المجدّرة هي الأمة، أمّا الباقي طوائف


أمّا في زمنا الحالي البائس الحزين، فإنّ أسعار البرغل تتساوى مع أسعار الأرز، إن لم تكن أغلى في بعض البلاد، لكن ورغم ذلك، يُمكن ملاحظة انتشار المجدّرة ببرغل بشكل أكبر نسبيًا في الريف، مقابل انتشار أوسع للمجدّرة برز في المدن الكبيرة.

17 أيلول 2021

دلير يوسف

كاتب ومخرج وصحافي من سوريا، مقيم في برلين- ألمانيا. أخرج عدداً من الأفلام السينمائيّة، وصدر له مطبوعاً: "حكايات من هذا الزمن" (٢٠١٤)، و"صباح الخير يا أحبّة" (٢٠٢٠)، و"قاعدة الخوف الذهبيّة" (٢٠٢٢)، "حكاية آدم بيرغمان، أو كيف أصبح الرجل ريحاً" (٢٠٢٤).

"والبرغلُ صديقٌ وفيٌّ للحمّص، ويُحبّ العدس ويُبدعان معًا أكلةً شعبيّة اسمها المجدّرة، ورد ذكرها في كتب الطبيخ العربيّة القديمة إلّا أنّها كانت من عدسٍ وأرزّ. ومن المعتاد أن يُنثر عليها الكثير من البصل المحمّر بزيت الزيتون وأن يؤكل معها مخلّل اللّفت أو سَلطة اللّبن بالخيار."
مقطع من الكتاب البديع "مطبخ زرياب" للكاتب والباحث السوري فاروق مردم بك.

 

المجدّرة أكلّة شاميّة، يطبخها أهل بلاد الشام وتشتهر بينهم، يُسميها البعض "مدردرة" إن طبخت مع أرز، لكن تسميتها الشائعة في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن هي "المجدّرة". وهل تحتاج المجدّرة إلى تعريف؟!

المجدّرة عدسً مطبوخ مع أرز أو مع برغل، يُضاف إليها بصل مقلي ذائب في زيت نباتي. لكن، ومع الأسف، لا توجد معادلة رياضيّة تحدّد عدد البصلات التي تكفي كلّ إنسان بالغ عند تناوله هذا الطعام.

أصل المجدّرة

لا يُعرف من أين جاء أصل الاسم. يقول البعض إنّ امرأة طبخت الأرز مع العدس، وقالت إنّ الطعام يشبه فتاة بيضاء أُصيبت بمرض الجدري، فصار الاسم مجدّرة. ويقول آخرون إنّ الاسم جاء من الجدارة، لأنّ المجدّرة جديرة بتصدر قائمة الطعام في أي بيت شامي، و"المجدّرة أكلّة مقدّرة" مثلما يقول أهل دمشق.

بشكل عام يُمكن القول إنّ أمّة المجدرة طائفتان: طائفة تطبخ العدس مع الأرز، وثانيةٌ تطبخها مع البرغل، وفي الحالتين يكون الطعام لذيذًا يذوب في الفم.

تقول الحكاية إنّ الأصل هو عدس طُبخ مع برغل لأنّ البرغل طعام الفقراء، والأرز كان أغلى سعرًا، فكلنا يعرف أنّ "العز للرز والبرغل شنق حاله"، فكان أهل الأزمنة الغابرة يُفضّلون البرغل، وصار يُقال إنّ المجدّرة المطبوخة مع الأرز بدعة مكروهة، لكن ومثل كلّ حكايات الزمان الغابر، لا تأكيد لهذه الحكاية، بل أكاد أقول إنّها حكاية مغلوطة.

أمّا في زمنا الحالي البائس الحزين، فإنّ أسعار البرغل تتساوى مع أسعار الأرز، إن لم تكن أغلى في بعض البلاد، لكن ورغم ذلك، يُمكن ملاحظة انتشار المجدّرة ببرغل بشكل أكبر نسبيًا في الريف، مقابل انتشار أوسع للمجدّرة برز في المدن الكبيرة.

من سوريا العثمانيّة إلى الأرجنتين

16 آب 2021
في بيروت، في العام 1913، تسلّل جدّي الأكبر إلى سفينة متجهة نحو الأرجنتين. السنوات والعقود التي تلت ذلك التاريخ هي تاريخ عائلتي، وكذلك جزء من قصة العرب الأرجنتينيين.

طوائف المجدّرة

بشكل عام يُمكن القول إنّ أمّة المجدرة طائفتان: طائفة تطبخ العدس مع الأرز، وثانيةٌ تطبخها مع البرغل، وفي الحالتين يكون الطعام لذيذًا يذوب في الفم، خاصة وإن جاور الطعام بعض اللبن أو البندورة (أو الطماطم كما يسميها أهل الأرض من غير الشاميين)، وإذا ما رافق الطعام كأسٌ من مشروب العرق، مشروب أهل الشام الكحولي المُفضّل، فذلك حُسنٌ يُضاف إلى حُسن.

مثل كلّ الأُمم، تنقسم أمّة المجدّرة إلى أغلبيّة نسبيّة تحبّ أكل المجدّرة مع البرغل، وهي أغلبية متعصبة، تقابل طائفة المجدّرة برز باستخفاف واستهزاء، وأكاد أقول، وليسامحني الربّ إن كنتُ مخطئًا، إن كانت المجدّرة سببًا لحرب أهليّة فإنّ طائفة البرغل هم أهل هذه الحرب وأصحابها وسببها ومُسببيها، أولئك المتعصبون الذين لا يقبلون الآخرين ولا ينفتحون على جديد العالم، أولئك الذين يرفضون في قرارات أنفسهم التطور، أولئك المتمسكين بآثار الماضي.

ينصح الأطباء بتناول المجدّرة بشكل دائم، لأنّها السبب الرئيسي لصحة الإنسان، فيما يقول أنثروبولوجيون أوروبيون، ربّما من باب العنصريّة، إنّ المجدّرة هي أصل الحروب الأهليّة التي لم تتوقف في شرق المتوسط.

لا أريد المبالغة، لكنّني أكاد أساوي بين العنصريين من محبي المجدّرة ببرغل (لاحظوا أنّني لم أُعمّم على كلّ محبي المجدّرة ببرغل، فأنا شخص لا يحبّ التعميم) مع من يصوّت للأحزاب اليمنيّة الفاشيّة في الانتخابات الأوربيّة (تمنيت أن أكتب الأحزاب اليمينيّة الفاشيّة في بلادنا، لكن لا انتخابات في بلادنا، ولا تصويت ولا من يحزنون).

لكن وبكل الأحوال، ومن باب المبدأ الغريب العجيب الذي يقول "أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي عالغريب" أقول إنّ المجدّرة، إن طُبخت بأرز أو ببرغل، هي الأمة، والباقي طوائف، لكن المجدّرة برز أطيَب.

سرد خيالي، وليس على الخيال من حرج

يأكل المصارعون المجدّرة ليصبحوا أقوياء، هكذا منذ العهد القديم. آلاف السنوات مرّت والمصارعون يقتدون بإله الأكل والوفرة، مجدّريانوس، فيأكلون المجدّرة التي تجعلهم يثقون بقوتهم، بغض النظر عن حالاتهم الجسديّة. ظنّ القدماء أن لا فوز لقوم لا يأكلون المجدّرة.

الروزانا... مجاعة، وسفينة، وأغنية شعبية عبرت الحدود

12 شباط 2021
لا أحد يعرف تحديدًا من أين جاءت الأغنية الشعبية الشامية الشهيرة "عَ الروزانا"، سواء تصاعدت أنغامها من سفينة إيطالية تحمل الطعام خلال المجاعة الكبرى في لبنان، أو من قصّة حب...

صارت المجدّرة أيقونة هذه البلاد، بلاد الشام، بحضاراتها وممالكها وملوكها وخلفائها وأمرائها. يجتمع الناس ويحكون الحكايات، يشربون العرق، ويقطفون الزيتون ويعصرونه، يتحدثون ويلعبون ويتسامرون، ومن ثمّ يأكلون المجدّرة قبل أن يعودوا إلى ديارهم. هذه هي تقاليد هذه البلاد منذ عصر حمورابي، وحتى يومنا هذا.

ينصح الأطباء بتناول المجدّرة بشكل دائم، لأنّها السبب الرئيسي لصحة الإنسان، فيما يقول أنثروبولوجيون أوروبيون، ربّما من باب العنصريّة، إنّ المجدّرة هي أصل الحروب الأهليّة التي لم تتوقف في شرق المتوسط. لا يعرف أولئك الباحثون المستشرقون إنّ المجدّرة (برز أو ببرغل فلا فرق هنا، فالأصل هو العدس) تمنح الجسم طاقة وحيويّة متجدّدة وقوة تعادل قوة خمسة ثيران هائجة.

لا يعرفون أنّ في المجدّرة كلّ ما يحتاج الجسم من بروتينات وكالسيوم، وهي تساعد على تقويّة الأسنان وتقويّة الأعصاب، وتكاد الحكاية الشعبيّة تقول إنّ المجدرة تشفي من كلّ الأمراض، ففيها كلّ ما يحتاج المرء، حتى كاد بعض الناس أن يأكلوا المجدّرة كلّ يوم.

لكن، أتكون حقًا المجدّرة، أو الطاقة التي يمنحنا إياها هذا الطبق، أساس حروب بلادنا مثلما يقول الأوروبيون؟ وهل تنتهي هذه الحروب إذا ما أقلعنا عن أكل المجدّرة؟ لا أظنّ ذلك. فوالله وبالله وتالله لن ننزع عن أكل المجدّرة حتى وإن أطبقت السماء على الأرض، فالمجدّرة طعام أهل الجنة، كما يعرف الجميع.

مقالات متعلقة

حين أصبحت "مثقَّفًا"

26 آب 2021
اليوم، إذ أستعيد ما سبق بخجل، أتساءل: لم فعلتُ ذلك؟ ما الذي كان يحكم وعيي آنذاك حول مفهوم المثقف؟ وكيف تشكّلت هذه الرؤية في ذهني عن صورة المثقف، وهي صورة...
عن "هلق" واللغة المحكيّة

01 تموز 2021
عن اختلاف اللغة المحكيّة عن اللغة الفصحى في العربيّة، وعن الحروب بين محبي اللغتين يكتب دلير يوسف: لا توجد لغة أجمل من أخرى، فلكلّ منها خصائصها وميزاتها وموسيقاها وحروفها المختلفة...
رحلة الزيت والشتاء

06 تشرين الثاني 2020
لا يمكن لأي نص يتحدث عن عفرين، وإن كان موضوعه الزيت وأشجار الزيتون وطقوس مواسم القطاف، أن يتجاهل احتلال المدينة الذي يستفز الحاضر، مثلما يوقظ الذاكرة ويتسلّح بها. ولهذا، هذه...
العودة المستحيلة

15 تشرين الثاني 2020
السؤال الذي لا يزال عالقًا في ذاكرة السوريين الذين استمعوا إلى خطاب الأسد ضمن مؤتمر عودة اللاجئين هو: كيف لمن تعاونوا على قتلي ذات مرة، أن يكونوا هم أنفسهم من...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد