(هذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن التصوير السوري والمصورين السوريين. بتمويل من مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية)
في العام 2015، كنت أكمل برنامجًا لمدّة سنة في "المركز الدولي للتصوير" في نيويورك. كنت أحمل تأشيرة طلّابية مؤقتة للعام الدراسي في الولايات المتحدة، وكنت دائمًا أطمئن نفسي وأصدقائي السوريين عندما يسألونني عن مخطّطاتي للمستقبل قائلةً: "بالطبع سأعود!".
ذلك العام، تسلّطت أنظار العالم على صورة واحدة: الجثة الهامدة للطفل آلان كردي (3 سنوات) التي ألقاها الموج على شاطئ تركي.
بعد بضعة أيام، وصلت إلى إسطنبول مع صديق، وهو مصوّر من كولومبيا وطالب زميل في المركز الدولي للتصوير. أمضينا الأيام العشرين التالية في التنقّل بين إزمير وبودروم وإسطنبول. قابلت أشخاصًا كانوا قد باعوا كلّ قطعة ذهب وأثاث لديهم لدفع أجرة مكان على قارب مطاطي مكتظّ يحملهم إلى بلد جديد، حيث يمكنهم فتح صفحة جديدة. أردت أن أتعمّق أبعد في التغطية من مجرّد ما رأيته وأبيّن أنّ "أزمة اللاجئين" سياسية. فالتغطية اللاسياسية لن تحقّق العدالة. أردت أن أظهر أنّنا لسنا مجرّد أرقام، ولسنا أمّة مفقّرة وجائعة. نحن جياع، نعم، لكن لحسّ العدالة والتحرّر من القمع، وهذه الانتفاضة كانت بالفعل سياسية. لم نكُن نريد الشفقة، إنّما الاحترام.
اختلفت أسباب فرار الناس من سوريا. فالأغلبية هربت من الفظائع التي ارتكبتها الحكومة السورية، بينما هرب آخرون من التجنيد الإجباري، حتى أنّ البعض فرّ من تركيا التي كانت وجهة اللجوء الأولى.
سكن هناك مليونا لاجئ بحلول 2015، لكنّ تركيا لم تصنّفهم كـ "لاجئين" حتى. كان السوريون "زائرين" ويُتوقّع منهم أن يعودوا إلى ديارهم.
كان مَن وصل إلى بلد في غرب أوروبا لبدء حياة جديدة محظوظًا. غرق آخرون في البحر المتوسّط، وطفت جثامينهم المزرقّة والمنتفخة على شواطئ المنتجعات البحرية في تركيا واليونان. وباتت عائلات كاملة تضمّ طفلًا حديث الولادة، ومتزوّجين حديثًا، مجرّد أرقام تُذكر في التصريحات الرئاسية اليومية أو تظهر في الصور المستعملة في تقارير حقوق الإنسان.
كانت أوائل أكتوبر/ تشرين الأوّل عندما مشيت ذهابًا وإيابًا على شواطئ بودروم، تلك الشواطئ نفسها التي لفظ عليها آلان كردي أنفاسه الأخيرة. في الرقعة التي وُجد فيها، تركت صديقي وجلست على صخرة رطبة. تصفّحت دفاتر كانت قد جرفتها المياه على الشاطئ وفتّشت في الملابس والأحذية والألعاب. كانت هذه الأغراض الأخيرة، أغراض مليئة بالذكريات، رُميت قبل أن يبحر أصحابها. لم يكُن المكان يتّسع للأمتعة. ترك الناس حياة كاملة، آملين أن يبلغوا وجهة ما لبدء حياة جديدة.
في هذه اللحظة، اتّضح لي واقعي: إذا كانت أم مستعدّة للمخاطرة بحياة طفلها لعبور مياه البحر والوصول إلى أرض جديدة آمنة، لا بدّ أنّ سوريا باتت غير صالحة للحياة. لا يهمّ ما كنت أقول لنفسي وللآخرين عندما كانوا يسألونني عن التماس اللجوء في الولايات المتحدة، وقناعتي المتجذّرة بأنّني، بطريقة أو بأخرى، يومًا ما، سأعود إلى سوريا. فالواقع هو أنّني لن أعود. فلا شيء أعود إليه. سوريا اختفت.