لم أعد أذكر متى وأين التقيت بالأستاذ خليل معتوق للمرة الأولى، لكنني أذكر أنّه قد أصبح صديقًا عزيزًا قريبًا إلى نفسي حيث لم أعد أطيق فراقه طويلًا لذا كنت أسعى إلى لقائه بين الفينة والأخرى؛ أتصل به، أسأله عن حاله عن صحته التي حدّت من حركته لضعفٍ في عمل الرئتين بسبب تليّف في مراحل متقدمة. أطلب منه موعدًا، نتفق أمام المحكمة أو أمام مرآب سيارات حتى ننطلق سويًا إلى الوجهة التي تناسبنا، في الغالب "مقهى الحجاز" حيث الفُسحة السماويّة التي تسمح بتحرك الهواء وتجدّده كي لا تضغط روائح المعسّل والعجمي وروائح السجائر من كلّ صنف ولون على صدره المتعب. في أغلب المرات أكون الواصل الأول. أنتظره، أراقب الساعة، تأخر، هل من مشكلة؟ أبدأ بالاتصال بالهاتف، "وينك يا زلمي وين صرت؟" يرد "زحمة سير جاي دقائق وأكون عندك".
تتفتت الدقائق، تتفلت من بين أيدينا، لم يصل بعد، ليس مرور الوقت ما يقلقني بل خوفي عليه وشوقي لابتسامته وللقبلة على الخد نطبعها لبعضنا. وصل، لم يكن وحيدًا معه شخص طويل الشعر أشيَبُه، الابتسامة الصغيرة، القبلة السريعة والتعارف: محمد ظاظا صديق وجار تطوّع لقيادة السيارة من البيت إلى وسط البلد. أهلًا أخي محمد، جهودكم مشكورة، "خليل بيستاهل تضامننا كلّنا لأنّو إلو سنين عم يتضامن مع كلّ المعتقلين دون تمييز أو فرز". شاي، قهوة، زهورات ويبدأ الحديث، دعاوى المعتقلين، زيارتهم في السجن، وكالات، طلبات إخلاء سبيل، قضايا بالعشرات. يمضي الوقت، محمد ظاظا مستمع قليل الكلام، حضوره مريح، لا يُقحم نفسه في أحاديث ليس له صلة أو معرفة بها. يتحفز خليل للنهوض، "عندي حضور تحقيق"، "عندي سؤال عن إخلاء سبيل"، "عندي تنظيم وكالة"... مهمات لا تنتهي. انقطعت لقاءاتنا، اعتقل خليل، اعتقل الذي سعى لإطلاق آلاف المعتقلين، اعتقلت بسمته الرشيقة وضحكته المجلجلة، لسنوات لم ألمح طلته وابتسامته ولم يتلقَ خدي قبلته.
أمضى الأستاذ خليل عشرين عامًا من حياته المهنيّة في القيام بمهمة خطرة وحساسة: الدفاع عن المعتقلين السياسيين في مناخ غير دستوري أو قانوني حيث حالة الطوارئ والأحكام العرفيّة المفروضة على البلد دون انقطاع منذ العام 1963.
لم يكن الأستاذ خليل معتوق مجرّد محام يتنقل بين مكتبه والمحاكم بأنواعها، أمن الدولة، محكمة الجنايات، المحكمة العسكريّة، كما هو حال المحامين التقليديين، يقابل الموكّلين يعدّ الدفوع ويترافع أمام المحاكم؛ فقد أضاف إلى التزامه بالقانون واحترامه لسبل التقاضي النزيه تبنيه لقضايا المعتقلين السياسيين تجسيدًا لإيمانه بحق الشعب بالمطالبة بحقوقه الدستوريّة والقانونيّة وفي ممارسة حرياته العامة والخاصة وفي سيادة المساواة والعدالة الاجتماعيّة وحقه بالتعبير عن تطلعاته في حياة أفضل سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. قاده التزامه إلى الاستقالة من الحزب الشيوعي السوري لإيمانه بضرورة الفصل بين العمل الحقوقي والمواقف السياسية والخلفيات العقائديّة؛ وليتحرر من القيود الحزبيّة والتحرك بوحي قناعاته الشخصيّة دفاعًا عن معتقلي الرأي والضمير، وإلى الانخراط في أطر حقوقيّة، هدفها تبادل الخبرات وتعزيزها وحشد الطاقات وتنسيق العمل وتوزيع الأدوار، ولجهوده وخبراته احتل موقع الرئاسة في هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير وفي المركز السوريّ للدفاعِ عن سجناء الرأي، ومدير المركزِ السوري للدراسات والبحوث القانونيّة. وهذا أهّله كي تمنحه منظمة "محامون من أجل المحامين" الهولنديّة، وهو في معتقله، جائزة المركز الثاني تقديرًا لما قام به طوال عقدين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان.
أمضى الأستاذ خليل عشرين عامًا من حياته المهنيّة في القيام بمهمة خطرة وحساسة: الدفاع عن المعتقلين السياسيين في مناخ غير دستوري أو قانوني حيث حالة الطوارئ والأحكام العرفيّة المفروضة على البلد دون انقطاع منذ العام 1963؛ والتي أضعفت دور المحامي ووضعته تحت التهديد، كان القاضي في محكمة أمن الدولة، فايز النوري، يمنع المحامين من الكلام وقد حصل وطرد المحاميّة رزان زيتونة من قاعة المحكمة لأنّها كانت تترجم ما يقال لألمانيّة بجانبها ومنعها من الدخول وحرمها والتوكل للترافع أمامها، وما زاد حساسيتها تطوّع الأستاذ خليل للدفاع عن كلّ معتقل دون النظر في خلفيته السياسيّة، إسلامي، ديمقراطي، يساري، أو هويته القوميّة، عربي، كردي، سرياني، شركسي ..الخ. فقد دافع عن معتقلين من كلّ المحافظات والأوساط السياسيّة والعقائديّة من الناشطين الكرد في انتفاضة عام 2004، إلى معتقلي إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي عام 2007 مرورًا بمعتقلي إعلان دمشق بيروت، بيروت دمشق عام 2006، ومنهم ميشيل كيلو ومشعل تمو وأنور البني وعلي العبدالله وآخرون، وأفراد من خارج الأطر السياسيّة المعروفة مثل طل الملوحي، تلك الفتاة القاصر التي عاقبها النظام على آراء نشرتها بتلفيق تهمة التجسس لحساب دولة معاديّة وحكم عليها قضاؤه التابع بالحبس لمدة خمس سنوات ولم يخل سبيلها رغم انقضاء فترة محكوميتها، وعن شباب من قطنا والعتيبة والعبادة في ريف دمشق ومن محافظتي حماة وحلب تحمسوا للقتال ضد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، اعتقلهم النظام في سياق حساباته للتقرّب من الولايات المتحدة. لم يكتف بالتطوع للدفاع عن المعتقلين بل ودفع في أحيان كثيرة رسوم الوكالة لمعتقلين لا يملكون مالًا، شهد ذلك كاتب هذه السطور أمام محكمة أمن الدولة؛ سيئة الصيت؛ مرات عديدة. وهذا عرّضه لضغوط أمنيّة من قبل أجهزة المخابرات التي استدعته مرارًا لثنيه عن التطوع للدفاع عن المعتقلين ومنعته من السفر من عام 2005 حتى عام 2011.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011 زادت أعباؤه في ضوء تزايد عدد حالات الاعتقال والاختطاف من الشوارع حيث فتح مكتبه لأهالي المعتقلين والمفقودين في تحد مباشر للنظام وأجهزته القمعيّة، ظاهرة غير معهودة في الحياة العامة السوريّة، فقرر النظام إنهاء ظاهرته باعتقاله وإخفائه. وهذا دون أن ننسى ما قدمه من خدمات لمنظمات المجتمع المدني؛ خبرات وملاحظات ومسعى لتقريبها من بعضها وإقناعها بالتعاون والتنسيق الميداني لما فيه من تجميع للإمكانيات وتعظيم للفرص وتحقيق نتائج كبيرة بكلف ومدد زمنية معقولة.
التقطت هذه الصورة في منزل ميشيل كيلو في يوم الإفراج عن رياض الترك في السادس عشر من شهر تشرين الثاني من العام ٢٠٠٢
يظهر في الصورة من اليمين إلى اليسار معاذ حمور، رياض الترك، علي العبدالله (في الخلف)، ميشيل كيلو (جالسًا) وديعة كيلو، مي الرحبي، جاد الكريم جباعي، فايز سارة (في الخلف)، خليل معتوق
اختطف الأستاذ خليل وصديقه وجاره محمد ظاظا، الذي كان يقود السيارة في الذهاب والإياب، صباح يوم 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2012، أثناء توجهه من منزله في صحنايا، إحدى ضواحي العاصمة دمشق، إلى مكتبه في العاصمة، دمشق، ولم يعرف عنهما أيّ خبر في ضوء إنكار أجهزة مخابرات النظام وجوده لديها أو معرفتها بما حلّ به، علما بأنّه قد اختفى على الطريق الواصل بين ضاحية صحنايا ومدينة دمشق حيث تنتشر حواجز قوات النظام وميليشياته، وقد ترتب على إنكارها عدم تقديم أي معلومة عن مكان اعتقاله أو عن حالته الصحيّة أو السماح لأسرته الصغيرة، زوجه وابنهما مجد وابنتهما رنيم، بزيارته، أو تقديمه للمحكمة. ومن يومها، أيّ منذ ثماني سنوات ونيف، وأسرته وأهله وأصدقائه يتسقطون أخباره من الخارجين من أقبيّة المخابرات ومراكز اعتقالها علّهم يعرفون خبرًا عن مكان اعتقاله وعن حالته الصحيّة، وقد أكد معتقلون مفرج عنهم وجوده في أحد فروع المخابرات.
يستحق الأستاذ خليل معتوق؛ بما قدمه من جهد في سبيل حريّة المعتقلين وما بذله لأجل نشاط حقوقي قانوني مهني ومنسق، أن يبقى في الذاكرة.
اختطاف الأستاذ خليل وإخفاؤه طوال هذه الفترة يعيدنا إلى عمليات خطف وإخفاء كثيرة طالت مئات الآلاف من المتظاهرين الذين تدفقوا إلى الشوارع في كل المحافظات السوريّة ليعبروا عن موقفهم من نظام الاستبداد والفساد ويطالبوا بحقوقهم في الحريّة والكرامة ونصيبهم في الثروة والقرار الوطني، كما تمّ اختطاف قيادات سياسيّة معارضة، عبدالعزيز الخير فايق المير رجاء الناصر وآخرون، كما يعيدنا إلى النضال المرير الذي بذله الأستاذ خليل وعشرات المحامين الشجعان من أجل حريّة المعتقلين وحقهم في محاكمة نزيهة وقانونية وكشف التجاوزات والانتهاكات وما يدور في قاعات المحاكم أمام الرأي العام المحلي والدولي، المحاكم التي لا تلتفت للأدلة والقرائن؛ تدار بأجهزة التحكّم عن بعد؛ تصدر أحكامًا بتعليمات من أجهزة المخابرات؛ وتلاعب المنظمات الدوليّة عبر ترتيب عمليات تقاضى أمام محكمة أمن الدولة والجنايات والعسكريّة بحضور مراقبين من السفارات الغربية لأفراد من المعارضين السياسيين ولعشرات الجهاديين حتى تعطي انطباعًا للمراقبين أنّ الدولة مستهدفة من الجماعات الإرهابيّة وأن انتقادهم لها ومعاقبتها على خلفية انتهاكها لحقوق الإنسان بحق ناشطين قلائل يضعفها أمام هؤلاء الجهاديين ويدفعها للسقوط في أيديهم ويجعلها عرضة للتحول إلى أفغانستان ثانية.
يستحق الأستاذ خليل معتوق؛ بما قدمه من جهد في سبيل حريّة المعتقلين وما بذله لأجل نشاط حقوقي قانوني مهني ومنسق، أن يبقى في الذاكرة وأن تبقى قضيته على جدول أعمال المعارضة، أفرادًا وجماعات، وأن تستمر حملات التذكير به والمطالبة بالكشف عن مصيره وإطلاق سراحه.