لا تقترب المدن من قلبي ويصبح لها مساحة خاصة به، ما لم أجد فيها مكانا يألفه القلب، وهذا المكان ليس إلا المقهى. إذ لا أعتبر المدينة "مدينتي" ما لم يكن لي فيها مقهى محدد، أشعر به يلامس روحي ويدغدغ قلبي كطعنة حب. وهذا ما جعلني أقع في غرام مدنية باريس مثلا، منذ أول زيارة، فالمقاهي التي تطلّ على ساحاتها وشوارعها، ليست إلا حوريات بحر تدعوك للحب أو الموت، فالأمر سيان، إن عشت أو مت، بعد شرب فنجان قهوة على ضفافها وأنت تقرأ كتابا أو تكتب نصا ما. وهذا أمر مختلف كليا عن علاقتي مع دمشق وبيروت وبرلين، فإذا كانت باريس "حب منذ النظرة الأولى"، فإن علاقتي مع دمشق وبيروت وبرلين، تشبه حبّا جاء في الأوقات غير المتوقعة، نما ببطء وهدوء على "نار هادئة"، حتى تعربش بالروح والجسد، وبات الفطام مستحيلا دون آلام ومكابدات عشق تطول ولا تنتهي.
المقهى الذي يقع حبه عليّ أو أقع في حبه، مسألة معقدة كالتفاعلات الكيميائية التي يحفظ البشر نتائجها دون أن يفهموها تماما، أو كالحب حالة معقدة تستعصي على الوضوح والتفسير رغم بساطتها ووضوحها. وهذا ما يجعل كل أصدقائي يستغربون من تمسكي بتلك المقاهي وشغفي بها حين أدعوهم إليها، متسائلين: ألم تجد أسوأ من هذه المقاهي؟ لأجيبهم، بما أجاب مؤسس بحور الشعر العربي، الخليل بن أحمد الفراهيدي، نقاده:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني/ أو كنت تعلم ما تقول عذلتك
لكن جهلت مقامتي فعذلتني/ وعلمت أنك جاهل فعذرتك
كما أنه ليس هناك تشابه بالضرورة بين المرأة التي نحبها أول مرة والثانية أو الثالثة، فكذلك الأمر بالنسبة للمدن والمقاهي التي نقع في حبها، إذ تختلف فيما بينها اختلاف السماء عن الأرض، النار عن الماء، الريف عن المدينة. ولكنها، من جهة أخرى، تتشابه أيضا، تشابه الماء مع الماء، فيما تبقى كيمياء الحب وحدها التي تفسّر هذا الشغف الذي يجعلنا نردف ياء الملكية بالفتيات والأماكن والمدن والمقاهي التي نحب، فتصبح: حبيبتي، مدينتي، مقهايَ..
وإذا كانت شدّة الحب وقوته تقاس بمدى ما يكابده العاشق في سبيل الفوز بقلب المحبوبة، فإنّ الفوز بقلب المدن والمقاهي يبقى متعذرا، لكثرة عشاقها وروادها، ما يجعلنا في علاقة حب من طرف واحد لأمرأة متعددة العشاق من جهة، وصعبا ومتعبا، لنرجسية المدن وتعدّد وتعقّد طبقاتها وتواريخها وحروبها وثقافاتها، والتي تصل حدّ التضاد مع ثقافتك، فيما الحب أساسا هو ثقافة، ما يستدعي تطبيعا ثقافيا في بعض الأحيان، وحوارا ثقافيا في أحيان أخرى، والقبول بـ "الغزو الثقافي" في حالات أخرى، كي تتغلب على حالة الغربة التي تنتابك وأنت تعيش في مدن غريبة أو جديدة.
موطئ قلب في برلين
بقيت برلين بالنسبة لي مدينة غريبة وبعيدة عن قلبي وروحي، رغم وجود كل أصدقائي تقريبا فيها، حتى وجدت المكان الذي وقعت في غرامه أو آلف قلبي، وهو مقهى آينشتاين. ورغم كثرة المقاهي الموجودة في برلين تحت اسم آينشتاين، إذ للمقهى أكثر من فرع، فإن واحدا منها فقط هو الذي وقعت في غرامه، وهو ذاك الواقع في شارع (Budapester Str . 38-50) بالقرب من "بكيني برلين"، وتحديدا تلك الطاولة الموجودة يمين الواجهة البلورية للمقهى، وتحديدا الكرسي التي يسمح لك حين تجلس عليه بمراقبة المشاة القادمين من جهة حديقة الحيوان أو الهابطين من بار شهير متواجد في تلك المنطقة. ما إن جلست في هذا الكرسي حتى شعرت بأني جلست في مكاني، فجأة انتفت الغربة وفَرِح القلب، زقزقت الروح وهتفت كما كانت تهتف في دمشق، ذات مقهى.
"ها قد أصبح لي موطئ قلب هنا" قالت الروح التي أصبحت تتوق للجلوس في هذا المقهى، على ذات الكرسي، كلّما كان لدي وقت فراغ بعد الانتهاء من العمل.
مقهى هنا مقهى هناك
أجلس دائما في "مكاني" بعد أن أطلب قهوة اكسبريسو، وأبدأ الكتابة أو القراءة، وخلال ذلك تتنقّل عيناي بين الكتاب والشارع، بين امرأة تعبر أمامك هنا وامرأة عبرت هناك ذات حلم أو يقظة، بين الآن والماضي، حيث كنت أطل من مقهى آخر في مدينة أخرى على عابرين آخرين وصبايا لم تزل تفاصيل أجسادهن ترّن كخلخال في ذاكرة الروح.
مرة في دمشق، وأنا أجلس في المقهى عبرت أمامي فتاة، ابتسمت لي وذهبت، لا أزال أحتفظ بابتسامتها حتى اليوم في ذاكراتي طازجة كأنها تحدث للتو. بعد يومين، سأجد الفتاة ذاتها صدفة، تقف بجانب الإشارة وهي تعض إصبع يدها، تدفق الشعر في جوانحي، فكتبت:
لا تعضي الإصبعا
إن قلبي توّجعا
وردة الحب ارجعي
إن قلبي أدمعا.
علاقتي مع المدن تتحدّد من خلال علاقتي مع المقاهي، فأنا من النوع الذي يميل للثبات في أماكنه وإن غيّر أمكنته كثيرا، إذ هناك أماكن للعبور السريع والأكل السريع، وهي كثيرة لا تترك أثرها في الروح أو القلب، وهناك أماكن للاحتفاء، للعشق، لها هالة من القداسة لا يعرفها أحدا سواك، ثمة كيمياء لن يفهمها الآخرون مهما شرحت لهم، إذ كيف أشرح لهم أني هنا أخمّر أفكاري، أن "الوحي" يزورني هنا، أنّ مشاريع الكتب/ الروايات التي أفكر بكتابتها تولد هنا أفكارها الأولى، وأن شخصياتها تتطوّر وتنمو وأنا أحدق في الزمكان الذي تحدث عنه آينشتاين ذات وحي! كيف أشرح هذا لأصدقائي الذين يلومونني دائما بسبب هذه المقاهي، مطلقين عليها أسماء ساخرة، مرة يسمونها "البولمان" ومرة أخرى "سيارة الجيب العسكرية"، فأناكدهم بأنها "حضن الحبيبة"؟
إذا كانت شدّة الحب وقوته تقاس بمدى ما يكابده العاشق في سبيل الفوز بقلب المحبوبة، فإنّ الفوز بقلب المدن والمقاهي يبقى متعذرا، لكثرة عشاقها وروادها، ما يجعلنا في علاقة حب من طرف واحد لأمرأة متعددة العشاق من جهة، وصعبا ومتعبا، لنرجسية المدن وتعدّد وتعقّد طبقاتها وتواريخها وحروبها وثقافاتها
يقول علماء الطاقة أن جلوسنا الدائم في مكان محدد من البيت على كرسي محدد، يعني أنّ ثمة طاقة إيجابية هنا، تتفاعل معها حواسك وروحك كلها، وهو ما يجعلك تبدو غير مرتاح إن جلست على كرسي آخر في بيتك نفسه. وهو أمر أشعر به، فحين آتي المقهى وأجد أن الكرسي الذي تنتعش به روحي، مشغولا من قبل آخر، أشعر بعدم راحة، بل أكثر من ذلك، لا أتمكن من القراءة أو الكتابة بشكل مريح، إذ أشعر بالضيق فيما عيناي تتلصصان على "كرسيّ"، تترجيان الجالس عليه أن ينهض، وما إن يفعل حتى أنهض بسرعة وأجلس في مكاني قبل أن يجلس أحد أخر، وكأني أعتذر للكرسي والطاولة، وأطمئنهما بأني عدت لهما! وذات الأمر كان يحصل في دمشق، حين كنت على موعد دائم مع كرسي آخر يطل على شارع العابد في مقهى الروضة في دمشق.
"والأذن تعشق قبل العين أحيانا"
في دمشق التي وصلتها للدراسة الجامعية قبل نهاية تسعينيات القرن الماضي، قادما من القرية في الساحل السوري، كنت غريبا لحظة وصولي، فقيرا بلا مال إلا ما يرسله الأهل بما يكفي لمصاريف الدراسة، ريفيا بلهجة لا يحبها أهل المدن، مرّة لأنها ترمز للسلطة التي يحتقرون، ومرّة بدافع طبقي، فهم "الأعلى" ونحن "الأدنى". وأيضا، فقيرا بالمعنى الحضاري والثقافي للكلمة، فالأرياف بعيدة عن منتجات الحضارة والثقافة بأبسط صورها، بدءا من الحديقة التي كنّا لا نعرف لها اسما أو شكلا في الريف إلى صالات اللعب والطعام واللباس والكتب ونظريات المعرفة... وهي الأشياء التي كنا لمسناها في القرية مذ كنّا صغارا، والتي كانت سبب حبي المبكر لـ "الشام" كما يطلق السوريون على دمشقهم.
في القرية التي ولدت، كان العالم صغيرا وبسيطا، لا شيء لدينا سوى المدرسة والشارع الذي نلعب به بما توّفر، كرة نصنعها من بقايا الخيوط والقماش أو نضعها في كيس بلاستيكي نحكم إغلاقه كي يكفينا أكبر مدة من اللعب قبل أن يتمزق تحت أقدامنا، عيدان نستخدمها كمسدسات في لعبة حرب وهمية، ألعاب لا تحتاج موارد مالية أو أدوات.. لا حديقة ولا تلفاز ولا ألعاب (سأمتلك أول كرة حين يكون عمري 12 عاما).. هذا الروتين والفقر المدقع، لم نكن نشعر به إلا حين يأتي الأطفال الأخرون من "الشام".
كان أهل القرية الذين يعملون في الشام يأتون في فصل الصيف للاعتناء بأراضيهم وقطف مواسمهم وزيارة أهلهم ثم العودة إلى الشام. حينها، كنا نلتقي هؤلاء الأولاد الذي يلبسون ثيابا غير ثيابنا الرثة، ويجلبون معهم ألعابا لا نعرف لها أسماءا حتى يخبروننا عنها وعن الشام التي جاؤوا منها. يتحدثون عن "المول" الذي يحوي كل شيء، والحديقة التي فيها "زحليقة" و"مرجوحة" "وقلابة"، عن الأسواق والشوارع والسينما والأفلام والمدراس.. من هنا من هذه اللحظات الطفولية، ومن فم الأطفال "الشوّام" (كما كنّا نسميهم، فيما هم غرباء في الشام نفسها كما سأكتشف لاحقا)، ولّد تعلّقي الأول بالشام وحبي لها، "والأذن تعشق قبل العين أحيانا" كما يقول الشاعر ابن برد.
