صور بيروت: بين شرارة الحرب ونار الانتفاضة

وراء الكاميرا وأمامها: بعد ظهر 17 تشرين الأوّل في بيروت


"ربّما اعتدت على احتمال أكثر المشاهد عنفًا ودمويّة خلال تصوير الأحداث، لكن كلّ تلك المشاعر والتأثّر كانت تنصهر في الصورة النهائيّة". هذا ما يقوله المصوّر اللبناني مروان طحطح وهو يستعرض لنا في هذه المادة صعوبات التصوير في بلد مثل لبنان، بدءًا من تصوير الاحتجاجات إلى انفجار المرفأ إلى منع الصور من العرض من قبل السلطات وعناصر الأحزاب، الذين ما زالوا يخافون من الصورة. حقًا، لم يخافون من الصورة؟!

30 تشرين الثاني 2021

بيروت 2020
مروان طحطح

مصوّر منذ عام 2000، شارك في عدّة ورش عمل للتصوير الفوتوغرافي. حاصل على شهادة في التصوير الفوتوغرافي عام 2016 من الـ «École Nationale Supérieure de la Photographie» في فرنسا. شارك في عدّة معارض في لبنان، فرنسا وبرلين والعالم العربي. الى جانب عمله في لبنان مع عدّة صحف ومجلات، يعمل حاليًا كمصوّر حرّ مع عدّة وكالات عالميّة.

هذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن التصوير الفوتوغرافي والمصورين/ات العرب/ات، بتمويل من مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية، من إعداد المحرّر الضيف المصوّر مظفّر سلمان.

لا أذكر كم كانت الساعة تحديدًا، حين بدأ الناس بالتجمع رفضًا للضريبة المُضافة على تطبيق الواتس آب. أذكر أنّ الوقت كان ما بين الخامسة والسادسة عصرًا، وكان من المفترض أن أذهب في التاسعة مساءًا لتصوير افتتاح أحد المهرجانات الموسيقيّة. مرّ الوقت سريعًا، وراحت رقعة المظاهرة تتسع بدعوة من مجموعة من الشابات والشبان والناشطين/ات في بيروت والمناطق الأخرى. بدأتُ أتابع الأخبار على التلفزيون، وأرصد تسارع حركة الغضب في الشارع. ما لم أتوقعه كان رؤية الاحتجاجات وقد بدأت تغزو المناطق والمدن خارج العاصمة.

اتصلتُ بإحدى الصديقات التي تعمل في المهرجان، لأسألها إذا ما كان الافتتاح قائمًا، فأكّدت لي أنّ الافتتاح سيقام في موعده. كمصوّر، شعرت أنّني عالق ما بين رغبتي في النزول إلى الشارع، واضطراري إلى تصوير الافتتاح بسبب التزامي مع إدارة المهرجان. بالطبع كنت أفضل الشارع وحركة الناس على أيّ شيء آخر.

بدأت الاحتجاجات تتسع أكثر فأكثر، وصلت إلى طرابلس وصيدا ومدن الجنوب وضواحي بيروت. 

بيروت 2019

عند الثامنة مساءً، توجّهت رغمًا عني إلى المهرجان لتصوير الحفلة الموسيقيّة، فيما كان معظم الحاضرين يتابعون ما يجري في الخارج من تحرّكات تشهدها البلاد بأكملها. كنتُ ألتقط الصور، في الوقت الذي كنت أتابع فيه مع أصدقائي المصوّرين ما يجري على مواقع التواصل الاجتماعي.

بقيتُ في مكان الحفل لأكثر من ثلاث ساعات. وعندما انطلقت الموسيقى، بدأ بعض الحاضرين بالرقص، فيما كنتُ أنا في مكان آخر. رحتُ أتساءل عن تناقض المشهد بين الداخل والخارج، فكّرت للحظات في ترك الحفل والالتحاق بالناس في الشارع، لكن التزامي بالعمل منعني. كان شعوري خليطًا بين التوتّر والترقّب والسعادة. لم أستطع منع نفسي من التفكير خلال تصوير الشبّان الراقصين عمّا إذا كانوا مثلي يفكّرون في الخارج أيضًا؟ هل سيبقون حتى نهاية الحفلة؟ أم أنّهم سيتركونها ويتجهون إلى الشارع؟ ربّما غادر بعضهم والتحقوا بحفلة الشارع. أخيرًا، ارتفع صوت الموسيقى، وجاء دور الـDj، التي بدأتُ أصوّرها على إيقاع الموسيقى الذي كان ملائمًا لإيقاعي السريع والمتوتّر.

