أعرف باسل شحادة منذ سنوات طويلة، ربما كان لقائي الأول به في العام 2006 أو 2007 حين كنّا متطوعين في الجمعيّة السوريّة للبيئة. كانت الجمعية تقوم بنشاطات بيئيّة وتوعويّة في مدارس دمشق وشوارعها وأحيانًا تقوم بحملات تشجير وتوعية في مدن أخرى، لكن مركز نشاطها كان في دمشق. كنّا نذهب إلى مدارس ابتدائيّة ونعمل مع الأطفال أو مثلًا نقوم بحملات تنظيف نهر بردى أو نقوم بحملات تشجير في حدائق مختلفة أو حملات تنظيف في الشوارع أو حملات توعيّة للأطفال في الحدائق العامة، وما إلى ذلك من حملات تطوعويّة بيئيّة، حين كنّا نظن أنفسنا نغيّر العالم عن طريق نشاطاتنا الصغيرة.
بعد ذلك بسنوات قليلة، وربما كان العام 2009 أو 2010، تطوعت مع مجموعة من الشابات والشبّان، منهم من صاروا رفاق/ات درب وأصدقاء/ ات، في حملة شبابيّة غير مرخصة لتعليم نازحي/ ات شرق سوريا، ممن نصبوا خيامهم حول المدن الكبيرة، كحمص ودمشق وحلب، بسبب الجفاف الذي ضرب شرق البلاد منذ سنة 2005، دون أن تهتم بهم الحكومات السوريّة المتعاقبة بهم، ودون أن تضع خططًا لحلّ مشكلة الجفاف في مناطق تعتمد بشكل رئيسي على الزراعة.
هكذا صار مئات الآلاف من السوريين/ات نازحين/ات يسكنون/نن في خيام أُقيمت على عجل في مناطق قريبة من المدن الكبرى، كي يستطيعوا/نّ العمل بأي شيء من أجل بعض المال الذين يستطيعون/نّ من خلاله توفير بعض الخبز.
اخترنا حينذاك مخيمين واقعين بين مدينتي دمشق والقنيطرة في منطقة اسمها "رسم الطحين"، وصرنا نذهب إلى هناك مرة في الأسبوع على الأقل، كي نلعب مع الأطفال ونعلمهم بعض القراءة والحساب. كما كنّا نأخذ بعض الألعاب معنا ونجلب صحفيين وصحفيات لتغطية حياتهم/ تهن بهدف تسليط الضوء على هذه القضية، رغم منع عناصر الأمن.
كانت سيارة المخابرات تصل المكان معنا، يُجرون تحقيقًا شكليًا معنا في كلّ مرة، حتى باتوا يعرفون أسماءنا وأجوبتنا، حتى قبل أن نقولها.
باسل شحادة كان جزءًا من هذه المجموعة. لم يكن جزءًا من نشاط التعليم، حسب ذاكرتي التَعِبَة، بل كان ممن يحملون/نّ الهدايا للأطفال ويوزعونها عليهم في الأعياد، أو ممن يحملون/نّ ثيابًا وأغراضًا يحتاجها أهل هذه الخيام.
مرة أخرى التقيت باسل في مظاهرة، كان هو من منظميها. كان ذلك أمام السفارة المصريّة دعمًا لثورة مصر في شباط 2011، قبل بدء الثورة السوريّة. أتذكره هناك وأتذكر أنّ الضابط أخذه ليسأله أسئلة عن هذا النشاط كونه من المنظمين له. غاب ما يقارب عشر دقائق ومن ثمّ عاد وابتسامته تعلو وجهه. لا خوف يحتل ملامحه، لا ترى في وجهه سوى الأمل.
صدفة أخرى جمعتني بباسل، صدفة حزينة. يوم قتل نظام الأسد باسل شحادة في قصف على مدينة حمص، كان يوم عيد ميلادي.
لم نصبح أصدقاء قط، ما بيننا كان معرفة واحترامًا والكثير من النشاطات المشتركة والأصدقاء/ات المشتركين/ات، ممّا جعل لقاءاتنا كثيرة: في الحديقة البيئيّة وفي مقر الجمعيّة السوريّة للبيئة وفي حدائق دمشق وفي مخيمات النازحين وفي صالات السينما، وأقصد بالتحديد سينما الكندي ومهرجان دوكس بوكس، وفي حفلات مهرجان الجاز في قلعة دمشق أو في حديقة القشلة في دمشق القديمة حين تعزف فرقة موسيقيّة ضمن نشاط كان يُسمى حسبما أذكر "موسيقى على الطريق"، وفي مسيرات المشي التي ينظمها الأب فرانس، وعلى وجه التحديد أذكر مسيرًا في وادي النصارى، ربما كان ذلك في عام 2009، وغيرها الكثير.
صدفة أخرى جمعتني بباسل، صدفة حزينة. يوم قتل نظام الأسد باسل شحادة في قصف على مدينة حمص قبل تسع سنوات، كان يوم عيد ميلادي. هكذا صار عيد ميلادي مقترنًا بذكرى رحيل باسل، اقترانًا لا فكاك منه.
لم تنتهي علاقتي بباسل شحادة بموته
صوّر باسل شحادة فيلمًا في عام 2012 ولم يكمله بسبب موته. الفيلم يحكي عن مشاركة العلويين في الثورة السوريّة من خلال لقاءات مع ناشطين ينتمون بالولادة إلى الطائفة العلويّة، يحكون فيها عن تجاربهم في الاعتقال والتظاهر والنضال ضدّ نظام الأسد. وكانت مواد الفيلم بين أخذ ورد بين عدد من الأشخاص.
في النهاية طلب مني أحد أصدقائي في نهاية العام 2012، وكان يملك المواد المُصورة وحقوقها، أن أكمل العمل على الفيلم. تواصلت مع أصدقاء باسل ومع عائلته ومع كلّ من له علاقة بالفيلم، وعملت على إكمال الفيلم الذي خرج إلى الضوء سنة 2013. عُرِضَ الفيلم في ثلاثة عروض فقط، في اسطنبول وفي نيويورك وفي باريس، ومن ثمّ أوقفنا عرضه، علمًا أنّ قناة العربيّة قد أعلنت عزمها عرضه وكان هناك اتفاق بيننا على ذلك، حتى أنّهم نشروا إعلانًا يحكي عن عرضهم للفيلم، إلّا أنّ أحد شخصيات الفيلم قال إنّ وجوده في سوريا قد يعرّضه للخطر إذا ما استمر عرض الفيلم، فأوقفنا العروض، وما زالت أسباب عدم عرض الفيلم موجودة حتى يومنا هذا.
يوم عرض الفيلم في النادي السينمائي السوري في باريس، وكانت القاعة شبه ممتلئة، قال أحد أصدقاء باسل قبل بداية الفيلم في كلمة افتتاحيّة، إنّه لا يستطيع قول شيء عن باسل في وجودي، فأنا أحمل إرث باسل بهذا الفيلم. كانت كلمات ثقيلة عليّ، من أنا لأحمل إرث شخص ما، وكيف إن كان هذا الشخص هو باسل شحادة، من صار أيقونة في الثورة السوريّة؟
بإكمالي فيلم باسل، حتى وإن لم يعرض حتى الآن كثيرًا لكنه سيخرج إلى الضوء يومًا ما لا محالة، حمّلتني عائلته وأصدقاؤه ممن طلبوا مني إكمال الفيلم، مسؤوليّة كبيرة ستظل مثل جبل على كتفي، أحمله معي حتى نهاية حياتي.
هذان الشيئان سيربطاني بباسل ما حييت: الفيلم، ويوم مقتله الذي يصادف يوم عيد ميلادي، لكن ما يربطني به أكثر هو إيمان عميق بالحريّة وبالفن وبالكرامة الإنسانيّة وبالعدالة، إيمان لا حياد عنه، لا في الأمس، ولا اليوم ولا غدًا.