الاجتثاث… سوريا اختفت! (6)

"لن أعود. فلا شيء أعود إليه.."


"أردت أن أتعمّق أبعد في التغطية من مجرّد ما رأيته وأبيّن أنّ "أزمة اللاجئين" سياسية. فالتغطية اللاسياسية لن تحقّق العدالة. أردت أن أظهر أنّنا لسنا مجرّد أرقام، ولسنا أمّة مفقّرة وجائعة. نحن جياع، نعم، لكن لحسّ العدالة والتحرّر من القمع، وهذه الانتفاضة كانت بالفعل سياسية. لم نكُن نريد الشفقة، إنّما الاحترام"، هذا ما تقوله لحكاية ما انحكت، المصوّرة لبنى مرعي في شهادتها عن التصوير ودوره.

15 كانون الأول 2020

(منظر جزيرة كوس من شاطئ في شبه جزيرة بودروم في تركيا. أكيارلار، تركيا. 26 سبتمبر/ أيلول 2015. © لبنى مرعي)
لبنى مرعي

مصوّرة، وصحفية، وكاتبة سورية. تولّت تغطية الحرب السورية كمصوّرة صحفية لدى رويترز بين 2012 و2014. نُشرت أعمالها في "ذو نايشن"، "تايم ماغازين"، "فايس"، و"ذو نيو ريبابلك". تعمل حاليًا على كتابها الأوّل عن الحرب في سوريا لدار نشر "بنغوين راندم هاوس".

(هذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن التصوير السوري والمصورين السوريين. بتمويل من مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية)

في العام 2015، كنت أكمل برنامجًا لمدّة سنة في "المركز الدولي للتصوير" في نيويورك. كنت أحمل تأشيرة طلّابية مؤقتة للعام الدراسي في الولايات المتحدة، وكنت دائمًا أطمئن نفسي وأصدقائي السوريين عندما يسألونني عن مخطّطاتي للمستقبل قائلةً: "بالطبع سأعود!". 

ذلك العام، تسلّطت أنظار العالم على صورة واحدة: الجثة الهامدة للطفل آلان كردي (3 سنوات) التي ألقاها الموج على شاطئ تركي.

(لاجئون يأخذون قيلولة في محطة الباص حيث انتظروا من دون جدوى طريقة أكثر أمانًا للعبور إلى اليونان في طريقهم إلى أوروبا الشمالية. اسطنبول، تركيا. 16 سبتمبر/ أيلول 2015. © لبنى مرعي)

 بعد بضعة أيام، وصلت إلى إسطنبول مع صديق، وهو مصوّر من كولومبيا وطالب زميل في المركز الدولي للتصوير. أمضينا الأيام العشرين التالية في التنقّل بين إزمير وبودروم وإسطنبول. قابلت أشخاصًا كانوا قد باعوا كلّ قطعة ذهب وأثاث لديهم لدفع أجرة مكان على قارب مطاطي مكتظّ يحملهم إلى بلد جديد، حيث يمكنهم فتح صفحة جديدة. أردت أن أتعمّق أبعد في التغطية من مجرّد ما رأيته وأبيّن أنّ "أزمة اللاجئين" سياسية. فالتغطية اللاسياسية لن تحقّق العدالة. أردت أن أظهر أنّنا لسنا مجرّد أرقام، ولسنا أمّة مفقّرة وجائعة. نحن جياع، نعم، لكن لحسّ العدالة والتحرّر من القمع، وهذه الانتفاضة كانت بالفعل سياسية. لم نكُن نريد الشفقة، إنّما الاحترام.

(لاجئون يفترشون مخيّمات مؤقتة في ساحة في وسط إزمير في تركيا. 20 سبتمبر/أيلول 2014. © لبنى مرعي)

اختلفت أسباب فرار الناس من سوريا. فالأغلبية هربت من الفظائع التي ارتكبتها الحكومة السورية، بينما هرب آخرون من التجنيد الإجباري، حتى أنّ البعض فرّ من تركيا التي كانت وجهة اللجوء الأولى.

سكن هناك مليونا لاجئ بحلول 2015، لكنّ تركيا لم تصنّفهم كـ "لاجئين" حتى. كان السوريون "زائرين" ويُتوقّع منهم أن يعودوا إلى ديارهم.  

كان مَن وصل إلى بلد في غرب أوروبا لبدء حياة جديدة محظوظًا. غرق آخرون في البحر المتوسّط، وطفت جثامينهم المزرقّة والمنتفخة على شواطئ المنتجعات البحرية في تركيا واليونان. وباتت عائلات كاملة تضمّ طفلًا حديث الولادة، ومتزوّجين حديثًا، مجرّد أرقام تُذكر في التصريحات الرئاسية اليومية أو تظهر في الصور المستعملة في تقارير حقوق الإنسان.

(ساحة في حيّ بسمان في وسط إزمير، حيث ينتظر اللاجئون مع أمتعتهم نداءً من المهرّبين. إزمير، تركيا. 20 سبتمبر/ أيلول 2015. © لبنى مرعي)

كانت أوائل أكتوبر/ تشرين الأوّل عندما مشيت ذهابًا وإيابًا على شواطئ بودروم، تلك الشواطئ نفسها التي لفظ عليها آلان كردي أنفاسه الأخيرة. في الرقعة التي وُجد فيها، تركت صديقي وجلست على صخرة رطبة. تصفّحت دفاتر كانت قد جرفتها المياه على الشاطئ وفتّشت في الملابس والأحذية والألعاب. كانت هذه الأغراض الأخيرة، أغراض مليئة بالذكريات، رُميت قبل أن يبحر أصحابها. لم يكُن المكان يتّسع للأمتعة. ترك الناس حياة كاملة، آملين أن يبلغوا وجهة ما لبدء حياة جديدة.

(من بين المقتنيات القليلة، يحمل أحمد العبدو مفاتيح منزله في إدلب. إسطنبول، تركيا. 7 سبتمبر/ أيلول 2015. الصورتان © لبنى مرعي)
(آثار خلّفها اللاجئون على بحر في تشيشمي في إزمير التي كانت نقطة انطلاق إلى جزيرة تشيوس اليونانية على بعد أقلّ من عشرة أميال. تشيشمي، تركيا. 24 سبتمبر /أيلول 2015)

في هذه اللحظة، اتّضح لي واقعي: إذا كانت أم مستعدّة للمخاطرة بحياة طفلها لعبور مياه البحر والوصول إلى أرض جديدة آمنة، لا بدّ أنّ سوريا باتت غير صالحة للحياة. لا يهمّ ما كنت أقول لنفسي وللآخرين عندما كانوا يسألونني عن التماس اللجوء في الولايات المتحدة، وقناعتي المتجذّرة بأنّني، بطريقة أو بأخرى، يومًا ما، سأعود إلى سوريا. فالواقع هو أنّني لن أعود. فلا شيء أعود إليه. سوريا اختفت.

 

مقالات متعلقة

سوريا تحت المجهر: البداية (1)

28 تموز 2020
"سوريا تحت المجهر" مشروع جديد تطلقه حكاية ما انحكت تحت إدارة المصورة سيما دياب، يهدف إلى تفكيك الصور ودراسة السياق الذي التُقطت فيه، وفي بعض الأحيان، السياق الذي نُشرت فيه...
محمد بدرة: أي كادرٍ سيتسع لنا! (2)

21 آب 2020
ليست كلّ الصور تقع داخل كوادرها، بعضها يقع خارجاً ليصل القلب قبل العين، ويد الطفل مرسومةً وسط عينيَ فأراها في كل شيءٍ، تحاول التقاط الضوء أمام يديَ التي تحاول التقاط...
حرب الأطفال: صور أبلغ من الكلمات شرق حلب (3)

25 أيلول 2020
"ما يحزنني هو أنّني لم أعُد أستطيع إنقاذ الناس بالطاقة والحيوية نفسها كالسابق". هذا ما يقوله نور الذي خسر رجله خلال هجوم بالبراميل المتفجرة خلال عمله كمسعف، مؤكدا أن كلمة...
الصورة والمصوّر: ربّما حان الوقت لنمتلك ذواتنا (4)

17 تشرين الأول 2020
رغم فداحة ما جرى ويجري، من زاوية توثيقيّة تأريخيّة، فإن السؤال الأكبر في قضيّة رواية القصّة السوريّة وتمثيل من يعيشونها بها هو: "من الراوي؟" من يتخذ منبراً ويسرد قصّة المجموعة؟...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد