لقد خُلق الإنسان لينتصر


عندما نكتب في الشرق الأوسط أدبًا يتخيل المستقبل كديستوبيا، لا نفكر حقًا في المستقبل، كلّ ما يهمنا هو ألغام الحاضر وأشباحه، كلّ ما نفعله في الأدب هو إعادة إطلاق الإنذار، إنّ مسارًا كهذا لن يفضي إلّا إلى مصير قاتم.

27 نيسان 2021

أحمد الفخراني

روائي وصحافي مصري صدر له عدد من الروايات المطبوعة ومنها: "مملكة من عصير التفاح" (مجموعة قصصية) "ماندورلا" (رواية ) "سيرة سيد الباشا" (رواية) "عائلة جادو- نص النصوص" (رواية) "بياصة الشوام (رواية)

هذا النص جزء من سلسلة الخيال العلمي.

عندما أفكر في مستقبل العالم، لا تشغلني الأشكال السابقة التي تحكم تخيلًا بهذا الحجم: أطباق طائرة، السيبورج، ثورات الذكاء الاصطناعي، لا ترهبني أفكار سيطرة الروبوت أو الفضائيين أو أن يدمّر الإنسان نفسه... على العكس، أؤمن دائمًا أنّ الإنسان سينتصر، لقد خُلق ليفعل، لم يوجد إلا ليكون سيدًا لمصيره، ربما يحتاج إلى أقل من ثلاثة قرون، ليدرك أنّه حقًا سيدٌ على هذا المصير. على الإنسان أن يعي ارتباطه بالطبيعة والمناخ والحيوان والأشجار، أن يدمجها ضمن طبيعته كشريك، أن يندمج في صلبها كشريك.. من جديد.. أثق في أنّه سيفعل.

لا، لن يختفي الشر، ولو بعد ألف عام، على عكس أدبيات الأديان وربما الأساطير، لا أتخيل أن نهاية العالم ستكون عبر كارثة أو وباء أو بحلول جحيم الديستوبيا على الأرض، سينتهي العالم عندما يصل الإنسان أخيرًا إلى اليوتوبيا، متحرّرًا من الصراع الأزلي بين الخير والشر، والذي طالما حرّك البشريّة، حينها فقط سيزفر العالم أنفاسه في سعادة من وجد لنفسه أخيرًا، خاتمة رحلة طويلة من التناقض والعذاب، الذي لم يكن إلا دافعه للبقاء والتطوّر، ببلوغ السعادة القصوى، ستزول ضرورة وجودنا.

يومًا ما في المستقبل وليس الماضي ستعثر الثورة على منبع شاعريتها، يقول كارل ماركس، إذا لم تخني الذاكرة.

أرى الأمل كلّ الأمل، في شيء بسيط وهائل يحدث الآن، في الحاضر، أراه  في تزاوج الأعراق المختلفة، حيث لا تُختصر فقط المسافة بين البشر، بل إنّها تنتج وجوها أكثر نباهةً وذكاءً ولطفًا بل ونبلًا أيضًا، حتى أنّني أفكر مع نفسي، ربما قد تكون أرواحًا أكثر حساسيّة لالتقاط المختلف واستيعابه، أكثر صلابة لتحمل ثقل كابوسي يدعى العالم، حيث أول تهديد فيه هو، البشر.

تلك الوجوه، ستجد حتمًا حلولًا لكلّ ما يبدو عالقًا بلا حل، سيتغلبون على كلّ عقبة كما فعل الإنسان دومًا، مكتشفين بأنفسهم شرورًا جديدة وصراعًا يحرك البشريّة إلى الأمام. ما يخفيه غليان الصراع، أنّ الأفكار لا تُمحى، ربما تنزوي قليلًا، تنسحب من ثقل المركز، لكنها دائمًا ما تعود، لأنّ مصير الأفكار الحقيقي هو أن تتجاور، تمتزج، تتفاعل لتصير أكثر حساسيّة ونباهة. لا لتختفي، بل لتنضج، بعد أن يُنزع عنها قشرتها الصلبة، أيّ أسلحتها المُشهرة طمعًا في أن تحتل المشهد وحدها.

الخيال العلمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: أداة فنية للتغيير

26 نيسان 2021
السؤال الذي يمكن طرحه هنا هو: كيف يمكن التفكير في المستقبل، ليس فقط من منظور ديستوبي، عندما يعيش المرء بالفعل في ظلّ أنظمة استبداديّة قمعيّة أو في حرب أو تحت...

يومًا ما في المستقبل وليس الماضي ستعثر الثورة على منبع شاعريتها، يقول كارل ماركس، إذا لم تخني الذاكرة.

في المستقبل ستقل وطأة حضور ماركس نفسه كنبي، سيتحول إلى فرد عادي، وكذلك موسى و يسوع ومحمد، سيتحولون إلى أشباه لنا، أفراد مثلنا، حتى أنّنا لن نكاد نذكرهم، لأنّ كثير من خزعبلات مريديهم، وتعقيدات الأفكار التي راكمها الزمن كحجاب، ستختفي لصالح جوهرها الأبسط والفعال: أن يتحرر الوجود الإنساني، أن نحب أكثر وندخر أقل، أن ننظر أعمق ونعمل أقل، أن نفكر أطول ونتبارز أقل، ستحرّر الحواس، لتعود الأذن موسيقيّة من جديد وتدرك العين مجال الشكل، سنكتشف أنّ جوهر ما طمح إليه أنبياء الدين والدنيا (بعد أن كفوا عن كونهم أنبياء) هو حريّة الفرد في تطوير ذاته، لا إنشاء أنظمة أو كهنوت يديرها مجرمون. شرط بقائهم هو تحولهم إلى ضوء فنار، يرشد التائهين دون أن يقمعهم، لطف السريان لا ثقل الخلود.

ما بعد كلّ جحيم يطل الفردوس كبستان، ما بعد كلّ فردوس بستانٌ للجحيم، كلّ ما يملكه الإنسان، وكلّ ما تبقى من سيرته الأولى هو شجاعة خوضه في المجهول، حيث لا فارق بين الوصول والعدم، فكلّ قيامة هي قيامة لما نعرفه وبداية لما لانعرفه، أؤمن أنّ الإنسان سيهزم الشيخوخة والمرض والجوع والاضطرار إلى العمل بل سيهزم الموت، ليكتشف بعدها أنّه كان ربما أقل الشرور التي تحيط به شأنًا.

الشرق الأوسط؟ يا للمأساة، بقعة من الأرض عالقة بين فكي مسوخ الماضي، يتلفت أفراده خلفهم هربًا من أشباح لا تكتفي بالهمس، بل ترهب، توسوس، تُضِل، تكبلنا بأصفاد شيطانيّة غير مرئية من حرير وصلب.

كلّ ما نفعله في الأدب هو إعادة إطلاق الإنذار: إنّ مسارًا كهذا لن يفضي إلّا إلى مصير قاتم.

لقد مُزقنا تحت سطوة شيء ما، شيء مهول، أعمق من معرفته أو الجهل به، شيء معقود من أسلاف الأسلاف كهرم فوق كواهلنا، كمعابد من حجارة شديدة الثقل، من كلمات شديدة الوطأة والقداسة والجمال والبلاهة.

لدي خبر حلو، كلّ تلك المسوخ تتحلّل، أدرك أنّ في العمق، وعلى الرغم مما يبدو من وحشيتها، أنّها تلفظ صرخاتها الأخيرة، يدرك المجتمع حقًا، رغم العناد والمكابرة، أنّ القيم التي حملته طويلًا تتهاوى تحت قدميه، كلّ هذا العويل ليس إلا تشبثًا يائسًا ورخوا، إنكارًا لواقعٍ لن يستمر، ستُفضي الديكتاتوريّة التي جاءت من مخلّفات كهوف حجرية، رغمًا عنها إلى الحريّة، ستنشق من بين صلابتها العفنة ثمرتنا المحرمة التي طالما اشتقنا إليها، خرافات المجتمع وأشباحه، لن تجد زوايا مظلمة للاختباء، فقد كشفت جميعًا، أنّ بقاء أفرادها مرهون باختفائها. هذا ما يدركه الجميع وينكره الجميع، إنّ الخطيئة الأصلية قد تغير موضعها، فلم تعد تكمن في قبول آدم للتفاحة، بل رفضه لأكلها.

لا، لن تمحى فكرة، لن تختفي السماء، بل سترتكن إلى موضعها الأصلي في القلب، حيث تتسع أضعافًا مضاعفة، ومعها ستتسع كلّ أرض، ستتجاور الأفكار، مثلما أؤمن وآمل في تعايش لا سلطة فيه لفكرة على سواها، سنكتشف أخيرًا شرورًا أكثر جديّة من ألف شر تافه نعيشه. أحلم أن تتعلم الأديان شيئًا من "الطاو"، دون أن تتخلى عن فرادتها، حيث يمكن فهم دوافع أكثر نبلًا للشر وأكثر ذكاءً للخير، حيث يمتزج كلاهما معًا ويتبادلان المواقع. 

عندما نكتب في الشرق الأوسط أدبًا يتخيل المستقبل كديستوبيا، لا نفكر حقًا في المستقبل، كلّ ما يهمنا هو ألغام الحاضر وأشباحه، كلّ ما نفعله في الأدب هو إعادة إطلاق الإنذار: إنّ مسارًا كهذا لن يفضي إلّا إلى مصير قاتم.

لسنا محكومين بالعتمة واليأس، الجحيم فقط لمن آمن به واخترعه، الفردوس زنبرك العالم وسرابه الضروري، لن نفقد أبدًا أثره، لن نكف عن ملاحقته.

مقالات متعلقة

"متلازمة تدمر" ما الذي يمكن أن يحكي عنه السوريون والسوريات خلال فترات الحرب والثورة؟

05 نيسان 2021
لكن، ذلك حدث فيما كان الآلاف من السوريين يموتون، بشكل رئيسي بأيدي قوات نظام الأسد ومليشياته، وليس بأيدي متطرفي داعش. مئات الآلاف من الضحايا وملايين المهجّرين والنازحين والجرحى والمعتقلين، لكن...
مقدمة الملف: الكويرية والثورة: نحو أرشيف سوري بديل (الجزء الأول)

29 أيلول 2020
كيف ستبدو ذاكرة سوريا البديلة إذا ما أخدت على محمل الجد تجارب وقصص و آراء وتحليلات ومقاربات أفراد مجتمع الميم – عين في سوريا وفي الشتات؟ كيف لنا أن نقارب...
من حلب إلى بيروت، مدن تحترق وأزهار للقاتل

22 شباط 2021
عبر أحداث حقيقية، عاش بعضها وكان شاهدًا على بعضها الآخر، يروي المخرج السوري "عروة المقداد" ذاكرة مثقلة بالأحلام المجهَضة والآمال المهزومة كنتاج لحياة عاشها بين ثورتين (الثورة السورية وثورة ١٧...
الجسد بين الذاكرة والحدث

04 كانون الثاني 2021
تتنقل الكاتبة في ذاكرتها، فقد جعلها الحجر الصحي والانعزال عن العالم تتذكر بعض تفاصيل حياتها السابقة قبل اللجوء إلى ألمانيا، حيث كان والدها معتقلًا سياسيًا في سجون نظام الأسد. تسرد...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد