القتل... وإثبات الجريمة


"من خلف كتفيه انبثق ضوءٌ أصفر على حائطٍ قذر فأكسبهُ الرخص والاعتلال. وثبت على عُنق الرجل، وغرزت المنجل في عنقه. وعندما سقط على أرض النفق، أدركت أنّه السجان الذي قام بتعذيبي في أقبية المخابرات". هنا نص ساحر وآخاذ للمخرج السوري عروة المقداد، يناقش فيه مسألة القتل والجريمة داخل سياق الثورة السورية.

12 كانون الأول 2020

عروة المقداد

مخرج سوري له عدد من الأفلام، آخرها "300 ميل".

كانت يديَّ ترتعشان عندما صَحوت من كابوسٍ مرعبٍ داهم غفوتي القصيرة بعد مُنتصفِ الليل. غرست المنجل الصدئ في عنق رجل اتخذ شكل وجهه ملامح غائمة. بذلت عدّة طعناتٍ لأقطع أوداجه، فنفر الدم من أوردته ملطخاً وجهي ليستحيل كل شيء إلى اللون الأحمر.

قبل ذلك، كان لون السماء بالأبيض والأسود، ثم تضاءلت على نفسها لتتحوّل إلى نفق طويل مظلم كان يسيرُ فيه الرجلٌ ذي الملامح الغائمة. ومن خلف كتفيه انبثق ضوءٌ أصفر على حائطٍ قذر فأكسبهُ الرخص والاعتلال. وثبت على عُنق الرجل، وغرزت المنجل في عنقه. وعندما سقط على أرض النفق، أدركت أنّه السجان الذي قام بتعذيبي في أقبية المخابرات. أمضيت كما جميع الناجين من المعتقل رحلة هروب يومية في الكوابيس والأحلام من لحظة الاعتقال التي يعقبها تعذيبٌ مريع، عادة ما يُنجينا من ألمه صحوٌّ مذعور.

القتل... مسألة قانونية أم أخلاقية؟

جولة في السجون.. الحرية والموت معا

26 حزيران 2018
حين تلّقى أبو صبري خبر إطلاق سراحه كان في مهجعه يستعد لتناول الطعام. حدث ذلك فجأةً، دخل الشرطي الذي يعرف أبو صبري لطول العشرة في السجن، وجده يأكل، لم يجد...

لم أتخيل مُنذ قرأت رواية "الجريمة والعقاب" قبل ثلاثة عشر عاماً، خلال السنة الوحيدة من دراستي للقانون، حيث كانت مادة العقوبات الجنائية تفترض الجريمة كمسألة على رجل القانون حلها، أنَّ مسألة القتل ستتحول إلى واحدة من أكثر المسائل إشكالية في مأساة الثورة السورية. إذ أنّ القتل الجماعي الممارس من طرف تجاه طرف كان مسألة قانونية لا أخلاقية تحتاج إلى الكثير من التدقيق الجنائي والتقارير الصحفية والشهادات، كان فيه التوثيق الغير مسبوق في التاريخ الحديث للجريمة مسالة إجرائية فقط. نحن نعرف القتلة لكننا لا نستطيع إدانتهم. وحتى الإدانة لا توجب تحقيق العدالة. فالإدانة مسألة وصفية تحتمل تعدّد وجهات النظر. يستطيع القتلة المحترفون فهم ضبابية الإدانة في الجريمة. فالقانون لا يسعى لإلغاء الجريمة، لكنه يسعى إلى تنظيمها. والدولة هي القادرة على توصيف الجريمة وإدانتها، وتمتلك القوة لتفعيل الإدانة وتحويلها إلى عدالة إجرائية.

أسئلة إشكالية: هل رأيت القتيل بنفسك؟

منذ انطلاق الثورة قبل عشرة أعوام أثيرت الكثير من النقاط الإشكالية حول مسالة "القتل". لقد بدأت الأسئلة المحيّرة تُطلق على من وقعت عليهم الجريمة. هل رأيت القتيل بنفسك؟ هل رأيت من قام بقتله؟ هل تستطيع إثبات التاريخ الذي وقعت فيه الجريمة؟ هل تستطيع إثبات مكانها؟ هل حقاً هؤلاء القتلى قتلوا في المعتقلات؟ كيف نستطيع إثبات طريقة قتلهم؟ ساعة قتلهم؟ من نفّذ القتل؟ أهو الضابط؟ السجان؟ الشبيحة؟

طُولب من وقعت عليهم جرائم متعددة المستويات من قبل أبناء الوطن والمنظمات الحقوقية والمدنية والهيئات الحكومية إثبات وقوع الجريمة!

