حسيبة عبد الرحمن، اسم لا يحتاج المرء حين ينطقه لأن يشرح أيّ شيء، فهنا لا مجال لأيّ تشابه أسماء أو خلط، فلا يوجد في سوريا كلّها، من أقصاها لأقصاها، إلا حسيبة واحدة. ومن لا يعرف حسيبة؟
إنّها حسيبة التي ما إن يُنطق اسمها أو يلفظ في مجلس ما أو يشار إليها، حتى تتلفت الرقاب نحوها بتقدير ناجم عن احترام كبير وجليل لامرأة يعرف كلّ من عرفها وعرف تاريخها أنّها جُبلت من صوّان. كيف لا؟ وهي التي لم تخف السجن يومًا ولا السجّان؟ كيف لا؟ وهي التي تركت كلّ الامتيازات التي توفرت لها، فقط لأنّها أحسّت بأنّ "ظلمًا قد وقع"؟ كيف لا؟ وهي التي تركت كلّ شيء لتتبع نداء الحريّة وتواجه واحدًا من أسوأ دكتاتوريّات هذا العالم، متحمّلة في سبيل ذلك السجن والتعذيب ولوم الأهل والفقر وفقدان الأمان، مواجهة كلّ سلطة أرادت أن تفرض عليها رأيًا أو قيدًا لا يتلاءم مع نداء الحريّة النابع من داخلها، بدءًا من رفاق حزبها مرورًا برفيقات نضالها وصولًا إلى ثوّار اليوم الذين يضعون معاييرهم الخاصة للثورة. لم تأبه حسيبة يومًا لأحد سوى رأيها الذي تتشبث به بعناد البلاد التي أنجبتها، فبقيت امرأة حرّة تغرّد خارج السرب، أيّ سرب كان، لها رأيها المختلف دون أن يقلّل هذا من عزيمتها أو شدّة نضالها ضد دكتاتوريّة لا تزال تقارعها من الداخل، حيث أرادت البقاء في زمن الهجرة إلى الشمال، لتحرس مفاتيح البيوت التي تركنا، وربما ما تبقى من أحلامنا أيضًا.
أردنا في حكاية ما انحكت، في هذا الملف أن نكرّم حسيبة عبد الرحمن، لنضالها الطويل، ولصمودها، ولشجاعتها التي علمتنا الكثير، حريّتها التي تُمارس بغريزة معمّدة بفكر أصيل، للصوت المختلف عنّا والمذّكر لنا بأنّ مساحات الديمقراطيّة تبدأ من بناء مساحات الاختلاف لا التوافق.
هل لك أن تختصري حياتك في لحظات/ فلاشات مكثّفة؟
بدأت قراءة أسئلة حكاية ما انحكت، وأنا أحاول لملمة فجوات امرأة في حالة تيه، وذاكرة يحدّها فراغ الأزمنة وضياع الأمكنة. وهذا ما استطعت القبض عليه من لحظات فارقة من عمري الذي تعدّى الستين عامًا.
اللحظة الأولى في مفترق طرقي: لحظة ودعت حزب وشبيبة البعث والاتحاد النسائي، وهي أماكن نشاطي في المرحلة الإعداديّة وبداية الثانويّة. لقد كنتُ أبرز فتاة نشيطة عندهم، وبيدي صلاحيات لا تتلاءم وعمري آنذاك، غادرت تلك الأمكنة لا ألوي على شيء بسبب إحساسي بظلم وقع.
اللحظة الثانية يوم تعرّفت على بعض الشخصيّات من رابطة العمل الشيوعي، وكنت آنذاك في الثانويّة العامة، فبدأ ظل السياسة يحوم حولي، والخيالات النضاليّة تتوهج أمامي، كما أنّ الروايات التي قرأتها حوّلتها إلى فيلم خام دخل غرفة المونتاج.
أمّا اللحظة الثالثة فهي لحظة الصدمة، عندما أُلقي القبض عليّ للمرة الأولى على الحدود اللبنانيّة السوريّة وحقيبتي مليئة بأدبيّات ورسائل وجوازات سفر للحزب، باعتباري كنتُ مراسلة بين مركزي دمشق وبيروت. وفرحتي يوم إطلاق سراحنا وجميع معتقلي الرابطة (عدا الضبّاط) بشكل جماعي، يومها نُقلنا في "باصات" وكنّا نغني للشيخ إمام وكأنّنا في رحلة، وذلك في عام 1980.
اللحظة الموجعة الأخرى يوم كُشفت هويتي الحقيقيIة (كنت متخفية) في اعتقالي الثاني. فبعد (21) يومًا من التحقيق، مارست خلالها تأليف القصص حول شخصيتي وهويتي المزورة، وكنت على أبواب الحريّة لعدم وجود تهم سوى الغباء الذي قادني إلى ذلك البيت الذي اعتقلت فيه (حسب المحققين). لكن الصدفة والقدر والحذر الأمني قاد المحققين لإدخالي إلى مهجع المعتقلات لمعرفة ما إذا كانت إحداهن تعرفني، فوقع المحظور، وتعرفت عليّ إحدى المعتقلات، وصرخت بعلو صوتها (ودون قصد طبعًا): "حسيبة عبد الرحمن!؟"، فأعيد التحقيق معي من جديد، ودخلت دوامة التعذيب الفعلي هذه المرة.
اللحظة الخامسة عندما جاءتني دعوة إلى مؤسسة هاينريش بول وسافرت إلى أوروبا (2001/ 2002) بعد (25) قرار منع للسفر، وهذا ما حرمني من حضور اليوبيل الذهبي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1998) والذي كنت مدعوة إليه.
نعيش الآن في مستنقع موت حاضر أو مؤجل، بلد مدمر يتقاسمه لئام الأرض في الداخل والخارج، ونحن مقيّدي الأرجل والأيدي، وبالأحرى نساق ورقابنا مشدودة إلى نير وسط متاهات ضياع لزمن يرجع نحو الوراء.
اللحظة القاسية، كانت لحظة وفاة والدي الحنون وأنا في المعتقل (1989). ولحظة قاسية أخرى كانت عندما اعتُقلت للمرة الثالثة (بتهمة استقبالي هيئة العفو الدولية) في دمشق (1993) وبقيت (ثمانية أشهر)، ودون أي زيارة بعد وفاة والدي لعجز أمي عن تأمين زيارة لي. وقبلها، وبعد شهر ونصف اعتُقلت في بيت المرحوم سلامة كيلة وبقيت أيامًا. عدا عن فقداني لأمني الشخصي نتيجة الاستدعاءات الأمنيّة والتوقيف ليوم وساعات. وعندما نشرت روايتي "الشرنقة" حُقّق معي لأشهر (حتى مات حافظ الأسد).
أين تعيش حسيبة اليوم؟ ماذا تفعل؟ كيف تقضي يومها؟
أبدأ بالحاضر البائس ووقعه على تفاصيل حياتي اليوميّة، بدءًا من تناول القهوة المرّة كهذه الأيام إلى قراءة الأدب الكلاسيكي هربًا من قباحة العنف ووقاحة صيده وقنصه المجاني لأرواح البشر، سواءً بالرصاص أو بالطائرات أو باليأس والخوف (تعدّدت الأسباب والموت واحد). كما أشاهد أفلام الأبيض والأسود الخالية من العنف، وهو هروب ثان من مرارة الحاضر العلقمي وشباكه المرميّة على دوامة كآبة ترخي سدفها على الروح فيصعب الخروج من براثنها. وبنفس الوقت أستقبل أصدقاء من مختلف الأجيال (شباب وشابات طلاب جامعة) وآخرون من رفاق الأمس (مخلّفات الحرب الباردة)، إضافة إلى أصدقاء جدد تعرّفت عليهم بعد العام 2011. كما أقوم ببعض الأنشطة الاجتماعيّة والسياسيّة، وأتابع إصلاحات بيتي العربي، بالأحرى غرفتي وأرض الدار. في بداية الحراك واظبت على كتابة يومياتي (2011/ 2012) ربما أنشرهم في يوم ما، هي حالة من حالات تعرية الذات.
في "موسم الهجرة إلى الشمال"، بعيدًا عن الحرب والجوع والوطن والموت، آثرتِ البقاء في الداخل، لماذا؟
في زمن موحش ومتوحش كهذا الذي أعيشه، أسأل نفسي لماذا قرّرت البقاء في سوريا؟ عِندًا؟ حبًا؟ خوفًا من الغربة؟ أم واجبًا أخلاقيًا؟ أم كلّ ذلك؟ أو لأنّها أولًا وأخيرًا بلدي القاسي المدمّر المشتّت المفقر، القاتل والمقتول، الظالم والمظلوم، المأخوذ سفاحًا؟ إنّه وطني، وكفرسوسة ببساتينها الغنّاء (البازخة بأشجار المشمش والتوت الشامي والرمان) أيام زمان، وبساطة أهلها، هي مرتع طفولتي وشبابي، الحيّ الذي لم أغادره إلا عندما تخفيت، واعتقلت. أنا مسكونة وساكنة فيه، رفيق أيامي وأحلامي وفرحي وخيباتي. وهو الحيّ الذي شطرني شطرين (هل لبرج الجوزاء دور في شطري ما بين سكني وحبي وبين مكان ولادتي) شطر رحل مع بيتي عمي الذي عشتُ معهم وبينهم منذ طفولتي الأولى (تعرّضوا إلى مضايقات أمنيّة عديدة بسببي مع إنّهم مع النظام وفي أجهزته الأمنيّة والعسكريّة). وبعد عام من الانتفاضة ومع بداية تحولها نحو العنف والتطييف، هُدّد عمي البالغ من العمر ثمانين عامًا وزوجته، ورحلّوا عن بيتهم بعد خمسين عامًا من العيش في كفرسوسة، وبقي نصفي الثاني في البيت المهجور وبين صدى سكانه. عشت أيّامًا عصيبة في بيت خالٍ وجيران نصفهم ترك سكنه وغادر. ولكي لا يُقال إنّ سكان كفرسوسة قاموا بطرد الأقليات، أصريّت على البقاء وحيدة دون كهرباء، وأحيانًا بلا ماء، مع بقيّة جيراني من الحيّ ذاته، والذين حاولوا مساعدتي قدر المستطاع، باعتباري وحيدة! لم أبت ليلة واحدة خارج المنزل، وسط الخوف والقذائف الطائشة التي كانت تنهال علينا يوميًا ويكثر نزولها عند خروجنا لتشيع الشهداء المدنيين ممن حصدهم الرصاص غيلة، وكان ذلك بين عامي 2011 و2013، وهي المرحلة ذاتها التي غادرت فيها الأقلياتُ الحيّ، أو معظهم. لكن دمشق لم تستسلم لهذه الموجة المذهبيّة، فأمسكتْ نفسها، وأوقفت جائحة الطائفيْة المتسرّبة إليها عنوة.
قليل جدًا ما نعرفه عن طفولة حسيبة عبد الرحمن، حديثنا عن طفولتك؟ أين ولدت؟ عائلتك؟ أيّة مشاهد تتذكرينها الآن من طفولتك؟ ماذا كنت تحلمين حين كنت طفلة؟ وماذا تحقق من أحلامك الطفوليّة بعد كلّ هذه السنوات؟
بقيت صورة (صورتي) الطفلة الفقيرة المدللة، والتي تربّت شبه وحيدة في بيت مُتدّين ولكنه حنون، تلك الطفلة بضفائرها وشرائطها البيضاء، كانت تكتب على حيطان غرفتها اسم شخص كان يسكن فيها، وأُعدم في صباح انقلاب عام 1963، وأصبحت الغرفة سكنها الدائم، لتلقي عليها أثقال موت يرافقها حتى سجنها، وليلة اعتقالها (اعتقالي) فقط غادر وجه الشاب الذي أُعدم أحلامها الطفوليّة مع صورة الديكتاتور. تلك الصور تركت بصمتها عليّ كعصفوري الصغير الذي تركته لأمه فأكلته القطة (لازال عندي موقف من القطط إلى هذا اليوم). وفي مرحلة الطفولة ظننت أنّني سأكون مُدرّسة ككلّ طفلة، ولكن حبّي تحوّل إلى السينما (كنت أتمنى العمل بها ممثلة ومخرجة!) والقراءة، حيث كنت أستعير الروايات الكلاسيكيّة من المدرسة أو من مكتبة قريبة، أو أشتريها بالفرنكات التي أوفرها، فجمعت مكتبة كبيرة لكلاسيكيات الأدب العالمي وكتب عن الاشتراكيّة، استولى عليها رجال الأمن مع صوري، ثم زرروها ما بين أفرعهم وبسطات بيع الكتب مع قرآن والدي الذي كان يعتز به (مات وهو لا يعرف لماذا أخذوا قرآنه؟) فأصبحت امرأة بذاكرة مبتورة ناقصة، ومعها قصصت شعري الطويل الذي غزاه الشيب باكرًا، فكانت والدتي تقول: إنّ الشيب جاء من الخوف والاعتقالات المتكرّرة والتعذيب الشديد الذي تعرّضت له في كلّ اعتقالاتي، إذ أمضيت حوالي ثمانية أعوام متقطعة في السجون وأربعة أعوام على حافة الخطر والاعتقال (مرحلة التخفّي). والطفلة الهادئة المدلّلة تصبّغ جلدها بالأزرق والبقع، إضافة إلى فقدان حاسة الذوق والكسور البسيطة في أصابعها والرضوض في جسدها، فأصبحت تثير الضجيج والغبار من حولها. ثمّ توفي والدي ووالدتي وهما يتساءلان: لماذا دخلتُ السجون؟ وأنا كنتُ أمام فرصة انتهازيّة كبيرة لأصبح من البيروقراط المتنفّذ، أو أدرس في معهد للسينما التي أحبّ وأعشق ولكني "راديكاليّة المشاعر" لم أقبل أن أبقَ في مكان ما لي موقف منه، ولم يخطر في بالي أو في بال أهلي أنّني أكره الظلم وروحي تبحث عن العدل. لذا تركت حزب البعث باكرًا، والتحقت بالمعارضة الشيوعيّة، بحثًا عن العدل ورفعًا للظلم. وإن كان الأدب قد لعب دورًا كبيرًا في نقلتي هذه، فالأدب أخذني ويأخذني إلى خيالات وأماكن وظلال فرحة حينًا وحزينة في أحيان أخرى، غنيّة وفقيرة بالتناوب، ولا يزال تأثيره عليّ، ولو بحدود، إلى الآن. لذا كان أول الأشياء التي فعلتها عندما خرجت من المعتقل للمرة الثالثة، هو تجميع أوراقي (كتبتها في المعتقل) فأعدت صياغتها ونشرتها في رواية عنوانها "الشرنقة" (كي أتخفّف من أثقال السجن) تتحدث عن سجن النساء، بالإضافة إلى مجموعة قصص قصيرة (سقط سهوًا) تدور في السياق ذاته. بعدها لملمت قصصًا من أهلي و زوارهم وأنا طفلة، ونسجت خيالات خوفهم وتنقلهم وإيمانهم وطقوسهم في رواية (تجليّات جدي الشيخ المهاجر)، لتكون الرواية صرخة مبكرة عمّا قد يفعله الخوف والتقوقع والجهل والأدلجة الدينيّة والمذهبيّة قبل الانفجار الكبير، والذي ساقنا إلى مقتلة، وإلى بلد حيّ ميت، مهجّر مكلوم، بلد الأموات فيه شهداء أو قتلى (ضاقت بهم البلاد وأنهارها وجبالها فأضحوا أرقامًا دون أيّ معنى أو قيمة). التسمية تخضع للمُسمّي.
إذا كان النظام يتحمّل المسؤوليّة الأساسيّة والرئيسيّة لما جرى نتيجة استخدامه القمع والعنف بكلّ أصنافه ومندرجاته، فالقوى الأخرى القصوويّة تتحمّل جزءًا ولو ضئيلًا ممّا وصلنا إليه منذ أن فتحت جيوبها ورؤوسها وبيوتها للأجندات الخارجيّة.
الآن نعيش في مستنقع موت حاضر أو مؤجل، بلد مدمر يتقاسمه لئام الأرض في الداخل والخارج، ونحن مقيّدي الأرجل والأيدي، وبالأحرى نساق ورقابنا مشدودة إلى نير، وسط متاهات ضياع لزمن يرجع نحو الوراء، نحو البدائيّة، سواء في الحياة اليوميّة، بدءًا من استخدام الحطب كوقود وتدفئة إلى القناديل الزيتيّة (رومانسيّة إكراهيّة وفظة) بعد كلّ الأحلام بالتغيير إثر انتفاضة 2011. درجتُ على تسميتها انتفاضة وليس ثورة لأنّ الثورة تعني رؤيّة وبرنامج وأدوات ثوريّة وهذا لم يتوفر فيما عرف بالربيع العربي.
كيف تنظرين لما حصل ويحصل في سوريا؟
مع الأسف لم أكن متفائلة بالحراك السوري رغم المشاركة به في البداية، لأنّني راقبتُ منظومة النظام وموقفها من الحراك، فهي تعتبره إسلاميًا، وبالتالي أجندتهم (من وجهة نظرهم) يعني طرد الأقليات والفتك بهم. لذلك لم يقف الفقراء من بيئة النظام وغيرهم من الأقليّات (وإن بدرجة أقل) مع الانتفاضة، وأعني كتلًا شعبية وليس مثقفين ونخب. وهذا ما أعطى سمة دينيّة ومذهبيّة للحراك وسهّل التحريض الطائفي والمذهبي، سواء في دوائر النظام وحلقاته الخاصة، أو في تيار المعارضة لشدّ العصب المذهبي وتوسيع حجم الاحتجاج، والذي سهّل بدوره إدخال أجندات غربيّة وإقليميّة وإغراق الانتفاضة بالمال والسلاح والتطييف. كنتُ أرى منذ البداية أنّنا ماضون نحو صراع دام، ولكن ما وصلنا إليه حالة من السرياليّة، فكلّ شيء دُمّر: الحجر، البشر، القيم الأخلاق، المبادئ... كلّه يباع في سوق نخاسة مع سوق التعفيش، وإذا كان النظام يتحمّل المسؤوليّة الأساسيّة والرئيسيّة لما جرى نتيجة استخدامه القمع والعنف بكلّ أصنافه ومندرجاته، فالقوى الأخرى القصوويّة تتحمّل جزءًا ولو ضئيلًا ممّا وصلنا إليه منذ أن فتحت جيوبها ورؤوسها وبيوتها للأجندات الخارجيّة. ولن نخرج من مستنقعنا هذا دون حل سياسي يلملم ما تبقى منّا ومن بلدنا، وهو يتطلب توافقًا دوليًا إقليميًا، لأنّ السوريين، نظامًا ومعارضة وشعبًا، خرجوا من اللعبة والفعل السياسي، وأصبح الحل بيد القوى الخارجيّة للأسف الشديد.
شهادات عن حسيبة عبد الرحمن:
التقيتُ حسيبة عبد الرحمن لأول مرة في بيتها في كفرسوسة، في أيلول 1978، بعد ساعات قليلة من معرفتي بمداهمة عناصر المخابرات لمنزل أسرتي، في قريتي كفرية. كان غرض الدورية هو اعتقالي بتهمة الانتماء إلى رابطة العمل الشيوعي. وفي ذلك اليوم عرفتني حسيبة باسم أحمد الذي بات مطلوباً لأجهزة المخابرات.
كانت عينا حسيبة تتقدان بالحماس، وبدتْ لي في أول لقا،ء وفي اللقاءات العديدة الأخرى التي تَلَتْهُ، قبل اعتقالها لأول مرة في عام 1979، وبعد إطلاق سراحها، كأنها في كل لحظة على أتم الاستعداد لتغيير العالم، الذي كان، ولا يزال، عصياً على أن يصبح أكثر عدلاً وجمالاً. كان الفقر يحد بيتها من الجهات كلها. هل قلتُ بيتها؟ الحق هو بيت العائلة وليس بيتها. كان ذلك البيت غرفة من غرف بيت عربي قديم في كفرسوسة. وكانت تلك الغرفة : غرفة ضيوف وغرفة نوم ومطبخ . ومع أن مساحتها أقل من مساحة المطابخ الحديثة في البيوت الفسيحة، فقد كانت أكثر رحابة. اتسع فضاء تلك الغرفة/البيت للكثير من أحلام ومواجع وحوارات الشباب والصبايا الذين كانوا يقصدون حسيبة للحوار معها أو لمناكفتها أو لمعاتبتها. عندما اعتقلت حسيبة لأول مرة، كنت أتذكرها وهي تدخن وتنفث مع دخانها تعليقاتها وضحكتها، وترمي أحيانا جملاً مقتضبة تخفي وراءها وجعاً لا ترغب بإظهاره.
بعد خروجها من المعتقل كانت من بين المعتقلين القلائل الذين عادوا إلى العمل السياسي. اعتقلت ثانية عام 1986 وثالثة عام 1993 وأمضت ما يزيد على سبع سنوات في السجن بتهمة الانتماء إلى رابطة ومن ثم حزب العمل الشيوعي في سورية. وبدا لي في كل لقاءاتي معها أنها نذرت نفسها لقناعات تأصلت في نفسها، ولعل أهمها فعل أقصى ما يمكن لتحقيق العدالة على الأرض.
غادر كثيرون، ومن بينهم أنا، مواقعهم ضمن التنظيمات السياسية، وبقيت حسيبة في موقعها رغم ما كابدته وما كابده اليسار الجديد في سورية من انكسارات وتشتت بفعل القمع.
فتحت انتفاضة السوريين أفقاً نحو التغيير ، سرعان ما أغلقته الأسلحة، سواء التي تساند النظام أو التي تحاربه. وتعددت الميليشيات وأضحت الحرب متعددة الجنسيات. غادر الكثيرون، ومن بينهم أنا، البلاد التي تحولت إلى جحيم. وبقيت حسيبة مع الذين لم يغادروا بيوتهم، وبدتْ لي وكأنها تحتضن تجربتها بأبعادها السياسية والأخلاقية والوجدانية بصفتها ميراثها، وتحمي ما تستطيع النبض الذي لا يزال يجري في عروق ذلك الميراث.
سنديانة سوريا (ناطورة المفاتيح)، المرأة السوريّة التي تمرّدت على الواقع السوري الاجتماعي والسياسي بكلّ سلطاته، ودفعت ثمنًا باهظًا حيال ذلك من عمرها في سجون الأسد، وبؤس الحياة، وأيضًا الرفض المجتمعي لها كامرأة تقارع نظام الاستبداد والمجتمع المُنتهِك لحقوق الإنسان بشكل عام، والمرأة بشكل خاص، هي المناضلة الفذّة والناشطة في مجال حقوق الإنسان.
تعرفت على حسيبة عبد الرحمن في سجن دوما في أول زيارة لي لإحدى سجينات الرأي، كانت قريبتي، دهشتني بردها على والدها الذي كان يقف بجانبي على الشبك، صبيّة بعمر الورد، ذات القوام الرشيق والشعر الكثيف الطويل الذي ينساب على ظهرها، وهي تقول: "لا يابيي لاتخاف على بنتك، هدول السجّانين أجبن من أن تتخيل، لا يمكنهم لمس شعرة من رأسي". وقبضت خصلة من شعرها وشدّتها نحوه.
هذا كان ردّها على والدها حين قال لها: "ياريت يا بنتي اعتقلوني أنا وكلّ شباب العيلة وإنتي لاء"، لأنّ اعتقال المرأة، وتحديدًا، لأنّها متمرّدة على السلطة القائمة كان يعتبر معيبًا جدًا في مجتمعنا. نعم أدهشتني بصوتها العالي وهي تتحدى السجّان والسجن وجميع السلطات، أدهشتني أنّها لم تخف من هذا النظام القابع على صدورنا، على الرغم أنّني لم أكن أخافه أيضًا، ولكن صبايانا، كما اعتدنا أن نقولها دومًا (صبايانا) اللواتي داخل السجن كنَّ حقًا من أشجع المخلوقات، كم تحمّلنَّ عذابات الجلّاد وعتم السجون ونظرة المجتمع إليهنّ.
منذ تلك الزيارة، وفي كلّ زيارة لي إلى سجن دوما، كنتُ أحسّ أنّني أزور حسيبة أكثر من قريبتي، كنت أتجاذب معها أطراف الحديث عبر الشبك ومع صبايا أخريات، تعرّفت على معظم صبايانا عبر شبك سجن دوما.
خرجت حسيبة من السجن، وكان الخبر لدي من أجمل الأخبار التي سمعتها في حياتي، لكن لم أكن أعرف بيتها كي أقوم بزيارتها. تقابلنا كثيرًا في محكمة أمن الدولة العليا حيث كانت محاكمة شباب حزب العمل جارية. حسيبة خرجت من السجن لتكمل نشاطها السياسي والحقوقي، قدمت الكثير الكثير لرفاقها، وهم داخل السجن، كنّا نلتقي في بيتي بدمشق، ودائمًا تبادر بكلّ محبة لخدمة فكرها وخدمة الآخرين.
حسيبة حرمت نفسها من كلّ ما تحبه المرأة وكلّ ما تتمناه أيّ امرأة، حسيبة نذرت حياتها وحتى هذه اللحظة، ولم يخفت صوتها لحظة واحدة، وبقيَ صوتها عاليًا يصل عباب السماء، مطالبة بالإفراج عن المعتقلين ومدافعة عن حق الإنسان في الحياة الكريمة الحرة، وأثق أنّها ستبقى كذلك حتى آخر لحظة، متمسكة بالدفاع عن حقوق الإنسان وعن الوطن الذي حلمت به وحلمنا معًا به، وطن لجميع الناس، وطن يحمي الإنسان، بغض النظر عن انتمائه الديني والقومي والعرقي والإثني، وطن لنا جميعًا.
ناطورة المفاتيح الآن حسيبة، قدمت الكثير الكثير، دون أن تنتظر أيّ مساعدة من أحد، قدمت وعاشت بؤس الحياة، قدمت ومازالت تعطي وتعطي دون أيّ مقابل.
سنديانة سوريا، تتصل بي الآن وتسألني: "سموح، كما ينادوني كلّ صديقاتي وأصدقائي، شو إبعتلك من هون؟ على الرغم من أنّي مقيمة حاليًا خارج سوريا، سموح أنا طالعة عالضيعة: رح ابعتلك مع أيّ حدا طالع لألمانيا، كذا وكذا وكذا). حسيبة عبد الرحمن جميع من يعرفها أو يسمع باسمها، يعلم تمامًا كم هي مناضلة حقيقيّة، دفعت ثمنًا حيال كلمتها يوم كانت الألسن السوريّة مختبئة خلف الأبواب الخائفة.
حسيبة يا سنديانتنا، كوني بخير دومًا حتى نكمل المشوار معًا، مازال هناك الكثير من العمل، والكلام أيضًا. كوني بخير كي نثرثر قليلًا كما كنّا نفعل يومًا ما. ناطورة المفاتيح حسيبة عبد الرحمن، سنديانة سوريا.
عند الحديث عن حسيبة عبد الرحمن (رفيقة الدرب لزمن طويل في الكفاح ضد الديكتاتوريّة والفكر الظلامي على السواء) يحار المرء كيف يصفها، وهي المتعددة بصفاتها المميزة... فمن أين تبدأ مع حسيبة؟ من شخصيتها القوية بابتسامتها الساخرة وروح التحدي الظاهرة، أم من صفة الصراحة اللاذعة التي تتمتع بها حين يتطلب الموقف، أم من شخصيّتها الواضحة البسيطة دون مجاملات أهل المدينة، أم من كونها مناضلة سياسيّة عتيقة في تنظيم سياسي سرّي (حزب العمل الشيوعي) في ظلّ نظام حكم لا يسمح بالعمل السياسي من أصله، فما بالك بالمعارضين والمعارضات له ولسياساته؟
لقد ترتب على التزام حسيبة السياسي والدفاع عن قناعاتها ومواقفها، اعتقالات متكررة بسنوات سجن طويلة، منها ست سنوات دفعة واحدة، زارت خلالها العديد من الأفرع الامنيّة، تعرضت فيها للكثير من التعذيب والتنكيل، كما عانت فيها الكثير من القهر والحرمان، مثل الكثير من رفيقاتها.
كالعديد من المعتقلين السياسيين حاولت حسيبة عبد الرحمن أن توثق جزءًا من تاريخ سوريا القمعي، عبر الأدب مثل رواية "الشرنقة" وقصصها القصيرة "سقط سهوًا"، سعت في أعمالها إلى إظهار الكثير من تفاصيل عالم المعتقلين، كذلك تناولت عالم السجن المليء بالصغائر. أمّا في عملها "تجليّات جدي الشيخ المهاجر"، نحت حسيبة إلى تناول الموروث الشعبي لفئة اجتماعيّة معيّنة، لتمزج فيها الأسطوري بالواقعي، وتحاكي الراهن العنيف القاهر، عبر التاريخي العنيف والمرير، بأسلوبها الخاص. هنا من النافل القول، إنّ أعمال حسيبة (كما أيّ كاتب آخر) طبيعي أن تثير ردود فعل متباينة، معارضة ومؤيدة للإسلوب أو للمضمون، وهو أمر متوقع ومفهوم في عالم الكتابة والأدب. وهذا أمر لا ينقص من قيمة أعمال حسيبة، بل ربما يكون حافزًا على المزيد من الكتابة الإبداعيّة.
كانت هذه لمحة قصيرة جدًا عن الصديقة حسيبة عبد الرحمن، لن تفيها حقها قطعًا، متمنيًا لها الصحة والسلامة والمزيد من الإبداع، مع شكري الجزيل لمن رشحني لهذه الشهادة ولموقع "حكاية ما انحكت".
كان مساءً خريفيًا جميلًا، حين ربطني أحد الرفاق بصبيّة سأقع تحت سحرها منذ اللحظة الأولى. فيما بعد سأعرف أنّ اسمها حسيبة عبد الرحمن، انحدرت إلى دمشق من ريف مصياف الجميل، محمّلة بالحب والتوقّد والأمل وزيت الزيتون. ستسحرني بشكل خاص بحضورها الطاغي.
كانت تمثّل كلّ ما يحبّه الفتى الثوري في الفتاة الثوريّة: تدخّن السجائر الوطنيّة بشراهة، تغب العرق البلدي ولا تسكر، تناقش في السياسة والفكر، مغرمة بروزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت وتروتسكي، تقرأ بمتعة كتاب "استمع أيها الصغير" لفيلهلم رايش، وتحب بابلو نيرودا ولوركا ومحمود درويش. وكانت جميلة. أسرتني بشكل خاص يداها الرشيقتان وأصابعها النحيلة، التي تشبه أصابع عازفة بيانو أكثر مما تشبه أصابع مناضلة ثوريّة.
في كلّ مرّة تعود فيها من الضيعة، كانت تحضر معها مونة تكفي قبيلة، فتطبخ لنا برغلا بالحمّص. أزورها في بيتها المتهالك في حيّ كفر سوسة القديم، وأحضر معي نبيذًا وطنيًا رخيصًا، ونبدأ معاركنا السياسيّة، فورًا، وبدون مجاملات. كانت حسيبة تعتقد أنّ الرابطة ليست ثوريّة بما فيه الكفاية. وهي لم تكنْ تُكِنّ احترامًا كبيرًا للقياديين في الرابطة كما كان يفعل معظم الرفاق. كانت تراهم بشرًا، تعرف معظمهم. وكان يلذّ لي أحيانا أن أناكدها، لأراها وهي تنفعل، فتزخّ الكلمات من بين شفتيها كحبّات بَرَدٍ صلبة وقوية وجميلة.
ستُعتقل حسيبة مرّات كثيرة. فقدت القدرة على عدّ المرّات التي اعتقلت فيها أو استدعيت إلى فروع الأمن. ولسوف تنال قسطًا وافرًا من التعذيب، بسبب رفضها الاعتراف بما يطلبه منه المحقّقون؛ و"وقاحتها" الجميلة في الرد على إهاناتهم بإهانات مماثلة. وستكتب حسيبة رواية جميلة بعنوان "الشرنقة"، تحكي فيها عن تجربة السجن الأولى، وتفتح أراق السجن ورقة، ورقة. لم يحبّ البعض روايتها، واعتبرها "استعراضًا للغسيل الوسخ"، أمّا حسيبة، فكعادتها، ابتسمت بسخريّة، وتركت الأمور وراءها، وبحثت عن شيء جديد.
وبينما تشردنا نحن في كلّ أصقاع الأرض، ستظل حسيبة في دمشق، تقاوم التهجير والاستملاك ورجال الأمن والثوريين الجدد المحترفين على فيسبوك، تتشبث ببيتها وتطالب بمعرفة مصير رفيقها المغيّب عبد العزيز الخيّر، وتعدّ من تبقّى في المدينة من رفاق وأصدقاء. "أنا صامدة في قلعتي،" تقول المرأة التي لا تزال تحتفظ بسحر الصبية ذاتها، "لن أغادر طفولتي ومدرستي وذكرياتي، لن أغادر منزلي إلّا إذا انتصر الموت". كتبت لها قبل يومين اسألها عن حالها، أجابتني: "تحياتي وقبلاتي. الكهرباء مضروبة"!
التقيتها في آذار عام 1988، كناّ أول وأكبر دفعة معتقلات من حزب العمل الشيوعي تصل إلى سجن دوما بعد انتهاء فترة التحقيق، استقبلتنا مع فاطمة عباس وهند قهوجي وأم كرم (زهرة كرديّة) وشفق العلي، تقاسمن معنا منذ اللحظة الأولى ثيابهن والطعام والمكان، وكان على حسيبة أن تشاركني نصف فراشها.
كنّ قد شكلنّ قبل مجيئنا حالة عيش جماعي تسوده العدالة، حيث يقع على الأهالي تلبية كلّ الاحتياجات، ومع كلّ دفعة جديدة ومع قطع الزيارة عن الجميع بما فيهم معتقلات الإخوان، كانت عائلات رفيقاتنا الخمسة قد أصبح لديهم عشرات البنات في الداخل، بما فيهم عائلة حسيبة، والديها العجوزين وأختها التي بدأ ينحسر نور عينيها شيئًا فشيئًا.
مرة رأتني أبكي شوقًا لأمي في باحة السجن، هزتني قائلة: "إياك أن تُري السجينات دموعك، نحن معتقلات رأي، لا نبكي، كنا نعرف مسبقًا نهاية طريق نضالنا وجاهزات لدفع الثمن، هذه صورتنا هنا منذ سنوات"، ثم ضحكت ساخرة وشتمت النظام الذي وفق وصفها بدأ يعتقل أطفالًا.
لا فارق كبير في عمرينا لكنها بعد ذلك أصبحت أمي، حسيبة التي تُظهر الكثير من القسوة، خاصة في النقاشات السياسيّة وعندما تتعرض المبادئ التي تؤمن بها لأيّ مسّ تتحول إلى مقاتلة شرسة، هي ذاتها التي تدمع عينيها وهي تتحدث عن الفقراء وعن الحب والأحلام الكبيرة والواقع المرّ وتقطع حديثها "الدرامي" النادر بضحكة صاخبة وتعليق ساخر.
عندما وصل نبأ وفاة والدها لم تبك، تحجرت مقلتاها لأيام، بكت بعدها ساخرة: "يا لعائلاتنا "المبتلية ببنات صاحبات مبادئ وكثيرات أحلام"، لينتهي بعدها الكلام في هذا الموضوع. لكن الحزن المغلف بالسخريّة سيكون علامة وصفة بارزة لصديقتي المناضلة المعتدة بذاتها فيما بعد لدرجة صفع ضابط أو مدير السجن إن تلفظ بما يسيء معاملتنا خارج إطار التحقيق: "طبيعي أن يعتقلونا لأنّنا نهز سلطتهم لكن ليس من حقهم استصغارنا أو إهانتنا ونسكت"، هكذا ستقول وهي تتلقى عقوبتها فيما بعد.
في عام 1992 وعندما عدت للدراسة جاءت لزيارتي في المدينة الجامعيّة، نظرت في الغرفة المزدحمة والصاخبة بأصوات الأحاديث ورائحة الطبخ، ودون أن تسأل رأيي لملمت كتبي وقالت: هيا بنا.
عشت في بيتها، غرفة طينيّة واحدة، فيها سرير كبير وكنبة وخارجه غرفة صغيرة باردة هي المطبخ، هناك درست وترفعت إلى السنة الثالثة، بعد أن تقاسمت معها الفراش وشاركتها لقمة عائلاتها للمرة الثانية.
أهاتفها كلّ حين وأسمع صوتها المبحوح آتيًا من دمشق، تحكي عن الفقر والتعب والذل وتسخر، تدلّلني بكلمات حب لم تتبدل، أفكر فينا حين سنلتقي، ستكون كما هي، جملًا ثقيل المحامل، عزيز النفس، سأسند رأسي على كتفها، وتستند كتفها على كفي وأسند كفي على أرض تتسع لكلتينا وننام بهدوء ... بهدوء.