(هذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن التصوير السوري والمصورين السوريين. بتمويل من مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية)
في العديد من الأماكن في حلب وريفها كان بعض الناس عندما يرون الكاميرا بين يدّي، يسألونني: لماذا تصوّر؟!
الكثير كان يسأل غاضباً والبعض مستفسراً. وكنت أجيب دوما وباختصار "من أجل أن يرى العالم في الخارج ما يحصل هنا".
غالباً ما كان هذا الجواب يزيد من غضبهم أكثر ليردّوا بسرعة: "وهل يعني أنهم حتى الآن لم يشاهدوا ما يحصل لنا هنا؟! نحن نموت كل يوم ولا يوجد أحد يهتم لنا!". في أغلب الأوقات تنتهي المحادثة عند هذا الحد. البعض يتجاهلني ويتجاهل الكاميرا، والبعض يقول لي أن لا أُظهرهم في الصور.
كمصوّر سوري بدأ مهنة التصوير خلال أحداث الثورة السورية، وفي عام 2014 سألت نفسي هذا السؤال كثيراً: لماذا فعلاً نصوّر هذه الأحداث في سورية؟ هل هو إيماناً منّا أننا نستطيع أن ننتصر للعدالة في بلادنا عن طريق إظهار الحقيقة وإيصال صوت أهلنا؟ أم هي مهنة تعلمتها وأحببتها وأريد تحقيق النجاح فيها؟
عندما أعطي نفسي الجواب الأول، أجد أنّ هناك بعض السذاجة لأنني ببساطة أقول أنه يوجد صور ومقاطع فيديو بالآلاف وثقت هذه الأحداث، كما يوجد يومياً تغطية إعلامية عن معاناة السوريين وما زالت الأوضاع من سيء إلى أسوأ، ولا شيء يتغيّر نحو الأفضل. وعندما أعطي نفسي الجواب الثاني، أشعر أن ذلك غير أخلاقي فأنت لا تستطيع أن تبني مهنة أو نجاح من معاناة الآخرين؟!
في الصباح عندما يكون الجو ليس غائما، أنا وعدد من الأصدقاء من مركز حلب الإعلامي نتوقع أنّ الطيران سوف يزور المدينة للقصف، نذهب إلى مركز الدفاع المدني (القبعات البيض) لمعرفة حركة الطيران في السماء وعند دخول الطيران سماء المدينة، يتأهب الجميع ويستعد لما سوف يحدث. الأماكن التي تعرّضت للقصف تتشابه كثيراً، الغبار، الدمار، الدماء، الصراخ، البكاء، والركض، ترى العديد من الناس يركضون إلى أماكن مختلفة. عادةً فرق الدفاع المدني وفرق الإسعاف هم أول من يتوجهون إلى مواقع القصف، للإسعاف والمساعدة. ودائماً أهالي الحي يتواجدون هناك للمساعدة والاطمئنان على عوائلهم، أقاربهم وجيرانهم. الجميع كان يساعد في رفع الأنقاض عندما يعرفون أنّ أحدا ما يتواجد تحتها. تستمر أعمال الإنقاذ ورفع الأنقاض لعدة ساعات وأحياناً لعدّة أيام. في هذه الصورة استمرت عملية رفع الأنقاض لمدة يومين حتى استطاعوا إخراج جثة أخر شخص من تحت الأنقاض، وكان طفلا!
تغطية القصف، والمعارك التي تحدث على الجبهات كان من الأولويات باعتبارها الأحداث التي تهم الصحافة حول العالم. لكن كنت أحب كثيراً الذهاب والتجوّل بين أحياء حلب الشرقية لالتقاط صور للحياة اليومية للسكان هناك. كان هذا يعطيني بعض الإجازة من تصوير الأحداث الدامية، وكان يوجد بعض المرح هناك وهناك أيضا ودائما التعرّف إلى أشخاص جدد وقصص جديدة عن أوضاع السكان هناك. قليلاً ثم قليلاً بدأت أدرك ما أهمية توثيق لحظات الحياة اليومية في مدينة كانت تصنّف الأخطر في العالم، لأننا ببساطة نحتاج إلى نقل الصورة الأوسع عن الأوضاع هناك، لحظات القصف والموت مروعة وقاسية، لكنها لا تستمر مدة ٢٤ ساعة وما يستمر هو الحياة ومكافحة السكان للحصول على حياتهم في ظلّ تلك الأوضاع القاسية. ربما العديد من السكان لم يستطيعوا الحصول على فرصة للسفر خارجاً، لكن كان الكثير منهم يعشقون مدينتهم ويحاولون بأقصى جهدهم البقاء وجعل الحياة هناك ممكنة. النزوح أو التهجير لم تكن أماني السوريين، بل العيش في بلدهم مع أبسط حقوق الإنسان. رسالة النظام السوري كانت واضحة بعض الشيء منذ بداية الثورة السورية (الأسد أو نحرق البلد). وفعلاً كان السكان يعيشون تحت ذلك الضغط. بالتأكيد إن البرميل المتفجر أقوى من جسم الإنسان، لكن الإنسان لديه مرونة أكثر من ذلك البرميل، ويستطيع محاولة التأقلم وإيجاد سبل للحياة، وبالتالي النجاة والاستمرار.
زيارة الأماكن التي تعرّضت للقصف قبل بضعة أيام كانت دائماً مثيرة للاهتمام والإعجاب. دائماً، كان يوجد عاملا مشتركا لدى الجميع، ألا وهو عيش كل يوم بيومه، لا يحتاج المرء للتخطيط ليوم الغد، لأن كل شيء ممكن أن يتغيّر خلال لحظة وجميع الخطط قد تندثر تحت الأنقاض. ذاك لم يعني لهم الاستسلام، بل كان يعني النهوض من جديد والمحاولة مرة ثانية وثالثة حتى تنفذ طاقتك وتختفي جميع خياراتك. وذلك ما كنت أتعلمه من سكان المدينة، أنّ التغيّر ليس شيئاً سهلاً، بل يحتاج الصبر والمثابرة، قد تخسر الكثير أو القليل لكن مازلت تملك القدرة على السير، فأنت محظوظ ومازال لديك وقت للمحاولة أكثر.
الجواب على سؤالي كان: أنه ليس كل شيء أبيض أو أسود، فإذا كان عملي من أجل التغيير، فذلك يأتي بثماره على دفعات صغيرة تؤثر على حياة بعض الأشخاص والتغيير الكبير يحتاج الوقت، المثابرة، ويحتاج عمل أكبر من صنّاع القرار. وبهذا لا يوجد أي عار بأن أكون مصوّرا طموحا يريد التقدم أكثر في مهنته وأن أكون مخلصا لكاميرتي ومهنتي. ربما الآن نوثق الدمار ونأمل غداً أن نوثق البناء. في النهاية: إن المصورين ليسوا من يقوم بتلك الأعمال الإجرامية بل هم على نفس المساواة من الخطر الذي يعيشه السكان هناك. فأنا كأحد المصورين، وفي أواخر عام 2015 شعرت بأنّ طاقتي قد نفدت وأعيش الآن في ألمانيا، ولكن الكثير من المصورين الشجعان حتى هذه اللحظة مازالوا يعملون بجد داخل سوريا ضمن هذه الظروف الخطرة وما زالوا مؤمنين بقضيتهم، مهنتهم، ومستمرين في مقاومتهم، ويسعون للتغيير.