طُولب من وقعت عليهم جرائم متعددة المستويات من قبل أبناء الوطن والمنظمات الحقوقية والمدنية والهيئات الحكومية إثبات وقوع الجريمة. وفي كل مرة تتفاقم فيها الجريمة المرتكبة تُطرح هذه الأسئلة بصيغ مختلفة. حتى الدول العظمى والفاعلة على الساحة الدولية، سعت لإدانة الجريمة لكن التحرّك تجاه إحقاق العقوبة كان يصطدم بالكثير من الأسئلة التقنية السابقة الذكر، والتي كانت الذريعة لعدم التحرّك نحو الجريمة.

ما هو القتل؟

مع كل أنواع القتل الممارس منذ انطلاق الثورة تصبح مسألة القتل مسألة ضبابية، فما هو القتل؟ هو سلب الحياة بشكل إكراهي، سواء عن طريق العمد أو الخطأ. لكن ما الذي يجعل القتل مسألة رهيبة وهو موجود في مختلف أشكال الحياة؟ ما هو الدافع الذي يجعلنا نسعى كل ذلك السعي في الدفاع عن الحياة؟ إن الحياة كنمط إدراكي تجعلنا نفهم أن فرصة وجودنا هي فرصة استثنائية. وقد ساعدنا إنتاج اللغة على فهم ندرة اللحظة التاريخية في سياقنا الكوني. إذا ثمّة (معنى) للحياة وهذه (المعنى) يدفعنا لأقصى درجات الحرية في فهم (المعنى) وإنتاجه ذاتياً. لذا يتخذ (قتل المعنى) أحد أشنع الأساليب التي تمارسها الأنظمة في العالم للتحكم في حياة الناس، لكن الأنظمة الفاشية تستطيع المضي أبعد في قتل المعنى الفكري والجسدي.

التعوّد على الجريمة هو جزء من أركانها لذا نحن متورطون وشركاء في الجريمة، ذلك ما يجعلنا نفقد الاهتمام تدريجياً

لطالما تساءلت وأنا في المعتقل لماذا يصرّ السجان على التعذيب بتلك الوحشية؟ ما الذي يدفعه الى إبطاء الألم وإطالته؟ لماذا لا يقوم بقتل سريع لينهي ويتخلّص من معارضيه؟ إنّ تسريب كلّ تلك الصور الفظيعة عن القتل بواسطة التعذيب إنما مردّه الأساسي لقتل المعنى، ذلك ما يمارسه بشكل مختلف الإعلام والأنترنت في توصيف الجريمة، فنقل الصور والفيديوهات عن الجريمة المرتكبة يعطيها قابلية التعوّد. يحاول النظام قتل المعنى الداخلي لدى المعتقل ومن ثم يقتل المعنى لدى ذوي المعتقل، ولدى الجمهور الذي يتابع فعل القتل بمختلف أشكاله، وهو بذلك يحوّل معنى امتلاك الحرية، لمعنى استلاب الحياة. التعوّد على الجريمة هو جزء من أركانها لذا نحن متورطون وشركاء في الجريمة، ذلك ما يجعلنا نفقد الاهتمام تدريجياً، فالبصلة الممدودة لنا من الجنة لتنقذنا جميعاً إنما نقطعها رغبة بالنجاة الفردية من ذلك الجحيم على حساب الآخرين.

محاكمة الجريمة لن تتم 

في مفهومي "الحرب الأهلية" و"الثورة" في سوريا

15 آذار 2020
يرفض معظم مؤيدي النظام ومعارضيه أو الثائرين عليه، معًا، وسم "الحرب الأهلية"، لكن في حين يتحدث معظم المؤيدين عن "المؤامرة الكونية على سوريا" و"الحرب على الإرهاب"، يصر معظم المعارضين على...