حين كنت أضع رأسي على المخدة في تلك الأيام، كنت قبل أن أغرق في النوم، أغرق في أحلامي عن الشام: شوارعها، حدائقها، أسواقها، مولاتها، ساحات لعبها.. كنت أكوّن الشام الخاصة بي على مقاس أحلامي وتخيلاتي، وهي الشام التي لن أجدها أبدا حين وصلت الشام حقا، فما تزال تلك "الشام" التي اخترعتها مخيلتي في الطفولة، غير مكتشفة ومعروفة بعد، تختفي في طيات الذاكرة ولا تخرج إلا خلسة بين حين وحين، في لحظات حميمية ونادرة، وها هي تخرج اليوم من طيات الذاكرة لتحيي برلين، وأنا أكتب هذا النص من "الكرسي الخاص بي" في مقهى أينشتاين (9 حزيران 2019). تخرج الشام المخبّأة معي لتتفرج على الشام الحقيقية التي فقدت، وعلى برلين، بحثا عن مشترك ما أو لحظة دفء. ها نحن كلانا، أنا وشامي المخبأة وبرلين، نطل من زجاج مقهى آينشتاين على شارع الروضة في دمشق، حيث كنت أجلس هناك وأطل على النساء والبلاد التي لم أتوقع، ولم أفكر، أن أغادرها يوما ما، يكويني حنين لا أعرف من أين يهجم فجأة، حنين مصحوب بندم مباغت ينتابنا حين نكتشف أن المرأة التي فقدناها للأبد هي الحب الذي خبأته لنا الحياة ولن نحظى بمثله أبدا، فيما لم نكترث له حين كان بمتناول القلب. وهذا ما سيفاجئني لاحقا، إذ رغم أني حين كنت أعيش في دمشق كنت أعرف جيدا أني أحب الشام وأعشقها، وأني اتخذتها بيتا أبديا لي، إلى درجة أنه لو كان يمكن للمرء أن يختار مسقط رأسه في الحياة القادمة، لاخترت دمشق دون تردد، فأنا أعتبر نفسي دمشقيا في العمق. ومع ذلك كله، حين غادرتها مضطرا إلى بيروت دون عودة، اكتشفت أني أحبها أكثر مما كنت أتوقع، وأني أعشقها حدّ أن الدماء التي تجري بين عروقي تطالب بها دوما، فهل يحدث هذا لأن المرأة التي نفقدها تصبح هي الأشهى؟ والقصيدة التي تضيع تصبح هي الأجمل؟
ها نحن كلانا، أنا وشامي المخبأة وبرلين، نطل من زجاج مقهى آينشتاين على شارع الروضة في دمشق، حيث كنت أجلس هناك وأطل على النساء والبلاد التي لم أتوقع، ولم أفكر، أن أغادرها يوما ما، يكويني حنين لا أعرف من أين يهجم فجأة، حنين مصحوب بندم مباغت ينتابنا حين نكتشف أن المرأة التي فقدناها للأبد هي الحب الذي خبأته لنا الحياة ولن نحظى بمثله أبدا، فيما لم نكترث له حين كان بمتناول القلب
حين قدمت دمشق، لم يكن في حوزتي من "رأسمال" إلا الكتب التي قرأت وأسماء الأدباء والكتاب والشعراء الذين قرأت لهم، وكنت أعرف أن بعضهم كان يقيم في دمشق، فبدأت رحلة البحث عنهم. كان المفضل لي في تلك المرحلة، شاعر ثوري عراقي، طاردته كل الأنظمة العربية لأنه هجاها في قصائده، هو مظفر النواب. عرفت أنه يجلس أحيانا في مقهى الهافانا، وهو مقهى كان يعرف سابقا، بأنه مقهى اليسار في دمشق. رغم الأسعار المرتفعة في المقهى تشجعت ودخلته، طلبت أركيلة مع فنجان شاي، كان ثمنها يشكل نسبة لا بأس بها من موازنة الشهر كما أتذكر تماما، وبدأت أنتظر شاعري المفضل. هكذا، مرة كل شهر، أضحي بجزء من موازنتي في موعد من طرف واحد، إلى أن أتى ذات يوم، شعرت برهبة حقيقية، كانت تفصل بيني وبينه ثلاث طاولات، وكانت الساعة الخامسة مساءا بتوقيت دمشق، جلس وطلب شايا أخضر وبدأ بقراءة الصحف التي كانت بحوزته. لم أتجرأ يومها على الاقتراب منه والحديث معه، وستمر ثلاث مواعيد أخرى ألقاه فيها، حتى أتجرأ وأقدم نفسي له، ومن ثم سنصبح أصدقاء فيما بعد.
ما أتذكره جيدا، أني لم أكن مرتاحا للجلوس في هذا المقهى، فأسعاره مرتفعة عدا عن كون أن الندّل لحوحين بطريقة مزعجة، ما إن ينتهي ما تشربه، حتى يأتي ويقول لك: ماذا تريد أن تشرب؟ وأنت الذي لا يستطيع أن يصرف الكثير من المال. ولهذا بت في الأيام القادمة، أمر من جانب المقهى، فإن وجدت مظفرا جالسا على طاولته دخلت وجلست معه إن كان لديه وقتا، وإن لم أجده لا أدخل. باختصار لم يكن المقهى الذي يطابق روحي، "لم يحصل بيننا كيمياء" كما نقول حين لا يحدث حب بيننا وبين فتاة ما نودها ونعجب بها دون أن يصل الأمر مرحلة الحب.
"كم منزل في الأرض يألفه الفتى"
في إحدى المرات، حدّد لي صديقي موعدا في مقهى اسمه الروضة في شارع العابد في دمشق، لم أكن أعرفه سابقا. ما إن دخلت المقهى، حتى انتابني فرح مباغت، أحسست جسدي يتفتح كزهرة جوري في ليل صيفي، أطير على غيم كصوفي فيما قلبي يطوف على ماء من روح كنبي بعد دفقة وحي تلقاها. وهو ذات الشعور الذي شعرت به حين وجدت "الكرسي الخاص بي" في مقهى أينشتاين في برلين، حيث أكتب الآن (وإن كنت اليوم (10 حزيران 2019) أكتب من كرسي أخر لأن أحدهم احتل كرسيّ وأنتظر لحظة رحيله).
وسط هذا الدفق الروحي، وجدت أيضا الشاعر مظفر النواب أيضا في المقهى/ الروضة الذي اكتشفته للتو، سلّمت عليه، وذهبت إلى طاولة صديقي، ليصبح مذاك هذا المقهى، هو مكاني ومنزلي الذي آلفه في دمشق، وهو منزل مثقفي دمشق وفنانيها كما سأكتشف تدريجيا.
كان كرسيّ المفضل، حين أكون وحدي بلا أصدقاء، ذاك المطل على شارع العابد، بجانب الزجاج تماما، ما إن أجلس حتى تأتيني النركيلة مع الشاي المخمّر في كأس صغير، أقضي أوقاتا طيبة فيما عيناي تتنقلان بين الكتاب والحياة التي تعبر أمامي كما لو كانت مسلسلا، أتابع مشاهدة الحلقة الألف منه في برلين اليوم. في دمشق، عرف النادل لوحده سري مع الكرسي، دون أن يسألني أو يقول شيئا حتى، فما إن يراني أجلس على كرسي أخر، حتى يأتيني ويقول لي: "حين يغادر الزبون سأحجز الطاولة لك لا تقلق". وفعلا كان يؤجل مجيء الأركيلة حتى تفرغ الكرسي، إلا إذا كان الزبون قد جلس للتو وسيقضي وقتا طويلا.
لا يشبه مقهى آينشتاين في برلين مقهى الروضة في دمشق بأي شيء، سوى بتلك الدفقة الروحية التي أسبغتها مخيلتي عليه، فمقهى الروضة في دمشق تأسس عام 1938، يضم بين طياته وذرات هوائه تاريخ دمشق، إذ من النادر أن تجد مثقفا أو فنانا أو سياسيا لم تطأ قدماه أرض المقهى الذي يقع على بعد أمتار من البرلمان السوري، مقهى له مذاق دمشق وروحها، فسحة سماء وسط عالم أرضي (مساحة المقهى 750 مترا تتسع لحوالي 600 كرسي و150 طاولة)، من لا يدخل المقهى لا يتوقع أن يجد داخله مقاهي داخل مقهى، ولكل مقهى/ قسم رواده وطاولاته وكراسيه، ولكل كرسي مريد، ولكل مريد حكاية. فهناك الجزء المطل على الشارع والجزء المفتوح على السماء والذي يجلس به مثقفو دمشق، والجزء الداخلي والذي يرتاده فنانو دمشق (الممثلون)، وأحيانا تختلط الأقسام بروادها.
في الصباح تجد دائما، زبائن المقهى "العتاق"، كتاب متقاعدون، سياسيون غادرتهم السياسة، سجناء سياسيون لم يعد أحد يعرفهم، لاجئون سياسيون، ضباط سابقون خرجوا من الاعتقال بعد سنوات طويلة لمجرد تفكيرهم بالقيام بانقلاب عسكري.. وعند الظهر يتدفق عليه المثقفون والعاطلون عن العمل ليلعبوا الشطرنج أو الطاولة، لينضم لهم بعض الظهر الموظفون الذين خرجوا من وظائفهم وفي المساء وحتى أول الليل نادرا ما تجد كرسيا تجلس عليه، إذ تشعر أنك وسط ضجيج مألوف ومحبّب، مدينة داخل مدينة.
ثمّة حميميات متعدّدة داخل هذا الفضاء الفوضوي ولكن المنظّم وفق قواعد يعرفها رواده جيدا، حميمية تجمع رواد المقهى مع العاملين فيه، حميمية بين شبان وشابات أتوا بحثا عن الحب أو ليلة عابرة، حميمية تجمع رواد المقهى فيما بينهم، إذ يمكن لأي أحد أن يجلس فجأة على طاولتك ويفتح حديثا معك، هنا تنشأ صداقات وتنتهي بمجرد الخروج من باب المقهى أو بسبب النميمة التي لا تتوقف، فيما هذا يفتقده مقهى أينشتاين، فلا صلة بين الرواد والمقهى، عبور سريع تفرضه إيقاعات الحياة السريعة والرأسمالية هنا، لا حميمية بين الرواد والندل، لا رواد ثابتون، لا حديث بين زبون وأخر، فالفرد في مقهى آينشتاين زبون عابر نادرا ما يعود أو يرتبط بعلاقة ألفة مع المقهى، فيما الفرد في مقهى الروضة مريد وعاشق، يأتي بحثا عن لحظة حب يشتهيها. وهذا ما تساعده عليه جغرافيا المكان وفضائه الذي يشبه بيتا دمشقيا هاربا من فضاء الحداثة.
حين أحدّق في وجوه العاملين في مقهى أينشتاين، أشعر أنّ الشبه الوحيد مع مقهى الروضة يكمن هنا، إذ توحي الوجوه بأنهم مهاجرون أو أبناء مهاجرون، طلاب جامعيون يبحثون عن مورد رزق يعينهم على الصمود أمام مصاعب الحياة لإكمال الدراسة، فقراء بطريقة ما، يشبهون فقراء مقهى الروضة في دمشق والذين كان أغلبهم (عربا وكردا ومكونات أخرى)، يعملون من الصباح حتى المساء حتى يبعدوا عنهم شبح الفقر.
مقهى آنشتاين من حيث الشكل والروح أقرب إلى مقهاي في بيروت، وإن كان الثلاثة يتشابهون في العمال الفقراء. ففي بيروت، كان مقهى كوفي "بين"، هو مكاني المفضل، الذي قاسم مقهى الروضة وآينشتاين عشقي. ولأن لبيروت حيث عشت لمدة سنتين قبل قدومي برلين حصة من الروح، فلها ولمقهاي فيها، كتابة أخرى لا يتسع المجال لسردها هنا، على أمل كتابتها حين يفيض وحي بيروت علينا، أو حين نشفى من أحزانها الكثيرة، وتشفى بيروت مما يثقل روحها، بعد أن تنتصر على رجال الموت الناطقين باسمها اليوم، والقاتلين بهجة الحياة فيها.
يخبرني أصدقائي الذين بقوا في دمشق حتى هذه اللحظة، أن المقهى لم يعد ذلك المقهى الذي كنت أحبه، إذ أصبح غريبا حتى عن روّاده الذين بقوا أوفياء له، ما يعني أني فقدت "دمشقي" إذ فقدت مقهاي الذي أحبّ، كما فقدت "مكاني" في بيروت مذ أغلق مقهى "كوفي بين" الذي كنت أرتاده، فيما لم يبقى لي إلا مقهى آينشتاين اليوم، فإلى متى ستصمد معي يا "آينشتاين"؟