في العام 2015 تمّ منح جائزة نوبل للآداب للكاتبة البيلاروسيّة "سفيتلانا أليكسييفيتش"، التي تميّزت أعمالها بإدماج السرد الروائي مع تقنيات الصحافة، من المعاينة المباشرة إلى تسجيل الشهادات والتوثيق، فكانت من أبرز الأصوات والتجارب الروائيّة العالميّة التي كرّست ذلك النوع الأدبي: "الرواية التوثيقيّة"، والذي راح يعمّ الكثير من التجارب السرديّة في العالم، ومنها هنا بالتأكيد السرديات السوريّة.
راحت الرواية السوريّة، كغيرها من أشكال الفنون الأخرى، تكتسب ميّزات فنية طارئة بعد الحدث الاجتماعي والسياسي الكبير العام 2011.
فحين عرفت الفنون بمجملها ميلًا "للالتزام السياسي"، متواشجًا مع ضرورة عميقة في حفظ الذاكرة من النسيان، جنحت الرواية إلى ذلك أيضًا، وربما كانت خاصيّة التوثيق واحدة من أبرز مزايا هذه المرحلة. فغلبت "الغاية التوثيقيّة السرديّة" على النتاج السردي الروائي بعد العام 2011، بعد أن غلب عليها قبلًا الفانتازيا الرمزيّة أو التاريخيّة البعيدة عمومًا عن الراهن. أمّا بعد العام 2011 فقد سيطرت الرواية التي تختصّ بغاية التوثيق للحظة التاريخيّة الراهنة على المشهد الروائي السوري.
راحت الرواية السوريّة، كغيرها من أشكال الفنون الأخرى، تكتسب ميّزات فنية طارئة بعد الحدث الاجتماعي والسياسي الكبير العام 2011.
ما الأسباب التي دفعت الفن الروائي السوري لغاية التوثيق؟ وما الأحداث السياسيّة والإجتماعيّة التي رغبت الرواية السوريّة في توثيقها؟ وما هي التقنيات السرديّة التي استعملت للقيام بمهمة التوثيق؟ أسئلة سأحاول مقاربة إجابات عنها.
نموذج الرواية التوثيقيّة
يعتبر الكثير من النقاد رواية "تقاطع نيران" (سمر يزبك، 2012) من أولى الأعمال الروائيّة التي صدرت بعد الإنتفاضة السوريّة والمتعلقة بالحدث. هي تمتلك عنوانًا فرعيًا مكمّلًا يبيّن الطابع التوثيقي للرواية: "من يوميات الإنتفاضة السوريّة".
تسبق الروائيّة النصّ الروائي بما يشبه البيان الذي يشرح الغاية التوثيقيّة للرواية، يُذكر يأنّ الرواية هي تسجيلات حكايات واقعيّة تبتعد عن التخييل، عبر أحداث الشهور الأربعة الأولى في الانتفاضة. كما أنّها تروي حكايات المدن السوريّة عن طريق تسجيل شهادات أهلها. وبما أنّ الرواية عبارة عن يوميات، فإنّ نصوص الفقرات تحمل تواريخًا محدّدة تبدأ من 25/3/2011، لتنتهي في 09/07/2011.
يمكن اعتبار كلّ ما سبق من خصائص الرواية التوثيقيّة، حيث تقول الساردة: "يقولون إنّ كتابة الرواية تحتاج إلى خيال، وأنا أقول تحتاج إلى واقع". توثّق الرواية المظاهرات الأولى في دمشق، تكتب عن الظواهر الأمنيّة التي انتشرت في المدينة، وتروي كذلك عن المظاهرات المؤيدة للنظام الحاكم، والتي استعملت العنف مع المعارضين أمام أعين قوات الشرطة.
ثمة نماذج روائيّة كانت غايتها سرد الحكاية الأساسيّة، لكنها وبينما تسرد الحكايات تعبّر عن موضوعات سياسيّة واجتماعيّة بدرجة عالية من التوثيق للحدث السوري.
توثّق لتشكيل اللجان الشعبيّة، تناقش الخطاب الإعلامي الرسمي الذي تعتبره الكاتبة مساهمًا في شرخ الشعب السوري إلى طرفين، وجعله أكثر عقائديّة وتوجيهًا في رفضه لما تبثه القنوات الإعلاميّة العالميّة. وهكذا، عبر مناقشة القضايا الإعلاميّة تتوثّق الآراء والأساليب الإعلاميّة المتبعة بمرافقة الحدث السياسي والاجتماعي.
هذا على مستوى الموضوع/ المعنى، أما الأساليب التوثيقيّة- السرديّة التي تستعملها فتتبدّى من خلال: المعاينة المباشرة للحدث، اللقاء مع أشخاص شهدوا الحدث، وهي من التقنيات الصحافيّة المعروفة، نقل ما يرد في وسائل الإعلام، وفي هذا المجال تناقش الرواية دور القنوات المواليّة في بثّ الكراهية والقضاء على كل مختلف!
الشخصيّة الروائيّة تسعى للتوثيق
يعتمد الجانب التوثيقي في رواية "بين حبال الماء" (روزا ياسين حسن، 2019) على تقنية مختلفة، حيث ينبع عنصر التوثيق من حكاية الشخصيّة الأساسيّة في الرواية، مع حكاية (تموز) الشاب الذي يسعى مع بداية الثورة لتحقيق حلمه في صناعة الأفلام، فيحمل الكاميرا لتكون رحلته في التوثيق هي رحلة الرواية.
السيناريوهات والأفلام الوثائقيّة التي يصّورها هي الأسلوب الذي تعمل الروايّة من خلاله على توثيق الأحداث في سوريا، من قصص المناطق الثائرة إلى حالات القتال المسلّح، وصولًا إلى هجرة السوريين عبر البحر في قوارب الموت. وكما عُرفت ظاهرة النشطاء الإعلاميين السوريين من المناطق الملتهبة في الإعلام العالمي، كذلك تمضي الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية وهي تحمل وثائقها لتحقيق الأفلام، ومنها تُعرّف القارئ على واقع الأحداث السياسية، الإجتماعيّة، العنفيّة وغيرها في الواقع السوري.
التوثيق عبر الحكاية التخييليّة
ربما تبتعد رواية "الموت عمل شاق" (خالد خليفة، 2016) عن تصنيف الرواية التوثيقيّة، ذلك أنّ الحبكة السرديّة تبدو تخييليّة بالكامل، لكن ومن خلال القصة سيتطرق السارد للعديد من الظواهر السياسيّة الأمنيّة والإجتماعيّة التي ظهرت في المجتمع السوري. الحكاية تروي رحلة عائلة عبر مناطق متنوعة من الجغرافيّة السوريّة، في محاولتها لدفن جثة الوالد المتوفى. هي حكاية رحلة دفن جثة، لكننا نكتشف عبرها تفاصيل الحضور الأمني الكثيف في دمشق، انتشار الحواجز العسكريّة والمسلحة حول المدينة وفي العديد من المناطق السوريّة.
عند الحديث عن التوثيق الحكائي تبرز رواية "الذين مسّهم السحر" (روزا ياسين حسن، 2016) والتي تحمل عنوانًا فرعيًا: "من شظايا الحكايات".
كما أنّ نقاشات الرواية تدور حول المواضيع الساخنة التي تشغل اللحظة، كانتقال الثورة السلميّة إلى السلاح وبوادر الحرب الأهليّة، وهنا يغوص النقاش أبعد في حضور عناصر الدفاع الوطني والقوات الرديفة للنظام من حزب الله ومتطوعين عراقيين وغيرهم. وفي آراء أبناء العائلات المتمدّنة المواليّة التي طالبت بحرق درعا وتدمير المناطق الثائرة. بالمقابل تتحدّث الرواية عن مجموعات "في المقلب الآخر" تقوم بأعمال مشابهة، كطلب إحراق المؤيدين وقتلهم والتهليل لذبحهم. إذًا، وعبر وصف دقيق لخطاب المواقع الإلكترونيّة نتعرّف على الخطاب العنفي المتبادل في المجتمع السوري المتشظّي.
التوثيق الموضوعاتي
ثمة نماذج روائيّة كانت غايتها سرد الحكاية الأساسيّة، لكنها وبينما تسرد الحكايات تعبّر عن موضوعات سياسيّة واجتماعيّة بدرجة عالية من التوثيق للحدث السوري. فرواية "طبول الحب" (مها حسن، 2013) توثّق كذلك بدايات الثورة والنقاشات الدائرة حولها، خصوصًا بين فئة المثقفين، حين يظهر ذلك جليًّا في عنوان الفصل الثالث: "المثقفون المخمليّون".
في الفصل الأول توثق شعارات أطفال درعا على الجدران، والشعارات التي ردّدها المتظاهرون، واعتقال المثقفين ومنهم الشاعران "محمد ديبو" و"عمر إدلبي". وفي ملاحظة مرجعيّة في هامش الصفحة السفلى، ما هو نادر في النصوص الروائيّة، تقدم الكاتبة تعريفًا لمصطلح "الشبيحة" الذي برز استعماله سوريًا وصُدّر إلى العالم العربي.
"الكابوس السوري" هو عنوان الفصل الثاني، تورد فيه الرواية شهادات صحافيين أجانب كانوا في مناطق النزاع ووصفوا ما عايشوه هناك، كالمصور (ويليام دانييل) والصحافي البريطاني (بول كونري)، فتتداخل شهاداتهم مع السرد الأدبي.
مجددًا تدمج الكاتبة في نصها الأدبي تعليقات على الهوامش تعرّف فيها القارئ بمصطلح "التنسيقيّات" التي تشكلت في ظلّ الحراك الثوري. كذلك تستخدم الروائيّة تقنية التوثيق بدمج أخبار الصحف داخل النص، كاقتباس من "جريدة الحياة" يوثّق مشروع الدستور السوري الجديد للعام 2012، وخبر آخر بتاريخ موثّق من "المرصد السوري لحقوق الإنسان" يوثّق مقتل 68 مواطنًا في ريف حمص.. وهكذا، فيما تندمج شهادة من الإعلامي الثوري "هادي العبد الله" في النص، يروي فيها صعوبات النزوح من مدينة حمص في فترات المعارك.
يمكننا أن نذكر أيضًا في المجال الأدبي، وليس الروائي بالتحديد، نشر سلسلة "شهادات سورية"، من إصدار بيت المواطن، في ثلاثين عددًا. وهي مجموعة شهادات من كتّاب وكاتبات سوريين على شكل نصوص سرديّة، شعريّة، يوميات، وأيضًا مقالات.
في رواية "عمت صباحًا أيها الحرب" (مها حسن، 2017) توثق الروائيّة أيضًا عمل التنسيقيّات المحلية، الظاهرة الإداريّة في الحراك الثوري. وتحت عنوان "جرم الإغاثة" ينتقل النصّ لمناقشة الأسلوب الذي اتبعته السلطات الأمنيّة في التعامل مع عمال الإغاثة الإنسانيّة في المناطق الثائرة.
حكاية "بيان الحليب"، حين وقّع مجموعة من المثقفين والفنانين السوريين بيانًا يطالبون فيه الحكومة بفكّ الحصار الغذائي عن أطفال درعا، واُتهم الموقعون آنذاك بالخيانة، وتمت مقاطعتهم فنيًا من قبل شركات الإنتاج.
بالمقابل، توثّق رواية "باص أخضر يغادر حلب" (جان دوست، 2019) لسيطرة داعش على مدينة منبج، والصعوبات التي عاناها الناشطون بسبب الممارسات القمعيّة الممارسة ضدّهم.
التوثيق الحكائي
عند الحديث عن التوثيق الحكائي تبرز رواية "الذين مسّهم السحر" (روزا ياسين حسن، 2016) والتي تحمل عنوانًا فرعيًا: "من شظايا الحكايات".
ليست الغاية التوثيقيّة أساسيّة في الرواية، فهي لا تذكر بأنّها "يوميات أو شهادات"، بل هي "حكايات"، قد تكون واقعيّة وقد تكون تخييليّة. لكن كمية الحكايات التي تتضمنها الرواية، والتي هي بأغلبها حكايات واقعيّة، تجعل من الرواية أقرب إلى توثيق الحدث السياسي والإجتماعي السوري، ولكن من خلال الحكايات.
فالرواية تقاطع الكثير من الحكايات والشخصيات والمناطق بغرض رواية الحدث السوري، لذلك يتداخل فيها التخييلي الروائي مع التوثيقي، من هنا يحضر التوثيق في الرواية على غرار الروايات السابقة، فتحكي عن مظاهرات المناطق الساخنة في ريف دمشق، والهتافات التي صدحت فيها، وتوثّق لظاهرة الرجل البخاخ، وذلك في فصل خاص بعنوان: "الرجل البخاخ وأحاديث الجدران"، الثائر الذي يستعمل فنّ الغرافيتي للتعبير عن آرائه السياسيّة والإجتماعيّة.
النقاشات المحتدمة بين شخصيّات الرواية تؤكّد موضوعة التوثيق والذاكرة، فتقول إحدى الشخصيات: "أعتقد بأنّي طالما رغبت بأن أكون في الحدث لكن بدون أن أكون في واجهته. تمامًا كما أفعل اليوم، فبدون صوري وأفلامي لن يكون للحدث وجود في الذاكرة، ولكني غير موجود في هذه الذاكرة المحنّطة في الصور".
أدب الشهادات
يمكننا أن نذكر أيضًا في المجال الأدبي، وليس الروائي بالتحديد، نشر سلسلة "شهادات سورية"، من إصدار بيت المواطن، في ثلاثين عددًا. وهي مجموعة شهادات من كتّاب وكاتبات سوريين على شكل نصوص سرديّة، شعريّة، يوميات، وأيضًا مقالات، مما يدعو إلى القول بوجود أدب للشهادات برز منذ العام 2011، وهو هنا أدب يتضمن عنصرًا توثيقيًّا واسعًا، يشمل الفنون النصيّة كاملةً كالسيرة الذاتية، الشعر، القصة، والرواية.. وغيرها!
خاتمة
تختلف مستويات حضور العنصر التوثيقي في نماذج تجارب الرواية السوريّة المذكورة، وإذا أمكن تصنيف هذه الأعمال الروائية من وجهة نظر حضور العنصر التوثيقي، فإن الإقتراح التصنيفي يكون:
- روايات توثيقيّة بالكامل.
- روايات التوثيق الحكائي، وهي تنقسم إلى:
- حكايات الموثّقين أنفسهم
- التوثيق لموضوعات سياسيّة واجتماعيّة عبر سرد الحكاية الأصليّة للرواية.
- أدب الشهادات.