لقد بدا جلياً إبان المظاهرات السلمية أنّ محاكمة الجريمة لن تتم. شكلت تلك الحقيقة الضمنية مع استمرار تصاعد القتل صدمة جعلت عدد كبير من المنخرطين في الثورة في حالة ذهول تام. منذ بدأت الجرائم تتملص من توصيفها القانوني على المستوى الدولي، والتملّص من إجراءات المحاكمة التي تقتضي على أقل تقدير إيقاف هذا القدر من الإجرام المنظم، بدا واضحاً أنّ المواجهة، إنما هي مع عصابة لا قوانين أخلاقية تحكمها.  ومع قيام هذه العصابة التي تتخذ شكلاً قانونياً تحت مسمّى الدولة بقصف الأحياء الثائرة بالطيران، اتخذت العدالة مجرى في غاية السريالية، حيث احتدم النقاش على المستوى السوري حول توصيف الجريمة بين التأكيد على المسار السلمي الذي يعني الاستسلام الكامل للجريمة وبين تحوّل العدالة من عدالة قانونية على المستوى السوري أو الدولي إلى عدالة فردية. عند هذه المرحلة تحوّل القتل إلى حالة من (الدفاع عن النفس)، استثمر فيها النظام والمجتمع الدولي عبيثة توصيف الجريمة المرتكبة في إطار التسميات بين الحرب الاهلية وحرب الطرفين والصراع. لتسقط الجريمة الأساسية لا بقعل التقادم، وإنما بفعل توصيف الجريمة.

الجريمة الأولى...

تجارة الاعتقال في سجون ومعتقلات النظام السوري

16 نيسان 2020
هل يمول ذوو المعتقلين والمختفين قسرياً المؤسسات الأمنية التي تسلبهم أبنائهم؟ للإجابة عن هذا السؤال، اعتمد هذا التحقيق على تقصّي حالة مئة مواطنة ومواطن سوريين ممن تعرّضوا للاعتقال أو الإخفاء...

أستطيع تذكر الجريمة الأولى التي شاهدتها بوضوح شديد، وأجد أنني أُذكر نفسي دائماً بتلك الجريمة لأضع (القتل) في سياقه الغير عادي. وإخراجه من الحالة الضبابية التي اكتنفت سلسلة الجرائم المرتكبة منذ انطلاق الثورة.

تحت السماء الرمادية لشهر آذار، وفيما كان آلاف من الشباب يهتفون كأنهم خرجوا للتو من الموت إلى الحياة (حرية). سقط شاب في العشرين من عمره بطلقة رشاش كلاشنكوف صناعة روسية. ثُبّتَ أخمص الرشاش على الكتف، بدم بارد وبقرار واضح ووعي كامل على مختلف مستويات الدولة جاء الأمر بإطلاق النار. استقرت الرصاصة في جسد الشاب الناحل وأردته على الأرض. فتحت ثقبا ناعما في بطنه. تدفق الدم من الفوهة الصغيرة. حدق الشاب في وجهي الملتصق إلى الأرض قربه. علا حاجباه دهشةً طفولية.  جرّ رأسه على الإسفلت حائراً، لم يفهم ولم أفهم لماذا حدث ذلك. غامت ملامح وجهه الرقيقة. كان شاباً في العشرين من عمره أسمر البشرة، بشاربين خفيفين وعيون سوداء فاحمة. أغلق عينيه وأسلم الروح.

لقد قتل الشاب.

مقالات متعلقة

ناجية من الاعتقال.. لم تنجو من المجتمع

29 أيلول 2018
إنّ استغلال أجهزة المخابرات السورية لمفهوم الشرف في قضية اعتقال النساء، بشكل واعي ومقصود، دفع نسبة كبيرة من الأهالي، بشكل غير واعي وغير مقصود، للتعامل مع بناتهم ونسائهم على أساس...
تزييف العدل...

08 أيلول 2020
يعتقد كثير منّا أنّ النظام يعمل كأي عصابة أو ميليشيا منفلتة عند ممارسة الاعتقال والإخفاء القسري. ذلك صحيح على مستوى العلاقة المباشرة التي كرّسها النظام في مواجهة مواطنيه المعارضين أو...
عن السجن.. تجربة وكتابة

18 شباط 2020
هل سوريا وحدها سجنا؟ ألم يتحول العالم بأسره إلى سجون؟ ألا تدير الاستخبارات الأميركية مئات السجون في أماكن متعددة من العالم تحت ذريعة "مكافحة الإرهاب"؟ ألم تعود سياسة رفع الأسوار...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد