لو ما توّحدنا (5)

هل نجحت الصورة في نقل الرواية الصحيحة؟


"لم تكُن مهمّتي كمصوّرة محلية سهلة في بيئة عنيفة. في إحدى المرّات، اشتبه الجيش السوري الحرّ بأنّني جاسوسة للنظام، واتّهموني بتسريب صور عن اجتماعات زعمائه إلى النظام، مع أنّني لم أحضر أي اجتماع منها قطّ. كما كنت مطلوبة من النظام بسبب إيماني بحرية التعبير وتوثيقي للجانب الآخر".. هذا ما تقوله المصوّرة السورية نور كلزي في شهادتها عن عملها كمصورة خلال الثورة السورية.

08 كانون الأول 2020

(بستان الباشا حلب. 3 يونيو 2014. تصوير نور كلزي)
نور كلزي

من مواليد عام 1988 في حلب/ سوريا، حاصلة على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة حلب. بصفتها معلمة لغة إنجليزية سابقة، قامت بالترجمة لمصوّر من رويترز أعطاها كاميرا في النهاية. في عام 2013 منحتها المؤسسة الإعلامية الدولية للمرأة جائزة "الشجاعة في الصحافة". هي أحد زملاء التصوير الفوتوغرافي وحقوق الإنسان في مؤسسة Magnum لعام 2015.

(هذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن التصوير السوري والمصورين السوريين. بتمويل من مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية)

أحبّ أن أوثّق الأحداث أو الأفعال والناس الأكثر تأثرًا بها، بالتالي اخترت التصوير. أردت أن أنقل الصورة إلى السوريين في الجهة الأخرى من مدينتي.

شعرت بكلّ صورة قبل أن أضغط على الغالق. غالبًا ما أتساءل عن مصير الناس في صوري. فالأماكن، تمامًا كالناس، لديها أرواح، وكلّ منزل أو مبنى يتمّ تفجيره مليء بحكايات عن أشخاص كانوا يقطنون أو يعملون فيه. لعلّهم ماتوا هناك أو هربوا. من خلال الصورة، أحاول أن أتمسّك بتلك الروح وألتقطها.

(بستان القصر/ حلب. 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012. تصوير نور كلزي)

في عام 2011، عمّت التظاهرات بعض المدن السورية، حيث كان الناس يحتجّون على ظلم الحكومة، وانتشرت الجدالات والانقسامات في المجتمع. اختلف الواقع الذي نقلته الوسائل الإعلامية الوطنية التابعة للحكومة عن الواقع الذي شهدت عليه كمتظاهرة.

ففي البداية، كانت الحكومة في حالة نكران حول حصول التظاهرات، واتّهمت المتظاهرين المشاركين بقبول الرشاوي لزعزعة الوضع في البلاد. بعدها، أنكرت العنف والوحشية التي مارستهما شبّيحة السلطة وقواتها الأمنية وعناصر الجيش لقمع التظاهرات مهما كلّف الثمن. لاحقًا، تبنّت وسائل الإعلام خطاب القومية الذي شدّد على الوطنية وصوّر معارضة النظام كعمل خيانة عظمى.

في العام 2012، استولى الجيش السوري الحرّ على مواقع في مدينتي، حلب. انتقلت إلى الجهة الأخرى خوفًا من حملة الاعتقالات التي كانت الحكومة قد أطلقتها في بدايات العام ضدّ الناس الذين لديهم أفكار معارضة.

(على اليسار: حلب/ بستان القصر. 29 يناير 2013. تصوير: نور كلزي. على اليمين: الرقة. 25 أبريل 2013. تصوير: نور كلزي)

تنقّل دائم

في البداية، استعملت اللقب "زين كرم" لحماية عائلتي إلى أن غادروا المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام.

لم يوقفني أحد عن التقاط الصور حينها. انتقلت أوّلًا إلى بستان القصر حيث سكنت لفترة مع عائلة هناك كنت قد تعرّفت على أفرادها خلال التظاهرات في الشوارع.

سوريا تحت المجهر: البداية (1)

28 تموز 2020
"سوريا تحت المجهر" مشروع جديد تطلقه حكاية ما انحكت تحت إدارة المصورة سيما دياب، يهدف إلى تفكيك الصور ودراسة السياق الذي التُقطت فيه، وفي بعض الأحيان، السياق الذي نُشرت فيه...

ثمّ حلّت المرحلة غير العنيفة التي طغت عليها الزهور، والمناشير، والطابع السلمي. مررنا بجميع هذه المراحل البارزة، لكن واجهنا وحشية تامّة في المقابل. بات تذكّر التظاهرات محطّة مهمّة في تحديد الأحداث التي كانت تدور في سوريا، وكان ملفتَا أنّ التظاهرات استمرّت في المناطق تحت سيطرة المعارضة.

في 29 يناير/ كانون الثاني، تلقّيت اتصالًا من مكتب رويترز في بيروت لتغطية مجزرة. كان النظام السوري قد رمى جثامين أكثر من 200 شخص احتجزهم وقتلهم (أُعلن أنّ بعضهم كانوا في عداد المفقودين) في نهر قويق، فجرفتهم المياه إلى المناطق تحت سيطرة المعارضة في المدينة. ذهبت لأصوّر الجثامين التي كانت ممدّدة على أرض باحة مدرسة. تهافتت حشود من الناس للتعرّف على أقاربهم. كان المكان يعبق برائحة الموت. بدت على الجثامين المكبّلة الأيدي علامات الإعدام، وكانت في مراحل مختلفة من التحلّل.

الحياة والموت ترافقا في شوارع المدينة وأحيائها. لم يبقَ أيّ شيء كما هو؛ وتغيّرت كلّ الأمور. فالوجوه التي كنت تراها كلّ يوم قد تختفي في الصباح التالي. والشوارع التي كنت تجوبها قد تُمسح في لحظة. كان مستحيلًا توقّع ما قد يحصل.

عندما زرت الرقّة للمرّة الأولى، في 2013، كانت تحت سيطرة المعارضة. بالمقارنة مع حلب، كانت تنبض بالحياة، وضجّت الشوارع والمحلّات بالناس. صحيح أنّ الغارات الجوية كانت تستهدفها، لكن ليس بالكثافة نفسها كحلب. هناك، تعرّفت على مجموعة من النشطاء من جمعية "حقّنا" المحلية للتوعية الحقوقية، وأخذت انطباعًا عن الوضع في الرقّة خلال قضائي الوقت معهم. في بلد تخضع صورته للرقابة والقمع، كُسرت قدسية الرئيس الخالد، ولم يعُد الحديث ضدّه من المحظورات.

أدهشني أنّني لم ألتقِ أبدًا بتلك الشخصيات المستبدّة والمسيطرة، مع ذلك كان تأثيرها على حياتي هائلًا.

في النهاية، أصبح بعض النشطاء لاجئين بينما اعتقلت واختطفت الدولة الإسلامية أصدقاء لم نسمع أخبارهم بعد ذلك.

(المنصورة. 5 مايو 2013. تصوير نور كلزي)

الأرض السوداء

يعاني الاقتصاد في أوقات الحرب، وتطال هذه المعاناة المدنيين بشكل خاص. في المنصورة، وهي بلدة قرب الرقّة، بدأ سكّان كثيرون بمعالجة النفط الخام وتكريره يدويًا. كان الحقل مفتوحًا، وعمل فيه أشخاص من مختلف الأعمار ضمن مجموعات. يمكن أن ينفجر لدى أيّ غلطة. يُسخّن النفط الخام في حاوية كبيرة حتى ينبعث منه الغاز الذي يتكثّف بعدها في خزّانات التبريد. يستخرج العمّال الديزل والبنزين للتدفئة ولتشغيل المركبات والمولّدات.

تخلّف هذه العملية مخاطر طويلة الأمد على البيئة والناس العاملين في حقول النفط. أُصيب كثيرون بحروق وأمراض رئوية، وحتى توفّي البعض.

(حلب. ١٧ أكتوبر ٢٠١٢. تصوير: نور كلزي)

لست فقط المصوّرة إنّما أيضا موضوع الصورة

كانت الحياة تحت القصف والغارات الجوية صعبة. كنت أخشى أن أُدفن تحت الركام بعد غارة جوية، كلّما كنت في المنزل، وألّا يأتي أحد لإنقاذي لأنّهم لا يعرفون أنّني هناك.

كنت أسكن مع زوجي في حيّه. كنّا كثيري التنقّل ونبيت في منازل مختلفة في المدينة والريف وحتى في تركيا. دمّر برميل متفجّر منزلنا، وكان ذلك اليوم من الأيام التي لم نبِت فيها في المنزل. في اليوم التالي، قصدناه مع صديق، وبدا كأنّه في المقلب الآخر من العالم. التقطت الصورة بنفسي.

محمد بدرة: أي كادرٍ سيتسع لنا! (2)

21 آب 2020
ليست كلّ الصور تقع داخل كوادرها، بعضها يقع خارجاً ليصل القلب قبل العين، ويد الطفل مرسومةً وسط عينيَ فأراها في كل شيءٍ، تحاول التقاط الضوء أمام يديَ التي تحاول التقاط...

لم تكُن مهمّتي كمصوّرة محلية سهلة في بيئة عنيفة. في إحدى المرّات، اشتبه الجيش السوري الحرّ بأنّني جاسوسة للنظام، واتّهموني بتسريب صور عن اجتماعات زعمائه إلى النظام، مع أنّني لم أحضر أي اجتماع منها قطّ. كما كنت مطلوبة من النظام بسبب إيماني بحرية التعبير وتوثيقي للجانب الآخر.

مع ازدياد الحرب تعقيدًا وتفاقم الانقسامات العسكرية على الأرض، أصبح التقاط الصور أصعب. فوجود المتطرّفين أعطى النزاع بُعدًا إضافيًا.

حظيت بدعم زملاء وأصدقاء كُثُر، لكن كان من الصعب عليّ التحرّك بحرية والتقاط الصور. كان المتطرّفون والمقاتلون يقتربون منهم (بمَن فيهم زوجي) مرّات عديدة لمناقشة وجودي وملابسي. شعرت أنّني أصبحت عبئًا، ولم أكُن أريد أن أعرّض الناس للخطر كي أستطيع العمل. كنت أكره تلك الأحيان.

أحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير، لكنّ الخطابات المضادّة قد تكون عواقبها وخيمة.

أعادتني أحاديثي الأولى عن سوريا في أوروبا إلى بداية 2011.

من خلال حوارات وجيزة مع ناس في ألمانيا، تعلّمت أنّ البعض لم يعلموا أنّ التظاهرات استُهدفت بالذخيرة الحيّة وقذائف الهاون، أو كانوا يعتقدون أنّ المدن بأسرها تدمّرت. لم يعوا أنّ هناك أشخاص كانوا يحتفلون بانتصار النظام في استعادة المدن، وبمهرجانات الألوان، ويقفون أمام المباني المدمّرة لالتقاط صور زفافهم. وجد القرّاء هنا متابعة الأخبار أمرًا معقّدًا.

قرّر بعض طالبي اللجوء في ألمانيا تبسيط الرواية وملاءمتها مع مناخ وقواعد البلدان المضيفة. كانوا يلومون الدولة الإسلامية على هربهم من البلاد. أعتقد أنّ الخوف من الدولة الإسلامية بغنى عن التفسير أو التفاوض بشأنه. فهو خوف يفهمه الغرب. عملت الدولة الإسلامية على تصدير صورتها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى النظام بمساعدة روسيا. فصوّر النظام سوريا كمكان ملائم للسياحة، واستعمل شخصيات مؤثّرة على الإنترنت لدعم هذه الادعاءات. بالإضافة إلى وجود سوري في "حزب البديل من أجل ألمانيا" الذي يقدّم المناصرة لعودة اللاجئين إلى سوريا آمنة، ثمّة مؤتمر يدعو اللاجئين ظاهريًا إلى العودة وبناء البلد.

إنّ دعم الصحفيين المواطنين في صياغة رواية سوريا هو الأمر الصائب. هذا هو التمكين الذي نحتاج إليه عندما لا نستطيع النشر على قنواتنا الرسمية.

(حلب القديمة. 12 كانون الثاني 2015. تصوير: نور كلزي)

لا يمكن للمرء إلّا أن يتساءل

عندما لا يعود الحديث عن سوريا يتصدّر العناوين الدولية، وتصبح القضية أزمة لاجئين بحتة. وعندما تتوقّف الصور عن قيصر والهجمات الكيميائية وشهادات الناجين عن لفت انتباه كافٍ وتحريك ردّ لتغيير الواقع السوري بسبب السياسة العالمية الراهنة؛ عندها، دعونا نتخيّل تداعيات الغياب المتواصل للأدلّة مقابل الصور التي تنقلها الحكومة السورية وروسيا والمتطرّفون عن البلاد.

لا تزال الحرب مستمرّة، وكذلك المظالم، لكن ما زلنا عاجزين عن تحديد ما إذا كانت الصور قد نجحت في نقل الرواية التي تشرح الوضع في سوريا.

 

مقالات متعلقة

حرب الأطفال: صور أبلغ من الكلمات شرق حلب (3)

25 أيلول 2020
"ما يحزنني هو أنّني لم أعُد أستطيع إنقاذ الناس بالطاقة والحيوية نفسها كالسابق". هذا ما يقوله نور الذي خسر رجله خلال هجوم بالبراميل المتفجرة خلال عمله كمسعف، مؤكدا أن كلمة...
الصورة والمصوّر: ربّما حان الوقت لنمتلك ذواتنا (4)

17 تشرين الأول 2020
رغم فداحة ما جرى ويجري، من زاوية توثيقيّة تأريخيّة، فإن السؤال الأكبر في قضيّة رواية القصّة السوريّة وتمثيل من يعيشونها بها هو: "من الراوي؟" من يتخذ منبراً ويسرد قصّة المجموعة؟...
تركيا تكتشف الفنانين السوريين

08 كانون الثاني 2017
هجرة السوريين (أو تهجيرهم) الكثيفة نحو الخارج خلقت واقعا جديدا في عدد من دول اللجوء، حيث حمل هؤلاء خبراتهم إلى أراض جديدة وبدؤوا من الصفر. الفنانون السوريون، جزء من الشعب...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد