السينما السوريّة: ما الذي لم نتمكن من رؤيته؟

حوار مع جيونا ناتزارو


يحاور انريكو دي أنجيليس خبير السينما الإيطالي جيونا أ. ناتزاور، المندوب العام لأسبوع فينيسيا السينمائي الدولي للنقّاد Venice International Film Critics' Week، ومبرمج مهرجان رؤى دو ريل الدولي Visions du Réel International Festival في مدينة نيون، سويسرا. في هذا الحوار الموسّع حول الأفلام الوثائقيّة السوريّة على مدار السنوات الماضيّة، يشارك ناتزارو وجهات نظره الخاصة حول السينما السوريّة الجديدة

09 نيسان 2021

انريكو دي انجيليس

باحث مستقل متخصص بالاعلام في العالم العربي. يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة سالرنو، ايطاليا. لديه العديد من المقالات في مجال الاعلام والتواصل في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا بالاضافة إلى كتاب عن الاعلام والنزاعات. هو أحد مؤسسي حكاية ما انحكت وعمل كباحث مستقل مع عدد من المنظمات غير الحكومية. يعمل حاليا كباحث مع مؤسسة Free Press Unlimited ويقيم في برلين.

Translated By: دلير يوسف

جيونا ناتزارو، خبير سينمائي مخضرم، وقد قام بنفسه باختيار وتقديم العديد الأفلام السوريّة في عدد من أكثر المهرجانات السينمائيّة المرموقة في العالم. وفي هذا الحوار يقدّم ناتزارو آراءه حول أهمية الأفلام الوثائقيّة السوريّة، كما يطرح سؤالًا غير قابل للحل على ما يبدو، هل يمكن تناول الأفلام السوريّة الجديدة من خلال عدسات سياسيّة وسينمائيّة في الآن ذاته؟

هذا الحوار جزء من سلسلة عن السينما السورية، والتي تهدف إلى اكتشاف عالم صناعة الأفلام السوريّة من خلال عيون المخرجين والصحفيين والأكاديميين السوريين والأجانب.

أجرى انريكو دي أنجيليس الحوار باللغة الإيطاليّة ثم قام بترجمته، بالتعاون مع توم رولينز، إلى الإنجليزيّة ونشرها في موقع حكاية ما انحكت في حزيران 2020، وهذه ترجمة الحوار بالعربيّة.

  • كيف تعاملت مع السينما السوريّة المنتجة بعد 2011 في البداية؟ 

أريد أن أوضّح أنّ الحديث عن السينما السوريّة أمر معقد بالنسبة إليّ. لا يمكن لمبرمج سينمائي أن يتظاهر بفهم كلّ التعقيدات الكامنة وراء هذا المحتوى. ومن ثمّ، هناك طبعًا حاجز اللغة. ما أقصده: هناك قيود أدركها جيدًا، فأنا لستُ خبيرًا بتاريخ سوريا والشرق الأوسط.

السينما السوريّة الجديدة: الشغف الذي فاجأ العالم

30 آذار 2021
تقابل مايا ميلاني بالشراكة مع إنريكو دي أنجيليس، دافيد أوبرتو، مقيّم الأفلام في TFFdoc، قسم الأفلام الوثائقيّة في مهرجان تورينو السينمائي، والمدير المشارك السابق لمهرجان Doclisboa للأفلام الوثائقيّة في لشبونة....

تعاملت مع السينما السوريّة باعتباري عملتُ في مجال الفيلم الوثائقي لفترة طويلة. لاحظتُ على الفور أنّ الأفلام القادمة من ذلك المكان تتميز بإلحاح لا تمتلكه الأفلام الأخرى. إنّها تعبر عن ذلك الإلحاح الرسمي، فمثلًا يقوم صانعو تلك الأفلام بالتوثيق في الشارع، أو يسجلون لحظة انهيار مبنى أصابته قذيفة هاون. في رأيي الشخصي، هذا الإنتاج أعاد، حتّى، ابتكار مفهوم أمريكا الشماليّة لـ"السينما المباشرة".

  • هل ترى أي سمات أو أسلوب مشترك تميل هذه الأفلام إلى مشاركته؟

ليست كلّها بطبيعة الحال. من ناحيّة هناك أفلام مثل "لسّه عم تسجّل" وهو فيلم جماعي، صنعه العديد من الأشخاص، وبعضهم مات خلال عمليات التصوير، ومن ناحية أخرى هناك الأفلام ذات الأسلوب الغربي والسردي الشخصي. وليس من قبيل المصادفة أنّ هذه الأفلام، التي تدور حول شخصيّة واحدة، تحقق نجاحًا اقتصاديًا أكبر على مستوى العالم.

الحالة المثاليّة هنا هي فيلم "إلى سما"، إنه فيلم أحترمه، لكنّه يركّز على امرأة حُبلى ومحجبة وتعيش في حالة شبه خضوع (حتى لو لم أصدق أنّها خاضعة كما ظهر في الفيلم). علاقة التبعيّة أعيد إنتاجها على مستوى إنتاج الفيلم، لأنّ القناة الرابعة Channel 4 تدخلت وقامت بصنع لقطات مختلفة، نوع آخر من التصوير، وما إلى ذلك.

بالطبع، فإن صنّاع الأفلام الذين يختارون الطريقة الثانية (الفيلم القائم على شخصيّة واحدة) يدركون جيدًا ما يعنيه ذلك، لكنهم يقبلون بالتسويّة لأنّهم يعتقدون أنّها الطريقة الوحيدة لجعل أصواتهم مسموعة. لذلك أنا لا أوصم، على الإطلاق، المخرجين السوريين الذي يختارون "مساعدة" المخرج الأوربي الذي يعرف كيف يصل إلى التمويل وإلى إدراج الفيلم في حلقة التوزيع.

قد تبدو هذه الاعتبارات قاسية للغاية، ومع ذلك، أجد أنّه من الصعب للغاية فرض نظرة أجنبيّة على الوضع المعقّد في سوريا من أجل تسهيل الوصول إلى المحتوى وفهم السياق وجعل سرد الأحداث سلسًا. إنّ الأمر أشبه بمحاولة العثور على قصة غير مرئية داخل الحبكة الأوليّة للحقائق واستبداد العنف.

حتى لو كان الدافع وراء هذه الأمور هو النوايا الحسنة، لكنّها في النهاية آلية تميل إلى إعادة إنتاج علاقة الهيمنة والاستعمار، لذلك فهي علاقة تبعيّة.

  • أين تكمن أهمية هذا الإنتاج السينمائي برأيك؟

أعتقد أنّ الأفلام التي جعلتني أفهم السياق (السوري) بشكل أفضل هي الأفلام التي تشبه فيلم "لسّه عم تسجل" أو فيلم "كوما". كذلك أحبّ فيلم "ماء الفضة"، لكن في هذه الحالة عندي بعض الملاحظات.

أدركت أنّ هناك شيءٌ حقيقي في الفيلم عندما تمّ تقديمه في مهرجان كان السينمائي. تمت دعوة مخرجة الفيلم وئام سيماف بدرخان (فيلم ماء الفضة من إخراج أسامة محمد ووئام سيماف بدرخان) لكنها قرّرت المغادرة بعد يوم أو يومين، لأنّها لم تحتمل البقاء في ذلك المكان. في تلك اللحظة، فهمت أن هناك شيء ما، في هذا الفيلم، لا يمكن اختصاره في الصورة نفسها.

الأفلام الأكثر صلة (بالواقع) هي تلك التي لا يمكن اختزالها بالصورة. مثلًا، أنا أحب فيلم "لسّه عم تسجّل" لأنّه فيلم سياسي، لكنّه ليس فيلمًا أيديولوجيًا أو حزبيًا. نحن نعرف الجانب السياسيّ الذي ينتمي إليه صنّاع الفيلم، لكن لا أحد يخاطب الجمهور بذلك. هنالك ثقة مجنونة في الأدلة الموجودة في الصورة. الثقة في الصورة كدليل تمكّن المخرجين من صنع فيلم شبه مبهم في شهادته.

نضال الدبس:لماذا نحن دائماً وراء الكاميرا، بينما السلطة تقف أمامها؟ (17)

23 كانون الثاني 2021
"البلاد كانت تتغيّر والمتلقي تغيّر، بينما كانت السينما ما تزال داخل المكعب. وباتت الفوارق بيني وبين جدي وأبي والجيل الذي تلانا صغيرة جداً، وهذا غير حقيقي أو واقعي" و"قلت في...

هذا يهمني بشكل شخصي. وكذلك الطبيعة التصوريّة لفيلم سارة فتاحي "كوما"، والذي قدمناه في مهرجان رؤى دو ريل الدولي (Visions du Réel International Festival)، وهو فيلم اكتشفته أثناء عملية مسح قمت بها لأفلام كانت لجنة الاختيار قد رفضتها.

لقد بالغنا في أفعالنا الدراميّة خلال فترة الحجر الصحي في منازلنا خلال شهرين (أُجري الحوار في حزيران 2020). أما في فيلم سارة، فقد توقعتْ مسبقًا نوعًا آخر من الحجر، أكثر دراماتيكيّة، لأنّ حتى البقاء في البيت يُعرّض حياتك للخطر. 

صنعت سارة هذا الفيلم لتحمي نفسها من الجنون، في موقف لم نكن لنقاومه بضع ساعات. عندما عادت إلى بيروت فكرت في ترك العمل على اللقطات التي صورتها لتتجنب عيش تلك التجربة مرة أخرى.

أعتقد أنّ هذه السينما مسّت ضرورة عميقة في تجديد العلاقة بالصورة.

فيلم آخر شاهدته، والذي للأسف لم يلقى الكثير من الانتباه، وقد صُنع الفيلم من صور لدمشق ولبعض الأشخاص (مثقفون وفنانون وموسيقيون) الذين يتحدثون عن علاقتهم بالثورة. في لحظة ما (ولا يمكنني أن أنسى تلك الصور) دخل مقاتلو داعش المدينة. يقوم الصوت (voice-over) بمقابلة واحدة من هذه الشخصيات ويسأله عن سبب ترحيبهم بهؤلاء المقاتلين. تجيب الشخصيّة، في تعبير خالص عن الواقعية السياسيّة، إنّ أولئك المقاتلين كانو الأحسن تسليحًا. 

لقد هزّتني هذه الشهادة بشدّة، لأنّني لم أعش أبدًا في سياق كهذا؛ سياق أحتاج فيه أن أرحّب بالعدو لأنّ العدو الآخر (النظام السوري) أكثر ظلمًا وقسوة. حسنًا، هذا التناقض السياسي يجد شكله الكامل والواضع في لقطة واحدة، في جزء واحد من الحوار.

الأفلام الأكثر صلة (بالواقع) هي تلك التي لا يمكن اختزالها بالصورة. مثلًا، أنا أحب فيلم "لسّه عم تسجّل" لأنّه فيلم سياسي، لكنّه ليس فيلمًا أيديولوجيًا أو حزبيًا.

أعتقد أنّ هذه الأشياء كانت هدية لنا من السينما السوريّة، من أعماق يأسها. وهذا يؤكد على أنّ السينما لا يمكن أن تكون ضرورة حقيقية إلا عندما تكون متأصلة في تاريخ بلد ما، تمامًا كما حدث في إيطاليا مع الواقعيّة الجديدة، أو مع الأفلام الأمريكيّة خلال الحرب العالميّة الثانيّة، مثل فيلم "مهمة إلى موسكو" لميشيل كورتيز (Mission to Moscow by Michael Curtiz) أو الأفلام التي تمّ إنتاجها مباشرة بعد الحرب مثل فيلم "أفضل سنوات حياتنا" لوليام وايلر (The Best Years of Our Lives by William Wyler).

  • ما أسباب النجاح النقدي للأفلام الوثائقيّة السوريّة برأيك؟

صُنعت بعض الأفلام السوريّة بسبب التمويل الأوروبي. لا أنتقد ذلك، لأنّه، وبسبب هذا التمويل، تمكنت أفلام مهمة في الشرق الأوسط من التغلب على الحواجز السياسيّة والإنتاجيّة. لكن، علينا توخي الحذر، لأنّنا لا نستطيع التفكير في فرض الشكل والنظرة التي تميّز وضعنا الأوروبي المريح على هذه السينما.

بالنسبة إلى فيلم "إلى سما" يكاد يكون فيلمًا غير قابل للتحمّل بسبب العنف الذي يُظهره وبسبب مأساة الموقف، لكن، وكما نوّهت سابقًا، هذا لم يمنعني من ملاحظة بعض الحيل السرديّة.

في النهاية فإنّ النقد الوحيد الممكن تجاه الأفلام التي يتم إنتاجها في مثل هذا السياق الكارثي هو تقييم الفيلم فيما إذا كان يمتلك اتساقًا شكليًا أم لا.

ليس من دورنا أن نقول إن كانت هناك طموحات أخرى وراء إنتاج الفيلم، مثل الهروب من سوريا أو بيعه لموزّع أو الحصول على حق اللجوء في دولة أوروبيّة، لأنّه، حتى لو كان الأمر كذلك، فمن يجرؤ على لومهم في محاولتهم تحسين ظروف حياتهم؟ لذلك فأنا لا أتخذ منهجية نسبيّة عندما يتعلق الأمر بهذه السينما.

أعتقد أنّ كلّ أولئك المخرجين ساهموا في خلق "سرديّة مضادة في الوقت الحقيقي" لما يحصل هناك في سوريا. سرديّة هي بالضبط معاكسة للسرد الغربي السائد. كم مرة سمعنا عبارة "لا يمكن فهم ما يحدث في سوريا"، هذه الأفلام تخبرنا عكس ذلك: يمكنكم فهم كلّ شيء.

وجهة نظر هذه الأفلام ترفض تمامًا تصوير السرديات الروسيّة المهيمنة، أو التركيّة أو الإيرانيّة أو السعوديّة. ليس لأنّها غافلة عن تلك المصالح، ولكنها، من وجهة نظر سينمائيّة بحتة، تؤكد أنّ قصة مخرج شاب واحد أكثر أهميّة من معرفة، مثلًا، المنطقة التي يسيطر عليها أحدهم أو نوع جواز السفر الذي تحتاجه للعبور إلى هناك. 

نحن، فعلًا، نعرف كلّ هذه الأشياء، لكن ما نفتقر إليه هو تسجيل حياة أولئك الأشخاص، الذي تمّ محوهم حرفيًا، ليس فقط بسبب العنف، بل أيضًا بسبب طلبنا الحصول على سرد مُبسّط بأيّ ثمن.

محمد علي الأتاسي: لم ننتج يوما فيلما يخص جمهورا غربيا (15)

17 تموز 2020
تتحاور مايا أبيض وإنريكو دي انجيليس مع محمد علي الأتاسي، الصحافي وصانع الأفلام الوثائقية الذي أسّس بالاشتراك مع بعض زملائه وزميلاته في العام ٢٠١٣ مؤسسة "بدايات للفنون  السمعية البصرية" التي...

إذن، هذه السينما هي إجابة لكل من يقول "لكن في النهاية كان الوضع أفضل في ظل الديكتاتور".

في مدينة باري الإيطاليّة، في شهر شباط الفائت (2020) ضمن مهرجان "مخرجون خارج الشاشات" Registi fuori dagli schermi، تمّ عرض فيلم "لسّه عم تسجّل" وكانت هناك مباراة كرة قدم في نفس الوقت، كنّا خائفين من حضور عدد قليل من الأشخاص، لكن صالة السينما كانت ممتلئة. المخرج سعيد البطل كان مذهولًا. هذا يعني وجود رغبة واسعة في الفهم. من الخطأ (القول) إنّ الناس لا يريدون أو لا يستطيعون فهم (الوضع في سوريا).

  • أثارت العديد من هذه الأفلام جدلًا حادًا بين الجمهور السوري والعربي أيضًا، فيلم طلال ديركي "عن الآباء والأبناء"، على سبيل المثال ...

شاهدت فيلم طلال ديركي "عن الآباء والأبناء" للمرة الأولى في مهرجان رؤى دو ريل الدولي Visions du Réel Festival، ولاحقًا، كنت عضوًا في لجنة تحكيم مهرجان قرطاج السينمائي، وعُرض الفيلم هناك أيضًا، وقد شاهدته مع المخرج الفلسطيني رائد أنضوني، والذي كان معي أيضاً في لجنة التحكيم. أدركت حينها على الفور إنّه هناك توتر في السينما في تونس، يختلف عن ذلك الذي في نيون السويسريّة.

في نهاية الفيلم، وبشكل واضح صرخت امرأة غاضبة متوجهة إلى الشاشة. لاحظت أن تعبيرات رائد تصلّبت. آخرون في القاعة من الجمهور قاموا بالتصفيق، في تلك اللحظة غادر رائد الصالة وقد تبعته. كان من الواضح أن تلك المرأة قالت: اللعنة على أولئك الذين ثاروا ضدّ بشار الأسد. لقد جلبوا داعش إلى بلادنا.

بعد نهاية العرض، اقتربت فتاة سوريّة من رائد في الصالة وكانت تبكي، قالت: "لقد صنعنا ثورة، مات من أجلها الكثير من الناس، ومن ثمّ يأتي فيلمٌ كهذا يصوّر الواقع وكأنّه بين الأسد وداعش، ولا شيء آخر". لقد كانت الفتاة في حالة ذهول.

ما أحاول قوله هو إنّ الموضوع معقّد. لأنّني لا أعتقد أنّ المرأة التي كانت تصرخ في وجه الشاشة هي امرأة "فاشية"، ولا يمكنني وصم رغبتها في حياة طبيعيّة، فأنا لستُ مضطرًا للعيش في شبح الحركات الدينيّة وكراهية النساء وحركات العنف مثل داعش. سأكون متعجرفًا جدًا إذا ما حكمتُ عليها.

قال بريخت: "أي أوقات هي تلك التي يكاد يكون التحدث فيها عن الأشجار جريمة، لأنّ ذلك يدلّ على الصمت حيال كثيرٍ من الرعب؟". بهذا المعنى، فإنّ المناقشة مستحيلة.

في الوقت نفسه، كيف يمكن أن تشرح لتلك الفتاة أنّ فيلم طلال لا يهدف إلى محو ثورتها، وأنّه مجرد فيلم يتناول وصف جزء ضئيل من الواقع؟

هذه الأفلام، وبشكل عام كلّ الأفلام القادمة من سياق ما يُسمى بالربيع العربي، وهو مصطلح لا أحبه، مكّنتني من تنشيط طريقة مختلفة للاستماع. إنّها سينما حاولت عرض تعقيد تلك السياقات من خلال الصور.

  • والنقاش حول الأفلام الوثائقيّة السوريّة عادة ما يكون محفوفًا بالمخاطر، حيث يصعُب مناقشة هذه الأفلام دون الانخراط في الخلفية السياسيّة التي انغمست الأفلام فيها.

قال بريخت: "أي أوقات هي تلك التي يكاد يكون التحدث فيها عن الأشجار جريمة، لأنّ ذلك يدلّ على الصمت حيال كثيرٍ من الرعب؟". بهذا المعنى، فإنّ المناقشة مستحيلة.

كذلك الأمر، أفهم أنّ فيلم طلال ديركي قد يكون إشكاليًا. ومع ذلك، يجب أن نلاحظ أيضًا بأنّ الشخصيّة الرئيسيّة في الفيلم (أبو أسامة) كان على علم بوجود الكاميرا. لقد وضع نفسه على خشبة المسرح. لا يمكن أن يكون أيّ شخص ساذجًا لدرجة التفكير بأنّ فيلمًا وثائقيًا يمثّل الواقع. عندما قبلَ المتطرف الديني المُسلّح أن يُصوّر فقد وضع نفسه في بقعة الضوء. لقد قرر أن يُسهب في الفيلم من أجل أن يستخدمه كبروبغندا، وربما، معتبرًا المخرج شخصًا أحمقًا لا يمكنه فهم ذلك.

السينما السورية في المنفى: حوار مع صانع الأفلام: عروة النيربية (16)

06 كانون الثاني 2021
"ماهي "السينما السورية"؟ ...هل نعرفها على أساس جنسية المخرج/ة؟ على أساس موضوع الفيلم؟ مصادر التمويل؟ القصة؟ أو على أساس إجماع بين السوريين/ات بأنه "فيلمهم"؟ لست متأكداً من أني أعرف كيف...

من وجهة النظر هذه، فإنّ الفيلم ممتع إلى أبعد حدّ. لدينا شخصان. الأول المخرج الذي يكذب، وبالطبع يجب عليه أن يكذب، لأنّه يتعامل مع مقاتل من القاعدة ولا يستطيع أن يكشف عن نواياه الحقيقيّة. والثاني هو شخص ما (أبو أسامة) يظن أنّ المخرج لا يعرف كيفيّة استخدام الكاميرا، ولا يستطيع التمييز بين الواقع ومسرحته.

لذلك فإنّ الفيلم ممتع لأنّ طلال ديركي يصوّر الخيال الذاتي لأحد مقاتلي جبهة النصرة، تمامًا كما يريد هذا المقاتل أن يعرض واقعه. لذلك فهو نوع من وضع قصة خاصة بشخصية إسلاميّة مقاتلة داخل قصة أخرى (mise en abyme)

بهذا المعنى، لا أشارك أولئك الذين ينتقدون المخرج تصويره للإسلاميين دون إرادتهم أو بغشّهم، وقول ذلك هو أمر ساذج للغاية، وذلك لأنّ أبو أسامة حاول أن يتم تصويره بالضبط كما أراد أن يتم تصويره. عندما يتم تصويره في السرير دون ساقه، فإنّه يُظهر استشهاده الشخصي. إنّه يصنع فيلمه الدعائي المقدّس متأملًا أن يشاهده أشخاص يشبهونه.

من السذاجة الشديدة التفكير بأنّ التلاعب السينمائي يعمل في اتجاه واحد فقط؛ من الكاميرا إلى الضحية المسكين المُصوَّر. الضحيّة المسكين، في حالة هذا الفيلم، كان يُشرّع استشهاده أمام الكاميرا بهدف دعائي. كلّ هذا يجعل الفيلم ممتعًا للغاية. لكننا نناقش الآن من حيث نظرية الصورة، إذا انتقلنا إلى البعد السياسي، فالأمر سيكون مختلفًا بالطبع.

الفيلم يطرح مشكلة سياسيّة على أيّ حال، من هم هذان الشخصان؟ من هم أولئك الذين في خلفيّة بلد مدمّر، يتصارعون بهذه الطريقة الشرسة والبارعة، في محيط صورة أو لقطة؟ بالطبع يصبح الأمر إشكاليًا.

مثال آخر هو فيلم "جدار الصوت" (عنوان الفيلم بالإنجليزيّة All This Victory)، والذي قدمناه في مهرجان فينيسيا سنة 2019. الفيلم يروي قصة الهجوم الإسرائيلي على لبنان سنة 2006. أعتقد أن الفيلم وثيقة مثيرة للاهتمام أنتجها أشخاص عاشوا الوضع بشكل مباشر، وقد ذكّرني الفيلم بسينما صموئيل فولر (Samuel Fuller) وهو يصور في أماكن مغلقة، في الوقت الذي لا نرى فيه من يقاتل. وهو أيضًا فيلم يحكي عن حرب دائمة، وبينما كنّا نعرض الفيلم في مدينة البندقيّة كانت إسرائيل تلقي القنابل على الحدود اللبنانيّة مرة أخرى.

كتب لي بعض المخرجين السوريين وسألوني لماذا قررتُ تقديم الفيلم، الذي اتهموه بالتواطؤ مع النظام السوري. تمّ تصوير الفيلم في مدينة الزبداني في سوريا، والتي يحتلها حزب الله.

ما أعنيه هو أنّ البعد السياسي يمكن أن يثير اعتبارات أكثر إلحاحًا أو اعتبارات أبسط، لذلك فإنّ كل تلك الصور القادمة من سوريا أقل استقطابًا بكثير مما توحي به بعض النقاشات المُستقطبة والساخنة.

لكن الإنتاج لم يخف أبدًا أماكن التصوير، وأدرجها في نهاية الفيلم. بالنسبة لي، حقيقة أنّ الإنتاج تضمّن تناقضات ما يجري حاليًا خارج عتبات منازلهم في فيلم عن حرب 2006 كان قرارًا بالغ الأهمية، كما كان قرارًا سياسيًا. إنّه يظهر أنّ عملية صناعة فيلم لايمكن اقتطاعها بشكل تعسفي عن سياق التاريخ الذي ينغمس فيه الفيلم. وهكذا سمح لي الفيلم بمشاهدة حرب عام 2006 بمجموعة مختلفة من العدسات.

إنّه يوفر لي رؤية مزدوجة: الآن وفي ذلك الوقت، هنا وهناك، هنا وفي أي مكان آخر (ici et ailleurs) كما قال جان-لوك غودار. الفيلم يطرح مشاكل، ولا يقدم حلولًا، كما يجب أن تفعل السينما. يمكنني أن أفهم القضايا التي أثارها الفيلم ولا أشارك في النقد الموجّه ضدّه. أعتقد أنّ هذا الفيلم عن العام 2006 هو إنجاز غير عادي لا يُمكن تجاهله. لنتناقش حول الأمر لكن دعونا لا نلقي الاتهامات على بعضنا البعض. نحن جميعًا في جانب واحد: الحرية والحقوق السياسيّة والسينما، لكنني أدرك جيدًا أنّ وجهة نظري يُمكن اتهامها بأنّها رفاهيّة نسبيّة لمبرمج مهرجان غربي.

بهذا المعنى، أظل وفيًا للفيلم ولقراري عرضه في البندقيّة (فينيسيا)، حيث فاز هناك بخمس جوائز. بالطبع أنا لا أقول إنّ هنالك من هم على حق وإن هنالك مخطئون، لكن هذه هي الطريقة التي أرى الأمر فيها.

ما أعنيه هو أنّ البعد السياسي يمكن أن يثير اعتبارات أكثر إلحاحًا أو اعتبارات أبسط، لذلك فإنّ كلّ تلك الصور القادمة من سوريا أقل استقطابًا بكثير مما توحي به بعض النقاشات المُستقطبة والساخنة.

هل يمكننا أن نأمل أنّه عندما نقترب من هذه الأفلام، فإنّنا نمنحها نفس التعقيد الذي نتنازل عنه لأنفسنا؟ العديد من المخرجين العرب يريدون سرد قصة، وبدلًا من يُفرض عليهم عبء تمثيل كلّ شيء وكلّ شخص، هذا فضلًا عن اللوم الذي يحصلون عليه إذا لم يكونوا قادرين على فعل ذلك.

  • ذكرت سابقًا إنّ بعض هذه الأفلام يقدّم نوعًا من "غموض الأدلّة" وإنّها "غير قابلة للاختزال في الصورة". ماذا تقصد بذلك بالضبط؟

صورة سوريا اليوم مختزلة بالطبع، لكنها تتحسن أيضًا، لأنّ معظم الناس، حتى يوم أمس، لم يكونوا قادرين على تحديد موقع هذا البلد في خريطة العالم.

تخبرنا هذه الصورة عن عنفٍ لا يُوصف، عنف لا يشبهه أي سياقٍ آخر في التاريخ الحديث. وخاصة إنّ هذه الصورة تعمل على تذكيرنا بكلّ ما لم نراه، لأنّه سشكّل خطأ فادحًا أن نعتقد بأنّنا رأينا شيئًا ما فقط لأنّنا نمتلك صورة. هذه الصور مهمة جدًا لأنّها تخبرنا عن جميع الصور الأخرى التي لم نتمكن من رؤيتها.

قالت مارغريت دوراس (Marguerite Duras) "لم ترَ شيئًا في هيروشيما" (T’as vu rien à Hiroshima)، وكذلك نحنا لم نرَ شيئًا في حلب أو دمشق أو دوما.

صورة سوريا اليوم مختزلة بالطبع، لكنها تتحسن أيضًا، لأنّ معظم الناس، حتى يوم أمس، لم يكونوا قادرين على تحديد موقع هذا البلد في خريطة العالم.

إنّ الصور التي نسيناها تشكّل الغموض الذي أشير إليه. الدليل في غياب الصور التي لا نستطيع رؤيتها. تذكرنا صور الأفلام السوريّة بملايين الصور الغائبة. بالطبع لا يمكننا رؤية كلّ شيء، مثلما لا نستطيع قراءة كلّ شيء.

لكن هذه الأفلام قد فهمت بشكل غريزي وبعمق وبدافع الضرورة شيئًا حاسمًا عن السينما الحديثة. كلّ السينما الحديثة تتعامل مع استحالة الصورة التي تُظهر الواقع. السينما السوريّة تخبرنا إنّ الصورة، وقبل كلّ شيء، تذكير بكلّ ما لم نتمكن من رؤيته ونخاطر بنسيانه.

إنّها مشابهة لحقيقة صورة أوشفيتز، هي أولًا وقبل كلّ شيء نص تشعبي لتذكيرنا بما نحاول عدم طمسه. ما يجب أن لا ننساه هو اللقطة العكسيّة، الصورة التي لا يمكن رؤيتها. الصورة المتاحة ليست سوى أداة عمل، ما تبقى خارج تلك الصورة هو الذي ينبغي أن يثير غضبنا؛ ما لم نتمكن من رؤيته.

هذا هو سبب أهمية هذه الأفلام السوريّة. إنّها تدفعنا للتفكير في ضرورة النظر خارج الكادر، وهذا هو أيضًا السبب أنّ هذه الأفلام واضحة وغير شفّافة.

مقالات متعلقة

"إلى سما" وصناعة الأفلام السائدة (١٣)

14 أيار 2020
إن فيلم "إلى سما" هو النموذج المثالي لفيلم فني هادف تمكّن من استقطاب الجمهور العالمي ونجح على شباك التذاكر. ولكن لماذا إذن، يتركني هذا الفيلم غير مقتنعة، لا بل باردة...
الاستشراق في الصورة (١٤)

15 تموز 2020
يَطرح الصراع الدولي وتفاهُماته في سوريا، أسئلةً حول تعاطي الغرب مع ثورات الشرق المضطربة. تُحاول هذه المقالة تلمس شكل هذا التعاطي في الأفلام ذات الإنتاج الغربي عن سورية، ذلك أن...
سينما جديدة في سوريا (7)

04 شباط 2020
نجت السينما السورية من رقابة النظام، ولولا ذلك لما شهدنا أفلاماً ومخرجين جدداً وصلوا إلى أرفع الأماكن والمهرجانات، ولكن لا زال بعضها يتخبط في شراك رقابات جديدة، وهو ربما ما...
جمهور السينما السوريّة في ألمانيا والقيود الإنتاجيّة المفروضة (6)

21 كانون الثاني 2020
يحاول المقال السادس ضمن ملف "السينما السورية الصاعدة منذ عام ٢٠١١" البحث عن صورة السينما السوريّة في جمهوريّة ألمانيا الاتحاديّة وعن الصعوبات التي تواجهها والقيود المفروضة عليها وعن كيفيّة استقبال...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد