحفية في سوريا.

على الرغم من إدراكنا للشكوك المحيطة بمصادر التمويل الأجنبي، لا يمكننا أن ننكر الدور الأساسي للصحافة عموما، ومنها صحافة المواطن، في أزمنة الحرب، وفي ظلّ الأنظمة الاستبدادية.

 

مقالات متعلقة

الصحافة في روجافا (2)

05 نيسان 2019
تتناول هذه السلسلة المكونة من أربعة أجزاء، والتي يكتبها الباحثان والأكاديميان، الإيطالي أنريكو دي إنجليس، والسوري يزن بدران، بيئة الإعلام في شمال شرق سوريا. وستركز المقالات الثلاث الأولى على تحليل...
الصحافة في روجافا: الإعلام في الرقة (٤)

27 نيسان 2019
يسلّط الباحثان والأكاديميان، الإيطالي أنريكو دي إنجليس، والسوري يزن بدران، في الجزء الرابع والأخير من هذه السلسلة على بيئة العمل الصحفي في الرقة ومحيطها، وتطورات هذا الحقل منذ أن دحرت...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد