الممارسات المسرحيّة السوريّة خارج حدودها الوطنيّة

حوار مع عبد الله الكفري وسيمون دوبوا


بين سؤال التاريخ وسؤال الفن، إلى أي مدى يمكننا الحديث اليوم عن مسرح سوري له خصائص تميزه كموضوع وآليات كتابة؟ خصائص تسمح بقراءته ونقده وتحليله دون الخوف من حساسية اللحظة والتعاطف معها أو إنكارها؟ وما هي آفاق هذا النتاج في التطوّر والحضور في عالم يعاني من إشكاليات موروثة عن أزمنة كولونيالية، يبدو وكأنها لم تنتهِ بعد؟ للإجابة عن بعض هذه الأسئلة، تحاور الكاتبة والخبيرة في فنون العرض كلا من الكاتب والمخرج والمدير الثقافي السوري، عبد الله الكفري، والباحث الفرنسي المختص بسوسيولوجيا المسرح السوري المعاصر، سيمون دوبوا.

21 حزيران 2021

جمانة الياسري

خبيرة في فنون العرض، كاتبة، ومترجمة تعيش وتعمل في باريس. ساهمت في تصميم وتنفيذ العديد من البرامج الفنية لصالح مختلف الجهات العربية والدولية: دمشق عاصمة الثقافة العربية ٢٠٠٨، صندوق شباب المسرح العربي، برنامج المسرح في معهد صندانس، مهرجان دي-كاف في القاهرة، بيت الفنان حمانا، مؤسسة موسم في بروكسيل… كباحثة وكاتبة، تهتم الياسري بأسئلة إعادة تشكيل الهوية في المنفى وجغرافيا المتخيَّل، كما ترجمت العديد من النصوص المسرحية السورية والعربية إلى الفرنسية. وهي حاصلة على إجازة في الدراسات المسرحية من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، وماجستير في الأدب المقارن من جامعة باريس الثامنة.

منذ اندلاع الانتفاضة السوريّة وانزلاقها في حرب طاحنة أدَّت إلى نزوح الملايين داخل سوريا وعبر القارات، لعب الفنان السوري دور المؤرخ والمراسل الصحفي والقاص للإجابة عن سؤال: "ماذا حدث في سوريا فعلًا"؟ وهكذا ظهرت إشكاليّات جديدة على الممارسات الفنيّة السوريّة التي خرجت عن حدودها الوطنيّة، إذ وقع على عاتق الفنان أن يحكي كيف دُمرَت بلاده وتشتّت شعبه، وأن يساهم في حفظ ذاكرة أصبحت مهددة بالاندثار.

المسرح.. منصة للرواية السوريّة

ضمن هذا السياق، بات المسرح إحدى المنصات الأساسيّة التي تُروى عليها الحكاية السوريّة، وإن كان من بعيد. بين جيل من المسرحيين نقل عمله من دمشق إلى بيروت ومنها إلى برلين أو باريس وغيرها من أراضي اللجوء، إلى جيل دخل في سن الرشد مع دخوله في الحرب والشتات، كُتبت عشرات النصوص المسرحيّة التي تحاول تأريخ الكارثة والكشف عن الحقيقة عبر العودة إلى وقائع وأحداث زامنت، بل وحتى سبقت في بعض الأحيان لحظة عام 2011. منها مثلًا عرض "ما عم اتذكر" لوائل علي (2014)، الذي يسائل ذاكرة معتقل سابق انتقل إلى منفاه الفرنسي عام 1999، أو نص "الاعتراف" لوائل قدور الذي عُرض ونُشر عام 2018 بعد مروره بمرحلة طويلة من التطوير بدأت عام 2013. وبينما تدور أحداث "الاعتراف" على مشارف الثورة، يغوص نص "ماعز" للواء يازجي (2017) في دوامة العنف والعبث التي تحكم مصائر سكان إحدى القرى السوريّة ليس فقط منذ اندلاع الحرب وإنّما أيضًا ضمن نظام ديكتاتوري يتسلل إلى تفاصيل الحياة اليوميّة منذ عقود، وذلك عبر تراجيكوميديا محلية صرفة تُذكر بنصوص الشاعر والكاتب السوري محمد الماغوط (1934/ 2006).

أحوال المسرح السوري اليوم

17 أيار 2021
في افتتاحيّة ملف "المسرح السوري" تكتب الدكتورة ماري إلياس، وهي معدّة هذا الملف، عن المسرح السوري، وتسرد في نظرة عامة واقع هذا المسرح وماضيه، وتحكي عن آليات الإنتاج وعن الكتابة...

أُنتجت بعض هذه الأعمال، باللغة العربيّة وبالعاميّة السوريّة على وجه الخصوص ـ في العديد من العواصم العربية والأوروبية، حتى أنّ منها من حظي بجولات في أهم المسارح والمهرجانات العالميّة، كأعمال الكاتب محمد العطار والمخرج عمر أبو سعدة، وعروض "فرقة كون المسرحية" التي أسّسها المخرج والممثل، أسامة حلال، في دمشق (2001) قبل أن ينتقل عملها إلى بيروت عام 2013، وغيرها من الأعمال المسرحيّة التي قام عليها فنانون سوريون اضطروا لنقل عملهم إلى خارج سوريا كــ"تجمُّع مقلوبة" في ألمانيا الذي يضم منذ عام 2017 مخرجين وكُتاب وممثلين سوريين وغير سوريين، ومن مؤسسيه الكاتب المسرحي مضر الحجي والممثلة أمل عمران.

ومن المهم أن نشير هنا إلى أن هذه المادة تحاول التفكير في التجارب المسرحيّة السوريّة المبنيّة على نصوص مكتوبة بما في ذلك الكتابة الجماعيّة، أي أنّها لا تتناول عروض الرقص وعروض الأداء متعددة الوسائط التي أنتجها فنانون سوريون في السنوات الأخيرة، والتي تستحق تخصيص مادة مستقلة تقرأ وتحلّل تعدديّة أشكال هذه العروض اليوم وتطور وسائطها.

المسرح والتضامن مع القضيّة

إن برزت مجموعة من المسرحيّات السوريّة التي لفتت النظر وجالت العالم في السنوات الأخيرة، تعذَّر إنتاج وترويج عدد كبير من هذه النصوص، أو بقيت محصورة في فضاءات هدفها الأول: دعم قضايا اللاجئين ومناقشة مسألة المنفى. وفي هذه الفضاءات، قد يكون تحوَّل الإطار السياسي والإداري الذي يعمل من خلاله الفنان إلى موضوعة محوريّة طاغية على العمليّة الفنيّة وعلى الحكاية التي يريد أن يرويها الفنان عبر عمله.

جمانة الياسري: إن برزت مجموعة من المسرحيّات السوريّة التي لفتت النظر وجالت العالم في السنوات الأخيرة، تعذَّر إنتاج وترويج عدد كبير من هذه النصوص، أو بقيت محصورة في فضاءات هدفها الأول: دعم قضايا اللاجئين ومناقشة مسألة المنفى. وفي هذه الفضاءات، قد يكون تحوَّل الإطار السياسي والإداري الذي يعمل من خلاله الفنان إلى موضوعة محورية طاغية على العمليّة الفنيّة وعلى الحكاية التي يريد أن يرويها الفنان عبر عمله.

 هكذا شهدنا إنتاج عدد كبير من الأشكال المسرحيّة الصغيرة التي تهدف بالدرجة الأولى إلى تأكيد منتجيها على تضامنهم مع القضيّة السوريّة ورغبتهم بالمساهمة في اندماج الفنانين السوريين في بيئة عملهم الجديدة. وإن كانت النوايا حسنة، إلّا أنّ هذه المبادرات أدت إلى عزل جزء من النتاج المسرحي السوري المعاصر -وغيره من النتاج الفني الآتي من مناطق تدور فيها نزاعات وحروب- عن تاريخ المسرح والفن المعاصر، لتحصره في إطار النشاط الاجتماعي والسياسي. في الوقت نفسه، رأينا مؤخرًا اهتمامًا متزايدًا في الأوساط الأكاديميّة بهذا النتاج المسرحي والفني، ليس فقط باعتباره مادة شبه أنثروبولوجيّة تسمح بقراءة وفهم التاريخ أثناء تشكله، وإنّما أيضًا ضمن الاهتمام المتزايد في الأوساط البحثيّة بالممارسات الفنيّة والثقافيّة العربيّة الراهنة باعتبارها تسمح بإعادة النظر بمعنى المُعاصرة من منظور غير-أوروبي.

بين سؤال التاريخ وسؤال الفن

المسرح السوري خلال السنوات العشر الأخيرة

24 أيار 2021
قليلة هي العروض التي لمعت خلال هذه السنوات العشر، تجارب وحيدة لم تتكرر بنفس التوقيع، إن كان كإنتاجات برعايّة رسميّة من وزارة الثقافة أو كإنتاج مستقل، فغياب الخطة الثقافيّة والدعم...

بين سؤال التاريخ وسؤال الفن، إلى أيّ مدى يمكننا الحديث اليوم عن مسرح سوري له خصائص تميّزه كموضوع وآليات كتابة؟ خصائص تسمح بقراءته ونقده وتحليله دون الخوف من حساسيّة اللحظة والتعاطف معها أو إنكارها؟ وما هي آفاق هذا النتاج في التطوّر والحضور في عالم يعاني من إشكاليات موروثة عن أزمنة كولونياليّة يبدو وكأنّها لم تنتهِ بعد؟

للإجابة عن بعض هذه الأسئلة، حاورنا الكاتب والمخرج والمدير الثقافي السوري، عبد الله الكفري، والباحث الفرنسي المختص بسوسيولوجيا المسرح السوري المعاصر، سيمون دوبوا.

عبد الله، أنت كاتب ومخرج ومدير ثقافي سوري تعيش اليوم في بيروت حيث تدير مؤسسة اتجاهات- ثقافة مستقلة. من عملك في المسرح ومراقبتك للمشهد المسرحي داخل وخارج سوريا خلال العشر سنوات الماضية، عمّا يتحدث المسرح السوري اليوم وكيف؟

يفرض السؤال التوّقف مطوّلًا عند إمكانيّة التوافق على ما هو المسرح السوري أصلًا، خاصة بعد مروره برحلة غنيّة ومليئة بالمخاضات خلال العقد الماضي. لاستكشاف المعاني التي يمكن تركيبها فيما يخص دراماتورجيا المسرح السوري، أتوقف أولًا عند النص باعتباره المكان المحوري الذي يختبر فيه المسرحيون سؤال المسرح، في الوقت نفسه الذي يحاولون فيه فهم ما حدث وإعادة سرد الحكاية وفق قوالب لم يتم التجديد بها بالضرورة لصالح إنتاج معنى.

عبد الله الكفري: بقيت الطبقة الوسطى هي أكثر الطبقات المُمثلة والحاضرة كمتن للأحداث في نصوص تحاول الإجابة عن أسئلة هذه الطبقة أمام التحولات التاريخيّة الراهنة.

في النص، شهدنا حضور عدد من المضامين، أهمها الحرص على صياغة الواقع ومحاولة تقديم رواية عما حدث ويحدث، وشهدنا نصوصًا بدأ منتجوها يعرِّفونها على أنّها إنتاج سياسي أولًا. كما اختلفت العلاقة مع اللغة بشكلٍ لا عودة معه، فبدأت اللغة تتحرّر من قيود الرقابة ساعيةً نحو التنقيب في عمق مكونات سوريا عبر التبئير والتعاطي مع اللهجات، فحضرت المناطق والقرى والمدن والجهويّات. بقيت الطبقة الوسطى هي أكثر الطبقات المُمثلة والحاضرة كمتن للأحداث في نصوص تحاول الإجابة عن أسئلة هذه الطبقة أمام التحولات التاريخيّة الراهنة: مصير العائلة والانقسامات السياسيّة التي قادت إلى كشف انقسامات أكثر عمقًا، الخيارات الأخلاقيّة أمام لحظة الكشف الحاصلة في سوريا، الإرباك الحاصل لما هو مأمول من هذه الطبقة واستحالة الاستمرار بقبول التبريرات والمساومات السابقة… كما يجب الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي التحوُّل من المفاهيم العامة إلى الثورات الشخصيّة، كالتمرّد على الأهل والقيم الاجتماعيّة، الخيارات الجنسيّة، وغيرها من الموضوعات الذاتيّة والحميميّة.

قد تكون سمة دراماتورجيا المسرح السوري الأساسيّة هي محاولة صياغة الواقع بشكلٍ مبعثر، والبعثرة هي شاهد على تفكك المعنى وعلى الحاجة لعرض ومشاركة هذا التفكّك مع العالم.

سيمون، ناقشت في عام 2019 رسالة دكتوراه عن المسرح السوري في المنفى، تناولت فيها جيلاً من النساء والرجال العاملين في المسرح، وذلك عبر تحليل مساراتهم من دمشق إلى برلين أو باريس، مرورًا ببيروت وبأراضِ عبور أخرى. ما هي برأيك أهم خصائص المسرح الذي يتم إنتاجه اليوم خارج سوريا؟

أعتقد أنّ أحد الأجوبة يكمن في كون الفنانين السوريين يواجهون اليوم حاضرًا شديد الزخم وأنّهم يحاولون مراقبة هذا الحاضر وفهمه. يطرح الفنانون السوريون بشكل مستمر سؤال موقع الفنان في مجتمع فقد معنى الوحدة والتجانس. أرى أنّ هذا البعد التأملي هو من خصائص الدراماتورجيا السوريّة المعاصرة الأساسيّة، إن كان عبر "أنا" الكاتب الحاضرة فعلًا على الخشبة أو في خبايا تقنيات الكتابة نفسها، كما هو الحال على سبيل المثال في مسرح وائل قدور. إنّه بحث شخصي أيضًا، إذ أنّ الفنان السوري يبحث اليوم عن موقعه في مختلف المجتمعات التي تشكِّل جمهوره. قد تكون تعدّديّة الجمهور المُحتمَل من خصائص المسرح السوري المعاصر أيضًا.

سيمون دوبوا: يطرح الفنانون السوريون بشكل مستمر سؤال موقع الفنان في مجتمع فقد معنى الوحدة والتجانس. أرى أنّ هذا البعد التأملي هو من خصائص الدراماتورجيا السورية المعاصرة الأساسيّة، إن كان عبر "أنا" الكاتب الحاضرة فعلًا على الخشبة أو في خبايا تقنيات الكتابة نفسها.

أنا شخصيًا أدافع عن كون المسرحيين السوريين في مرحلة انتقاليّة لم تنته بعد، وبأنّ البحث والتجريب لا بدّ وأن يكونا من خصائص هذا المسرح. نحن الآن أمام انتقال تاريخي وجغرافي، انتقال من شكل إنتاج مسرحي غاية في المحليّة، بالكاد كان يقدَّم خارج سوريا، إلى شكل إنتاج خرج عن الحدود بالمطلق، وقد تكون عودة المسرح السوري إلى داخل حدوده السابقة عمليّة شبه مستحيلة أصلًا.

عبد الله، منذ خروج معظم المسرحيين السوريين من سوريا ومن منافيهم في البلدان المجاورة لسوريا، كُتِبت معظم النصوص المسرحيّة السوريّة في بلدان لا تتحدث اللغة العربيّة، حتى أنّه في بعض هذه البلدان تُعتبر اللغة العربيّة إشكاليّة أصلًا. إلى أيّ مدى أثّر الانتقال الجغرافي والانزياح اللغوي والاجتماعي في تطور المسرح السوري في السنوات الأخيرة؟

من حكايات المهمشين إلى الحكايات الفانتازيّة

31 أيار 2021
في مقالته ضمن ملف المسرح السوري، يكتب علاء رشيدي عن المسرح السوري في لبنان، وعن أنماط هذا المسرح وعن الموضوعات التي تناولها.

أظن أنّ سؤال اللغة في النص السوري فيه تعقيدات كبيرة، بعضها على سبيل المثال له علاقة بالتنميط الحاصل في بعض السياقات بما فيها تلك التي تتقن اللغة العربيّة كما هي حالة لبنان مثلًا، حيث انتقل ويقيم الكثير من صُنّاع المسرح السوري، وبعضها خاصة بإشكاليّات متعلقة بالوضع القانوني والاجتماعي كما في أوروبا وبشكلٍ رئيسي في ألمانيا وفرنسا، إشكاليّات عميقة ناتجة عن كون أغلب الفنانين السوريين يتوجهون اليوم إلى جمهور لا يتقن لغتهم ممّا قد يخلق صعوبة في تلقي نتاجهم. وإن بدت هذه الإشكاليّات تقنيّة بالدرجة الأولى (متابعة العرض ومتابعة الترجمة في الوقت نفسه)، إلّا أنّها تعيد تركيب عملية التلقي بالمطلق. وهنا يجب أن نشدّد على أنّ اللغة خيار في الإنتاج الفني وليس فقط أداة تواصل، كما أنّها أداة فنيّة وسياسيّة في الوقت نفسه. إنتاج نص عن سوريا بالعاميّة السوريّة، مختلف عنه بالفرنسيّة أو بالألمانيّة، ولا يعني تملّك الكاتب من الإنجليزيّة أو الفرنسيّة أو الألمانيّة الانتقال بالضرورة إلى الكتابة بهذه اللغة. كما أنّ حضور اللغة هو مؤشر تعويضي عن خسارة الجغرافيا، فمع خسارة سوريا تأتي اللغة كبديل يحاول نقل سوريا من الجغرافيا إلى تاريخ الفنون.

من ناحية أخرى، تأتي اللغة العربيّة في أوروبا بثقل تفسيرها وتلقيها لتضع منتجي المسرح في مكان لا يريدونه، وهذه الإشكاليّة لا تخص الفنانين القادمين من سوريا وحدهم، إنّما لها علاقة بسؤال العالم والآخر عمومًا، كما هو الحال مثلًا بالنسبة لفرقة Belarus Free Theatre مع اعتمادها اللغة الإنجليزيّة في عملها، ممّا فرض عليها الدخول في إشكاليّة المحلي والدولي وزعزع الأُسس التي انطلقت منها.

الإنتاج الفني بلغة ثانية هو مرحلة عبور حتميّة لكيفيّة حضور وتطور المسرح السوري في السنوات القادمة، وربما عرض "دمشق 2045" الذي كتبه محمد العطار وأخرجه عمر أبو سعدة عام 2019 في مسرح TEATR POWSZECHNY في وارسو، ليُعرَض باللغة البولونيّة ويدخل في ريبرتوار المسرح، هو من أولى التجارب في هذا السياق. المثير للاهتمام هنا، هو كونه عرض مبنٍ على حكاية تتخيَّل دمشق والمنطقة العربيّة بعد عقدين من الآن، وهذا المزج بين خيار اللغة الأجنبيّة والمستقبل قد يكون مقابلًا لخيار اللغة العربيّة والحاضر.

سيمون، أسئلة اللغة والترجمة من القضايا الأساسيّة التي تؤرِّق صُناع المسرح السوري في البلدان غير الناطقة باللغة العربيّة. مع ذلك، أشعر وكأنّ بعض المسرحيّات السوريّة التي تُكتب اليوم في برلين أو باريس، ربما تخاطب ضمنيًا جمهور المسرح الدائري في المعهد العالي للفنون المسرحيّة ومسرحيّ الحمراء والقباني في دمشق… ما رأيك؟

لم تمضِ أكثر من سبع سنوات على استقرار جيل المسرحيين الذين تشيرين إليه في أوروبا. علاقة هذا الجيل الذي درس وعمل في سوريا قبل عام 2011 مع مسألة اللغة والترجمة مختلفة تمامًا عن الأجيال التي تتدرَّب اليوم في أوروبا، والتي من المؤكد أنّها ستُنتج في المستقبل وبشكل طبيعي جداً مسرحًا باللغات المحليّة أو حتى متعدّد اللغات. يقع على عاتق الجيل الأول الحفاظ على الرابط مع تقاليد مسرحيّة معينة، وإن جزئيًا، ومع الجمهور السوري الأصل، في الوقت نفسه الذي يُطرح فيه هذا الجيل سؤال المسرح والإنتاج لجمهور لا يفهم بالضرورة لغته وحكايته.

سيمون دوبوا: نشهد اليوم ظهور جيل من الباحثات والباحثين الذين يصرون على تناول المسرح العربي كنص وأداء ووثيقة فنيّة بالدرجة الأولى. هناك وعي جديد بأنّ المسرح العربي لديه تاريخ طويل لم يتم تناوله بما فيه الكفاية ضمن الدراسات الشرقيّة وتاريخ الفن عمومًا. تسعى هذه الأبحاث إلى إعطاء المسرح العربي والسوري موقعًا حقيقيًا يتجاوز التعاطي معه كــ"فن مستورد"، وذلك ضمن سياق ومجهود أوسع يسعى إلى ترسيخ مقاربة غير كولونياليّة للمسرح العربي المعاصر في أوروبا والغرب.

فيما يخص فرنسا، قلائل هم المسرحيون السوريون الذين يجيدون الفرنسيّة بما فيه الكفاية للكتابة بهذه اللغة، إلّا أنّ شرط الإنتاج الفرنسي يفرض عليهم التفكير في مسألة اللغة منذ البداية. هكذا لاحظنا تطور أهميّة موقع اللغة في الإنتاج المسرحي السوري في فرنسا وأوروبا، إن كان على مستوى لغة الكتابة والمشروع، أو اللغة كأحد العناصر الأساسيّة على الخشبة، حتى أنّ الترجمة باتت ترافق الكتابة. ومن المؤكد أنّ دخول منتجين فرنسيين وأوروبيين على هذه المشاريع منذ مراحلها الأولى سرَّع الانتباه إلى مختلف أشكال الإعداد اللغوي التي يجب أخذها بعين الاعتبار، إذ أنّ النص المترجم يفرض أسئلة من نوع: أين سنعرض الترجمة؟ ما هي العلاقة بين النص المقروء وجسد الممثل على الخشبة؟ وبشكل أوسع، ما هي العلاقة بين الترجمة وسينوغرافيا العرض؟ كلّ هذه الأسئلة ترافق اليوم سؤال: لمن أكتب؟

سيمون، يقودني سؤال الترجمة إلى التساؤل حول الاهتمام المتزايد من قبل الأوساط الأكاديميّة الأوروبيّة بالنتاج الفني السوري. ما هو برأيك سبب هذا الاهتمام؟ وهل تعتقد أنّ هذا المجهود البحثي سيساهم في إعطاء المسرح السوري مساحة أكبر خارج حدوده الوطنيّة؟

التجربة المسرحيّة السوريّة الناشئة في أوروبا

07 حزيران 2021
اليوم وبعد مرور عشر سنوات على الثورة السوريّة، يواجه الفنانون السوريون تحديًا جديدًا يتعلق بمتطلبات سوق الإنتاج، التمويل والبرمجة المسرحيّة التي، في معظمها، تضع الفنان السوري في قالب جاهز: أن...

من المؤكد أنّنا نشهد اليوم ظهور جيل من الباحثات والباحثين الذين يصرون على تناول المسرح العربي كنص وأداء ووثيقة فنية بالدرجة الأولى. هناك وعي جديد بأنّ المسرح العربي لديه تاريخ طويل لم يتم تناوله بما فيه الكفاية ضمن الدراسات الشرقيّة وتاريخ الفن عمومًا. تسعى هذه الأبحاث إلى إعطاء المسرح العربي والسوري موقعًا حقيقيًا يتجاوز التعاطي معه كــ"فن مستورد"، وذلك ضمن سياق ومجهود أوسع يسعى إلى ترسيخ مقاربة غير كولونياليّة للمسرح العربي المعاصر في أوروبا والغرب. صحيح أنّ العالم الأكاديمي يهتم بشكل خاص بالنتاج المسرحي السوري والعربي الذي تلى لحظة عام 2011، أولًا لأنّ سوريا والعالم العربي حاضرين بكثافة في الإعلام وفي المساحة العامة، ولكن أيضًا لأن هناك عدد كبير من الباحثين الفرنسيين وغير الفرنسيين الذي تربطهم علاقة قديمة وعميقة مع سوريا والمنطقة جعلتهم يأخذون موقفًا واضحًا من الحدث، حتى منهم من لعب دور الوساطة الدبلوماسيّة وأخذ على عاتقه المساهمة في ترسيخ الفنانين السوريين في مناخهم الجديد. ومن المؤكد أنّ هذه الأوساط الأكاديميّة التي يتقن جزء منها اللغة العربيّة، تلعب اليوم دورًا مهمًا على صعيد ترجمة النتاج المسرحي السوري وتسيير إيصاله إلى جماهيره المتعددة والجديدة.

عبد الله، حظي الفن السوري باهتمام لا بأس به بعد عام 2011، إلّا أنّ هذا الاهتمام قد فتر بعض الشيء، خاصة مع توافد ملايين اللاجئين إلى أوروبا، أيّ في اللحظة التي انتقلت فيها الإشكاليّة بالنسبة إلى المتلقي الغربي من أراض النزاع إلى أراض اللجوء. ضمن هذا المناخ الفكري والسياسي، الذي عقَّدته جائحة كوفيد-19 بعد أن كشفت عن هشاشة أنظمة وآليات إنتاج فنون العرض المعاصرة عمومًا، كيف ترى آفاق إنتاج وتلقي المسرح السوري في السنوات القادمة؟

أعتقد أنّ آفاق إنتاج وتلقي المسرح القادم من سوريا ترتبط بسؤال المسرح اليوم ومصيره في العالم. تمرّ الفنون بلحظة حرجة وفنون الأداء تقع في عمق هذه اللحظة. لقد دمّرت الجائحة فكرة التجمع والتواصل المباشر، والتي هي جزء من كنه فنون الأداء، كما حوّلت الانتباه عن أيّ قضية ثانية، وهذا الأمر ستبقى عواقبه لسنوات. لا شك أنّ التضامن ودعم فرق فنون الأداء يجب أن يكون جوهريًا في الفترة القادمة، والأهم ألّا تنحصر طرق الدعم على المنصات الرقميّة كونها تسائل الوسيط ذاته وتقوم بتدمير معنى "الآن/ هنا".

عبد الله الكفري: هناك فرصة ولو ضئيلة لموضعة سوريا في صميم ما يحدث عبر خلق مقاربة وسردية عن شرعيّة هذا البلد وفنونه وجلب حكايته إلى سياق عالمي اختبر هشاشة شبكات الأمان لسنة، في حين يختبر هذا البلد كافة أشكال الهشاشة منذ عقد كامل، ويستمر بالانتقال من جائحة إلى أخرى ومن إقفال قسري إلى آخر.

 كما أتوقع أنّنا سنشهد تأثيراتٍ كبيرة لاستخدام الطاقة النظيفة وعروضًا في أماكن مفتوحة تعتمد على تقنيّات رقميّة بشكلٍ أكبر، وللأسف ستشهد التجمعات الكبيرة انحسارًا وتراجعًا في عملها، حتى أنّ إنتاج العروض الجديدة سيتراجع قليلًا عمّا كانه قبل سنوات. لكن ورغم كل هذا، هناك فرصة ولو ضئيلة لموضعة سوريا في صميم ما يحدث عبر خلق مقاربة وسرديّة عن شرعيّة هذا البلد وفنونه وجلب حكايته إلى سياق عالمي اختبر هشاشة شبكات الأمان لسنة، في حين يختبر هذا البلد كافة أشكال الهشاشة منذ عقد كامل، ويستمر بالانتقال من جائحة إلى أخرى ومن إقفال قسري إلى آخر.

مقالات متعلقة

صناعة المسرح: المشي على الحبل

14 حزيران 2021
يواجه صناع/ات المسرح السوريين/ات الآن، وبعد مضي ست سنوات على وصولهم إلى ألمانيا تحديّات صعبة متعلقة بجوهر العمل المسرحي، وربما يجد الكثير منهم  أنفسهم في موقف صعب، يقتضي إيجاد نقاط...
المسرح داخل سورية بعد الثورة

05 أيلول 2019
إذا كانت القنوات الإعلامية تصف الحرب، بأنها مسرح كبير لعرض مشاهد الرعب القذرة التي حلت بالإنسان السوري، فإن المسرح السوري، مسرحاً داخل مسرح، تفاعل مع المسرحية الكبرى وقدم من خلال...
السرديّات السوريّة في مرآة الآخر. ما الذي غيّرته المنافي في سردياتنا؟

26 كانون الثاني 2021
ضمن ملف الرواية السوريّة تحاور معدّة الملف ومحررته روزا ياسين حسن المترجمين والمستشرقين "لاريسا بندر" و"شتيفان ميليش" وتتحدثه معهما في موضوعات السرد الروائي السوريّ والأدب السوريّ وعلاقته بالمنفى وتغيّره بعد...
الثورة والصراع على السرد

18 آذار 2021
ضمن مقالته في ملف الذكرى العاشرة للثورة السوريّة يكتب معتز الخطيب عن سرديات الثورة السوريّة المختلفة ويصنفها في فئات مختلفة ذاكرًا أهمية هذه السرديّات ونقاط الاختلاف فيما بينها.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد