تمّ اكتشاف بقايا مدينة تدمر الأثريّة في القرن الثامن عشر وبدأت صورها بالانتشار في نهايات القرن التاسع عشر، وفي بداية القرن العشرين بدأت أعمال التنقيب في هذا الموقع. وفي أيار ٢٠١٤ احتل تنظيم داعش مدينة تدمر، وابتداءً من منتصف العام ٢٠١٥ بدأ تنظيم الدولة الإسلاميّة بنشر مقاطع فيديو تُظهر التدمير المتعمّد للآثار المهمة في هذا المكان. أثارَ تدمير الأوابد الأثريّة التاريخيّة ضجة دوليّة كبيرة، وغطته وسائل الإعلام الدوليّة على نطاق واسع. كان من المحزن للبشريّة أن ترى بعينيها كيف ستفقد هذا التراث المهم وهذه الآثار الرائعة إلى الأبد.
لكن، ذلك حدث فيما كان الآلاف من السوريين يموتون، بشكل رئيسي بأيدي قوات نظام الأسد ومليشياته، وليس بأيدي متطرفي داعش. مئات الآلاف من الضحايا وملايين المهجّرين والنازحين والجرحى والمعتقلين، لكن "الغرب" لم يبدو متعاطفًا مع المأساة السوريّة كما تعاطف مع حجارة منحوتة "غير حيّة" تمّ هدمها وتفجيرها.
أظهرت بعض الأحداث بقوة ووضوح المسافة العميقة في التصورات بين نظرة السوريين إلى ما يحدث في سوريا ونظرة باقي العالم إلى ما كان يحدث في سوريا آنذاك. نتذكر بأنّ عددًا كبيرًا من السوريين أصيبوا بالصدمة، من تغطية وسائل الإعلام للحدث الجلل، إذ كان من الواضح أنّ تدمير آثار تدمر حظي باهتمام وتعاطف أكثر بكثير من حيواتهم الخاصة وحيوات أحبابهم.
هذا الاهتمام العالمي بآثار تدمر المدمَرة، كان متماهيًا مع النظرة "الغربية المركزيّة" و"الاستشراقيّة" تجاه سوريا والشرق الأوسط بشكل عام.
حسنًا، يعرف السوريون تدمر جيدًا، ليس فقط لتاريخها القديم، بل لأنّ في تدمر واحد من أشدّ السجون ضراوة، سجن تدمر سيء السمعة، والمعروف على نطاق دولي بانتهاكات حقوق الإنسان التي تُرتكب في داخله، من تعذيب وقتل ومجازر. على سبيل المثال لا الحصر، في 27 حزيران 1980 قُتل حوالي ألف معتقل سياسي بأمر من رفعت الأسد بعد محاولة الإخوان المسلمين اغتيال شقيقه، رأس النظام السوري، حافظ الأسد.
بالطبع، معظم الناس خارج سوريا لم يعرفوا (ربما قلّة قليلة فقط عرفت) أنّ موقع تدمر الأثري المحميّ من قبل اليونسكو، يقع بالقرب منه سجن تدمر الفظيع. قلّة فقط كانت تعرف عن السجن ومصير السجناء السياسيين هناك. لكن على كلّ حال، ليس هذا ما نريد التركيز عليه في هذه المقالة.
نعتقد أنّ الصدام الثقافي في أعقاب تدمير آثار تدمر لم يكشف فقط عن المظهر الغربي والاستشراقي لجزء كبير من وسائل الإعلام والمراقبين الدوليين، فيما يخص سوريا، بل إنّه طرح موضوعًا آخر لا تقل أهميته عن هذا الموضوع، وكان من الصعب مناقشته: ما هي الموضوعات التي يمكن الاهتمام بها ومناقشتها أخلاقيًا وشرعيًا في وضع يُقتل فيه البشر ويُعذبون ويطردون من ممتلكاتهم ويُشرَدون؟ وكيف يمكن لهذا الاهتمام وهذا النقاش أن لا يغطي على مواضيع القتل والتعذيب والتهجير؟
هل لا يزال بإمكان السوريين الحديث عن تدمير آثار تدمر، لكن بطريقتهم الخاصة؟ أو: هل يمكن أن يتحدث السوريون عن البيئة أو عن تغير المناخ أو حتى عن تأثير الحرب على الحيوانات في سوريا، أو أيّ من القضايا العالميّة الأخرى؟
الجواب أكثر تعقيدًا مما يمكن أن يبدو عليه.
على سبيل المثال، هذا الموقع الإلكتروني "حكاية ما انحكت"، وهو يعتبر منظمة غير ربحيّة تعتمد بشكل أساسي على تمويل المنظمات غير الحكوميّة لإنتاج المحتوى، ليس من السهل له العثور على تمويل لتغطيّة القضايا البيئيّة. أحيانًا تكون إجابات المانحين (وهذا ما حدث مع حكاية ما انحكت حرفيًا) "لسنا متأكدين من أنّ السوريين سيكونون مهتمين" أو "هل لديك بالأحرى اقتراح بشأن حقوق الإنسان، أو المزيد من القضايا السياسيّة؟".
نعتقد أنّ المفارقة هي أنّنا أمام موقف معاكس ولكنّه إشكاليّ واستشراقيّ بنفس القدر: يجب على السوريين (وربما الشرق أوسطيين بشكل عام) التحدث فقط عن السياسّة والحرب وحقوق الإنسان. لا يمكنهم الاهتمام بقضايا أخرى "أقل إلحاحًا". لا يمكنهم الاهتمام بقضايا عالميّة مثلًا. شيءٌ ما يشبه ما يتردد أحيانًا أنّه على النساء أن يكتبن فقط في الأشياء التي تخص النساء ولا يمكن أن يكتبن عن قضايا مجتمعيّة ووطنيّة وأي قضيّة أخرى.
يمكننا أن نطلق على ما سبق اسم "متلازمة تدمر"، لكن المفهوم ليس مرتبطًا بما حدث في تدمر فقط بل يمتد أيضًا إلى مواضيع أخرى. مثلًا في مقدمة ملف حول الكويريين في الثورة السوريّة، يتذكر فادي صالح، محرّر ومعد هذا الملف، كيف تمّ رفض مطلبهم للمناقشة في كثير من الأحيان مع الممولين، وكان التبرير هو وجود أولويات أخرى.
هذا الاهتمام العالمي بآثار تدمر المدمَرة، كان متماهيًا مع النظرة "الغربية المركزيّة" و"الاستشراقيّة" تجاه سوريا والشرق الأوسط بشكل عام.
ومع ذلك، نحن على يقين ليس فقط من أنّه يجب على السوريين استعادة حقهم في الحديث عن هذه القضايا بما في ذلك ربما أهميّة تراثهم الثقافي وآثارهم، ولكن بشكل خاص القيام بذلك وفقًا لشروطهم الخاصة، وبالتالي تجنّب تركها للأشخاص الذين قد يتعاملون معهم من خلال عدسات أجنبيّة، وغالبا استشراقيّة، بالمعنى السلبي للكلمة.
هذا يعني القيام بذلك بطريقة تعترف بمكانة هذه القضايا، كلّ القضايا، لدى السوريين، وصلتها بالقضايا الأخرى. فمثلًا هل يمكن الحديث عن القضايا البيئيّة في سوريا وتأثيرها على حياة الناس العاديين مع عدم تجاهل أولويّة حقوق الإنسان والقمع والقتل والتهجير؟ وإذا كان الجواب نعم: ما هي طرق القيام بذلك بطريقة أخلاقيّة وذات صلة؟
هذه أسئلة يصعب الإجابة عليها، لكننا نرى أنّه من المهم أن يبقى النقاش حولها مفتوحًا، ونعتقد بأنّه علينا، كسوريين مهتمين، أن نطالب بحقنا في الحديث عن كلّ ما نعتبر أنّ لنا صلة به من المواضيع العالميّة، حتى وإن كانت بلادنا تمر في هذه الظروف الصعبة.