لم يتوقف الإنتاج المسرحي الرسمي في السنوات العشر الأخيرة، فقد حافظت مديريّة المسارح والموسيقا على خطتها السنويّة المقرّرة، إلا أنّ عدد عروض المواسم المسرحيّة كان متفاوتًا خلال السنوات الأولى من عدم الإستقرار الأمني في العاصمة بسبب صعوبة التنقل وخطورته، إن كان بالنسبة للعاملين في المسرح أو بالنسبة إلى الجمهور.
فرض الظرف الجديد أيضًا اختلافًا على التقاليد المسرحيّة المتعارف إليها قبل عام 2011 بالنسبة لمواعيد العروض المسرحيّة، فصارت تحدّد في أوقات مُبكرة نسبيًا، تحسّبًا للحواجز والمواصلات وغياب عامل الأمان، كما أنّ انقطاع الكهرباء شبه الدائم وانعدام المازوت لتشغيل المولدات فرض على العامليين في المسرح اللجوء إلى حلول وخطط بديلة في حال انقطاعها أثناء العرض المعتمد على الإضاءة والموسيقى.
لم تتوقف أيضًا إنتاجات مسرح الطفل والعرائس التابعة لمديرية المسارح والموسيقا، وأقيمت مهرجانات فصليّة خلال عطلتي الربيع والصيف لكن الجمهور كان يتفاوت بحسب الوضع الأمني والمواصلات وأزمة البنزين والطقس.
أصبح العمل في المسرح، وخاصة في السنوات الأولى خطرًا على العاملين فيه من فنيين وممثلين، والمهدَّدين بالموت في أيّة لحظة أثناء ذهابهم إلى عملهم أو عودتهم منه، فقُتلت مثلًا الممثلة، سوزان سلمان، وفني الصوت، شادي ريا، ومديرة قسم البرمجة في دار الأوبرا السوريّة، لمى فلوح. كذلك أصيب عدد من طلاب المعهد العالي للفنون المسرحيّة عند تساقط قذائف الهاون على المبنى عدّة مرات، أمّا المسرح نفسه، فبقي ذلك المكان الآمن البعيد عن كلّ ما يجري في الخارج ولو لبضع ساعات.
كما توالت نتاجات دار الثقافة والفنون (دار الأوبرا) ولم تتوقف الحفلات الموسيقيّة في قاعاتها الثلاث وكذلك عروض الرقص، إلا أنّها أُغلقت أمام العروض المسرحيّة لأسباب إداريّة وتنسيقيّة بينها وبين مديريّة المسارح والموسيقا، رغم أنّ كلا المؤسستين تتبعان وزارة الثقافة.
استمر المعهد العالي للفنون المسرحيّة بتقديم مشاريع التخرج الفصليّة للجمهور سنويًا وسط حضور لافت بتوقيع العديد من المخرجين كحسن عويتي، عروة العربي، بسام كوسا، فؤاد حسن، فايز قزق، غسان مسعود، سامر عمران، جهاد سعد، عبد المنعم عمايري وآخرين.
كما قدّم "المسرح التجاري" أيضًا عدّة عروض مجازفاً بالاستثمار في إنتاج خاص لنوع يعتمد الربح فيه على شباك التذاكر.
هجرة وأبواب مغلقة
خلال هذه السنوات العشر ابتعد الكثيرون عن العمل في المسرح، إمّا لسفرهم أو بسبب الأجور التي لم تعد تغطي كلفة المواصلات إلى المسرح. مثلًا كانت الأجور في العام 2011 حوالي 150 ألف ليرة سوريّة (ما يعادل 3000 دولار أميركي حسب سعر تصريف العملة آنذاك)، هذا الرقم بقي ثابتًا تقريبًا بالليرة السوريّة حتى عام 2021 رغم انهيار سعر الصرف إلى أدنى مستوياته. وبمقابل هذا الانكفاء لبعض الأسماء عن العمل في المسرح، ظهرت أسماء جديدة على الساحة المسرحيّة السوريّة لتعوّض النقص الحاصل في الكوادر المسرحيّة، متحصّلة على فرصة ما كانت ستُقدَّم لها من قبل.
ما يميز مرحلة السنوات العشر هذه غياب خطة ثقافيّة تتناسب مع الراهن أو ريبيرتوار فني واضح للمسرح القومي ممثلًا بمديريّة المسارح والموسيقى.
منذ توقف مهرجان دمشق المسرحي عام 2010، انعزل المسرح السوري عن المشهد الفني العربي والدولي. ومع بدء العمليات العسكريّة حُجبت سوريا عن المشاركة في المهرجانات المسرحيّة الدوليّة بسبب المنع على جواز السفر السوري ولعدم قدرة وزارة الثقافة السوريّة على تغطية تكاليف السفر بسبب تقليص كتلة ميزانيتها ومنع الإيفاد، إلّا أنّ بعض العروض استطاعت تجاوز هذا المنع ووصلت بجهود شخصيّة إلى مهرجان قرطاج المسرحي كـ"النافذة" لمجد فضة، وعرض"ستاتيكو" لجمال شقير الذي حصل على ثلاث جوائز، وعرض "تصحيح ألوان" لسامر محمد اسماعيل الذي تحصّل على جائزتين، كما شارك كلّ من "مدينة في ثلاثة فصول" لعروة العربي، "اختطاف" لأيمن زيدان، "هن" لـ آنا عكاش و"كيميا" لعجاج سليم في دورات مختلفة من مهرجان المسرح العربي الذي تقيمه الهيئة العربيّة للمسرح سنويًا في بلد مختلف، ووصل عرض "اعترافات زوجيّة" لمأمون الخطيب إلى مهرجان القاهرة التجريبي، وبذلك استعاد مسرح الداخل السوري القليل من الضوء على نتاجه خارج الحدود السوريّة.
غياب الخطة الثقافيّة
ما يميز مرحلة السنوات العشر هذه غياب خطة ثقافيّة تتناسب مع الراهن أو ريبيرتوار فني واضح للمسرح القومي ممثلًا بمديريّة المسارح والموسيقى، فتراوحت الجودة الفنيّة للعروض وانطفأ بعضها على حساب البعض الآخر، وظهرت أسماء لمرّة واحدة ثم غابت إلى الأبد على حساب أسماء تتكرّر في المسرح مع كلّ موسم جديد.
اعتمدت معظم العروض المقدّمة على الإعداد من نصوص عالميّة حمل بعضها إسقاطات مباشرة على الحرب السوريّة، وخاصة في السنوات الأولى، كـ"هاملت" و"عن الحب وأشياء أخرى" لعروة العربي، "دائرة الطباشير" و"فابريكا" و"اختطاف" لأيمن زيدان، "كلهم أبنائي" و"نبض" و"زيتون" لمأمون الخطيب، "براسكوفيا حرة" لفؤاد حسن وغيرها كثير.
أمّا الأعمال التي كتبت خصيصًا للخشبة فكانت قليلة مقارنة مع النصوص المُقتبسة كـ"خارج السيطرة" لوائل قدور، "حكاية بلاد ما فيها موت" و"بار في شارع الحمرا" لكفاح الخوص، "تصحيح ألوان" لسامر محمد اسماعيل، "هدنة" لعدنان الأزروني، "هنّ" لـ آنا عكاش، "الوصيّة" لفيصل الراشد، "المرود والمكحلة" و"زبيب" لعدنان العودة.
بعيدًا عن الحرب
بعد العام 2018 انحسرت تيمة الحرب تدريجيًا عن النصوص وما عادت تظهر حتى كخلفيّة لتتجه نحو مواضيع خارجة تمامًا عن هذا السياق منحازة للترفيه لإرضاء الجمهور المتعب من مواضيع حياته اليومية كـ"اعترافات زوجيّة" لمأمون الخطيب، "امرأة وحيدة" لنسرين فندي، و"أدرينالين" لزهير قنوع وغيرها.
أمّا على صعيد الشكل فقد توّجه المسرح السوري نحو المدارس الواقعيّة من حيث الأداء والمكان الواحد كـ"كومبارس" ليزن الداهوك، "طميمة" لعروة العربي، "البيت يفوز دائمًا" لمحمد اسطنبولي.
اعتمدت معظم العروض المقدّمة على الإعداد من نصوص عالميّة حمل بعضها إسقاطات مباشرة على الحرب السوريّة.
ابتعد المسرح عن التجريب وابتكار أشكال فنيّة ومعالجات بصريّة جديدة (إلا في إطار العمل مع الطلاب في المعهد العالي للفنون المسرحيّة) فغاب عنصر الدهشة والمفاجأة، وبقيت تجارب بتوقيع مخرجين قدامى تكرّر نفسها تمامًا كما كانت منذ ثلاثين عامًا عند بداية مسيرتهم المهنيّة كـ هشام كفارنة، زيناتي قدسيّة وحسن عكلا.
رغم هذا السياق، لمعت بعض الأعمال التي اعتمدت على اسم المخرج وممثلين من نجوم التلفزيون، فتحولت إلى عروض جماهيريّة بغض النظر عن مضمونها وشكلها الفني، فاستقطبت جمهورًا من خارج دوائر المختصين والمهتمين بالمسرح، كـ"دائرة الطباشير" 2014 لأيمن زيدان حيث قارب جمهور مسرح الحمراء 8500 متفرج خلال خمسة عشر يومًا من العرض، وأيضًا "الاختطاف" 2017 و"فابريكا" 2018 لزيدان أيضًا، و"كأنو مسرح" لغسان مسعود حيث بلغ عدد الجمهور حوالي 12 ألفًا، وعرض"هوى غربي".
المسرح المستقل
تابعت عدة فرق وتجمعات مسرحيّة سوريّة مستقلة عملها وفق خط وخطة فنيّة واضحة على خلاف مديريّة المسارح والموسيقى، كـ"مختبر دمشق المسرحي" للدكتور أسامة غنم فقدمت "العودة إلى البيت" 2013، "زجاج" 2015، "دراما" 2017 حاولت من خلالها تشريح واقع الأسرة السوريّة خلال الحرب وفرضت على المتفرج تقاليد جديدة في المشاهدة، و"فرقة ليش" لنورا مراد التي قدمت "ليتني حجر"، "بقاء"، و"معانقات"، و"مدرسة الفن" للدكتور سمير عثمان التي قدمت "المنتحر" و"درس قاسي"، و"فرقة الحكواتي" لكفاح الخوص و جميعها قدمت إنتاجاتها، معتمدة على صالات العرض التابعة لمديرية المسارح والموسيقى أو المعهد العالي للفنون المسرحيّة وفي أحيان كثيرة على أمكنة بديلة للعرض لعدم الحصول على الموافقات اللازمة للعرض على الخشبات الرسميّة وحصدت متابعة جيدة من قبل المهتمين.
إضافة إلى تجارب فنيّة فرديّة بدعم من مؤسسات ثقافيّة عربيّة كـ"النافذة" و"عرض البحر" لمجد فضة، "اليوم وأمس" لمريم علي، "كحل عربي" لسوزان علي، "سكتة قلبيّة" لمنصور نصر، "جفون" لرنا كرم وغيرها.
تعتمد معظم هذه الفرق أو الإنتاجات المسرحيّة الخاصة غير التابعة لفرقة ما في مصادر تمويلها على المنح المقدمة من مؤسسات كالمورد الثقافي، اتجاهات، مواطنون فنانون، غوته، المجلس الثقافي البريطاني أو صندوق الدعم العربي- آفاق.
قليلة هي العروض التي لمعت خلال هذه السنوات العشر، تجارب وحيدة لم تتكرر بنفس التوقيع، إن كان كإنتاجات برعايّة رسميّة من وزارة الثقافة أو كإنتاج مستقل، فغياب الخطة الثقافيّة والدعم المادي وغياب التعاون بين القطاع الفني الرسمي والقطاع المسرحي المستقل يلعب دورًا كبيرًا في ابتعاد بعض المخرجين المتميزين ممن ظلّوا في سوريا عن العمل في المسرح والتخلّي عن مشروعهم الفني المسرحي لصالح التلفزيون غير راغبين بتكرار التجربة ضمن ظروف عمل غير إنسانيّة.