بيروت 2019

وما إن أنهيتُ عملي، حتى توجّهت إلى حيث شعرت أنّني أنتمي، بالقرب من أبناء المدينة.

نورٌ ونار

كمعظم المصورين الصحافيين في بيروت، لديّ درّاجة ناريّة تسهّل عليّ التنقّل بين مناطق المدينة، وتمكّنني من تجاوز زحمة السير. أغلب المصورين الصحافيين في بيروت يملكون دراجات ناريّة، إنّها وسيلتهم الأسرع للوصول إلى الحدث، كما أنّها الأوفر مع اشتداد أزمة المحروقات. الدراجة هي جزء مهم من عملي، وامتداد للكاميرا التي أحملها، تأخذني إلى حيث أشاء، أركنها في المدينة وفي زواياها بسهولة، على عكس السيارة.

أخذتُ دارجتي الناريّة في تلك الليلة نحو ساحة الشهداء في بيروت. وصلتُ إلى الساحة سريعًا، فبدا تمثال الشهداء وحيدًا، ركنتُ الدراجة وركضت مسرعًا نحو المحتجين. أذكر الصورة الأولى التي التقطتها لمجموعة من المحتجّين والمحتجّات بالقرب من جامع الأمين وسط بيروت، حيث كانت غالبيّة الطرق مقطّعة بالإطارات المشتعلة وبكلّ ما تيسّر من مواد أخرى مثل الحواجز الحديديّة. التحقت بالناس حين كانت الساعة تقارب منتصف الليل. لا يمكن أن أصف شعوري في تلك الليلة بينما كنت ألتقط صورًا للانتفاضة الشعبيّة التي كانت تكبر أمام عينيّ، بعد سنوات من تراكم الأزمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة في البلاد.

بيروت 2019

انتهت الحرب الأهليّة في لبنان نهاية الثمانينيات. غير أنّ الفترة التي تلتها لم تكن إلّا سلامًا هشًّا، فقد تسلّم رؤساء وقادة الميليشيات الذين قادوا الحرب، السلطة حتى يومنا هذا.

التقيت صديقي المصوّر حسن شعبان بجانب جامع الأمين بالقرب من ساحة الشهداء (مكان تجمع المنتفضين)، وتحدّثنا عمّا يجري من حولنا، واتفقنا على أنّ الأمر أشبه بالحلم، لم نكن نصدّق المشاهد التي كنّا نراها ونصوّرها. أذكر جيدًا أنّني لم أنم في ليلة السابع عشر من تشرين الأول، بقيتُ حتى الساعة السابعة صباحًا ألتقطُ الصور، وأتنقّل من شارع إلى شارع. 

بيروت 2019

عند الرابعة صباحًا صعدت إلى مكتب الصحيفة حيث يعمل صديقي. أرسلتُ بعض الصور إلى الصحيفة. نشرتُ بعض الصور على وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت غارقة بصور الهواة والفوتوغرافيين/ات عن الحدث. دقائق قليلة وعدتُ إلى الشارع حيث بقيت حتى الساعة السادسة والنصف مساءًا، وفي السابعة عدتُ إلى البيت كي أنام قليلًا.

عودة إلى الشارع

بعد بضع ساعات من النوم، ذهبتُ إلى المكتب كي أنسخ الصور على الكمبيوتر، وأقترح بعضها على صفحات الصحيفة. لم أحتمل البقاء طويلًا في المكتب. أنهيتُ عملي بسرعة، وبدأتُ بجولة تصويريّة في بيروت.

لطالما كان المكتب هو المكان الذي أشعر فيه بالضيق. نظام الدوام الطويل يحدّ من نظرة المصوّر. ما النفع في أن يبقى المصوّر محاطًا بالجدران؟ هذا ما تفرضه بعض الصحف في العالم العربي، بتخلّفها عن مواكبة تطوّر التصوير الفوتوغرافي في العالم، خصوصًا أنّها لا تولي اهتمامًا بأقسام التصوير مثل الاهتمام الذي تمنحه لأقسام الصحيفة الأخرى.

بيروت 2020

الانتفاضة اللبنانيّة أعادتني إلى الشارع، وذكّرتني مجدّدًا بأنّه مكاني المفضّل، فمع كلّ صورة التقطتُها في الشارع، وفي كلّ جولة من جولاتي الميدانيّة، كنتُ أعيد اكتشاف بيروت ولبنان بطريقة مختلفة. العمل الصحافي، وتحديدًا التصوير الصحافي لقضايا الناس، يقع في قلب المدينة وشوارعها بعنفها وهدوئها، حيث تتحوّل الكاميرا إلى عين أخرى لرؤية الشارع بطرق لا تحصى، على الأقل بالنسبة إليّ.

امتدّت الانتفاضة لأشهر طويلة: تظاهرات يوميّة، آلاف الوجوه، هتافات، مواجهات... كنت شاهدا على كلّ ذلك وأمضيت ساعات وأيامًا وأشهرًا في الشارع.

التياترو الكبير 

لم أكن أعرف التياترو الكبير إلّا من خلال الأحاديث والذكريات الشفهيّة التي وصلتنا من الجيل السابق. المسرح الذي يقع في مدخل ساحة رياض الصلح، كان مهجورًا ومقفلًا منذ انتهاء الحرب الأهليّة بداية التسعينيات.

الحنين إلى حلب

16 تشرين الثاني 2021
"فجأة تحولت حلب إلى برشلونة وأصبحت برشلونة حلب، وأصبح كلّ ما يتعلق بالانتماء ملتبسًا"، هذا ما يقوله الفنان البصري غياث طه في هذا النص الذي يحاول التطرق إلى مفاهيم الانتماء...

لقد حرّرت الانتفاضة وسط المدينة الذي تحتلّه الاستثمارات الخاصّة، وحرّرت أيضًا التياترو الكبير الذي فتح أبوابه للمرّة الأولى منذ زمن طويل أمام العامّة. دخلتُ إلى هذا المكان، واكتشفتُ المسرح مثل المنتفضين/ات والمتظاهرين/ات الذين اجتاحوا المبنى واقتلعوا السور الخشبي الذي كان يسدّ المدخل. التقطتُ صورًا كثيرة له من جميع الاتجاهات، من داخل المبنى وخارجه وفي محيطه. رأيتُ المدينة والشوارع من شرفاته، حيث بدت الأعلام اللبنانيّة متصدّرة المشهد بعيدًا عن الشعارات الطائفيّة وانقساماتها.

بيروت 2019

في جولاتي المتكرّرة بين ساحتي الشهداء ورياض الصلح، كنتُ أصطدم بالمبنى الذي أعادت القوى الأمنيّة إغلاقه مرّات عديدة لمنع الناس من الوصول إليه. 

مرةً كنتُ أصوّر حشود المتظاهرين/ات من الطابق الرابع في المبنى، لم أمنع نفسي من تخيّل هذا المسرح في ثلاثينيات القرن المنصرم. ماذا لو لم تأتِ الحرب الأهليّة؟ هل كان ليصمد بعد إعادة إعمار المدينة؟

في بيروت لم يعد هناك إلّا القليل من المسارح وصالات السينما والمساحات الخضراء. بيروت مدينة بحريّة، لكن بشواطئ ملوّثة ومُستلبة من قبل الاستثمارات الخاصّة.

الصورة الأولى بلا كاميرا

نشأ وعيي البصريّ من صور الحرب الأهليّة حين كنت طفلًا. في الثمانينيات، كنّا نسكن في الطابق الخامس في مبنى مجاور لحديقة الصنايع. يومها اشتدّ القصف بين شطريّ المدينة، غربها وشرقها، فما كان من أبي إلّا أن اتخذ قرار الاختباء في المبنى المقابل بهدف حمايتنا. مكثنا ليلة أو اثنتين عند جيراننا. اشتدّ القصف بالقرب منّا، فهرعنا إلى الشرفة ليطالعنا مشهد المبنى المحترق. 

بيروت 2020

أعتقدُ أنّ رؤيتي لذلك المبنى في ذلك النهار من العام 1987 كانت بمثابة الصورة الأولى التي التقطتها بعيني، ومن دون أيّة كاميرا؛ صورة مبنى يحترق وتتدافع منه ألسنة اللهب بعد إصابته ببعض القذائف. أذكر المشهد جيّدًا، إذ لا يزال ماثلًا في رأسي كما لو أنّه صورة أخرى. 

بعد أسبوع، رأيتُ بالصدفة صورة المبنى المحترق نفسه في إحدى المجلات، بعدما التقطتها عدسة أحد المصوّرين. أحاول أحيانًا أن أتذكر اسم المجلة وأن أبحث عن المصوّر. هل أعرفه؟ هل مازال حيًّا؟ هل أصبحتُ زميلًا له؟ في الحقيقة لم أبحث في الأرشيف عن هذه المجلة وفضّلت الاحتفاظ بالصورة في ذاكرتي. لكن، قد أبحثُ عنها ذات يوم، ولو أنّني أعرف بأنّها ستكون رحلة شاقّة وطويلة في بلاد لا تكترث بأرشيفها وذاكرتها.

بعد سنوات من تلك الحادثة، صرتُ مصوّرًا، وتحوّلت الكاميرا إلى وسيلة للتوثيق ونقل الأحداث، كذلك استعنت بها كطريقة للتأثّر والتفاعل مع ما أراه، مثلما حدث معي خلال الانتفاضة التي أمضيتُ معظمها في بيروت، من دون أن يتاح لي التصوير في كلّ المناطق اللبنانيّة. كان الوقت يمرّ سريعًا أمام زخم الأحداث في الشارع، علمًا أنّ شريان الانتفاضة الأساسي، كان في الأطراف، في المدن الأساسيّة في طرابلس والبقاع والجنوب.

بيروت 2020

مرّت أشهر منذ ذلك الوقت، كأنّها سنوات، خصوصًا بعد جائحة كورونا التي كانت بوّابة صامتة إلى الانهيار الاقتصادي. كنتُ ألتقط صورًا للناس في المدينة، وبعد الجائحة صرتُ ألتقط صورَ مدينةٍ خاليةٍ من الناس. 

تظلّ الحرب الأهليّة مرجعًا بصريًا ثابتًا، لا إراديًا غالبًا. خلوّ الشوارع وصمتها أعادَ إليّ مشاهد الفراغ الذي كان يسيطر على المدينة عندما يتوقّف الاقتتال والقصف خلال الحرب. صمت يعمّ المكان لدقائق، فتستحيل المدينة غريبة كما لو أنّها مدينة أخرى في بلدٍ آخر. ثمّ جاء تفجير الرابع من آب (انفجار مرفأ بيروت).

رغم مرور كلّ ذلك الوقت، ما زلت أصوّر يوميّات المدينة وناسها باستمرار. يوميّات أمست أكثر ثُقلًا مع الانهيار الاقتصادي، ومع سلطة الأحزاب والميليشيات التي تدّعي المقاومة.

أن تكون جزائريا... تشريح فوتوغرافي

22 تشرين الثاني 2021
"يصح تصنيف العيش في الجزائر اليوم في إطار الرياضات العالية المستوى. نقضي أيامنا في النضال من أجل الحياة حتى أصبحت العبارة "سمحولنا كي رانا عايشين" تحمل في طيّاتها معاني اللامعبّر...

معرض عن الانتفاضة داخل الانتفاضة

بمبادرة من أحد المصوّرين، دُعيت مع مصوّرين ومصوّرات آخرين للمشاركة في معرض عن الانتفاضة، بالتزامن مع ما كان يشهده الشارع من حراك. أمّا عرض الصور في مكان عام، فكان بالنسبة إليّ أمراً بالغ الأهميّة، لطالما افتقرنا إلى مبادرات عامّة كهذه في المدينة. علّقنا الصور في وسط بيروت، في الشارع بين المتظاهرين. أذكر أيضًا أنّ مدينة صيدا احتضنت معرضًا عن الانتفاضة، وقد قوبل باعتراض عناصر الجيش اللبناني، بسبب عرض بعض الصور التي وثّقت القمع الذي مارسه الجيش على المتظاهرين. هذه الصور، لا تزال قادرة على إخافة الأنظمة وتهديدها أكثر من أيّ سلاح.

بيروت 2020

صورنا التي عُلّقت على جدران سينما سيتي في بيروت، لم تصمد طويلًا أيضًا. نُزعت بعض الصور وأُحرق البعض الآخر من قبل عناصر الأحزاب الذين اعتدوا على المتظاهرين وأحرقوا خيمهم. في إحدى المرّات نزعوا بعض الصور، لكنني عدتُ وعلّقتها مجدّدًا. طبعًا كان من الأسهل بالنسبة إليّ أن آخذها لكنّني فضّلت أن أبقيها شاهدة على ما يحدث في الشارع.

انتُزعت الصورة مرّة أخرى، ولم يظهر لها أيّ أثر بعد ذلك. أين هي الآن؟ هل احترقت في أحد زواريب المدينة؟ هل استعملها أحدهم كغطاء يقي من الشتاء كونها مصنّعة من مادة النايلون؟ أو ربّما أخذها أحدهم واحتفظ بها. بكلّ الحالات، أعتقد أنّها عادت إلى المدينة، حيث تنتمي، بطريقة أو بأخرى.

القمع… القمع

بالعودة إلى القمع، ورغم أنّني لا أسعى إلى المقارنة مع الديكتاتوريات العربيّة، لكنّني لاحظت خلال شهور الانتفاضة زيادةً في حجم القمع ضدّ الناس والمنتفضين/ات بالدرجة الأولى، كما لم يتمّ استثناء الصحافيين/ات والمصوّرين/ات الذين كانوا يقومون بتغطية الاحتجاجات. لقد شهدنا ذلك منذ أولى أيام الانتفاضة.

خلال تصويري لاحتجاجات العام 2015، التي قامت على إثر أزمة النفايات، والتي لم تجد السلطة لها حلًا بيئيًا حتى الآن، وأثناء قمع القوى الأمنيّة للمتظاهرين، تعرّضتُ لصفعة على رأسي من أحد رجال الأمن، كغيري من المصوّرين/ات الآخرين. دائمًا وبعد كلّ جولة عنف كنت أتساءل عمّا يجري في رأس رجال الأمن خلال القمع، خصوصًا أنّ ظروفهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة لا تقلّ صعوبة عن ظروف معظم اللبنانيين. لماذا يعتدون بالضرب؟ بماذا يشعر أو يفكّر رجل الأمن لدى قمعه للناس، أو عندما يذهب إلى بيته وعائلته بعد نهار طويل؟ عمّاذا يحدثهم؟ هل حوّله النظام إلى مجرد آلة قمع؟

بيروت 2019

في تشرين الأوّل سنة 2019، ارتفعت وتيرة العنف ضدّ الصحافيين/ات وتحديدًا المصوّرين/ات الذين كانوا على تماس مباشر مع القوى الأمنيّة. انطلاقًا من تجربتي في التصوير الفوتوغرافي، وبعد أكثر من حوالي عشرين عامًا في تغطية نزاعات وحروب وتظاهرات، أعتقد أنّ أصعب ما يواجهه المصوّر/ة الصحافيّ/ة في لبنان هو العمل الميداني أثناء الاحتجاجات، حيث تكوّن حركة المصوّر/ة وحركة الكاميرا، ومحدوديّتهما بسبب عنف القوى الأمنيّة، ضغوطات لن يعلم بها من ينظر إلى الصورة. صحيح أنّ المشاهد يتفاعل مع الصورة، لكن بالنسبة لي كمصوّر فإنّ الكاميرا هي الفاصل بيني وبين المشهد. مع هذا فإنّ الكاميرا لا تستطيع بأيّ شكل من الأشكال أن تمنعك من التأثر. المصوّر ليس مجرّد آلة تُظهّر الصور. ربّما اعتدت على احتمال أكثر المشاهد عنفًا ودمويّة خلال تصوير الأحداث، لكن كلّ تلك المشاعر والتأثّر كانت تنصهر في الصورة النهائيّة. 

يمرّ الوقت سريعًا، ومعه تتوالى الأحداث في لبنان حيث أعيش. هاجر الكثير من الأصدقاء، فيما ينتظر البعض الآخر دوره للمغادرة بعدما أصبح الوضع في لبنان أكثر ثقلًا بالنسبة إلى الجميع، بلا أيّ استثناء. الأزمة الاقتصاديّة تطحن ما تبقى من هذا البلد. رغم ذلك، أحاول أن ألتقط نبض الشارع والمدينة بجميع تناقضاتها، وأوثّق بالصور، وأسلّط الضوء على أوجه الأزمات في لبنان، وأحاول الكتابة بالصورة الفوتوغرافيّة عن تاريخ هذا البلد في وضعه الحالي، إلى أن يأتي اليوم الذي نتخلّص فيه من سطوة ميليشيات الحرب. 

مقالات متعلقة

البحث عن أجمل صورة في العالم (8)

22 كانون الثاني 2021
بين صيف ٢٠٠٦ في حمص وباريس ٢٠١٤، تتداعى ذكريات وحيّوات المصوّر السوري، مظفر سلمان، بين أزمنة البدايات والعمل في ظروف صعبة بحثا عن "أجمل صورة في العالم" يحلم أي مصوّر...
لماذا تصوّر؟!

19 شباط 2021
"كمصوّر سوري بدأ مهنة التصوير خلال أحداث الثورة السورية، وفي عام 2014 سألت نفسي هذا السؤال كثيراً: لماذا فعلاً نصوّر هذه الأحداث في سورية؟ هل هو إيماناً منّا حقا أننا...
كيف تشرح لطفل لماذا هو جائع؟ (7)

08 كانون الثاني 2021
"بهذه الصورة كنت أنقل الحقيقة، حقيقة بأننا ككل البشر، نستحق الحياة والحرية والكرامة، ساعيا لأن يكون صوت الناس فوق كل التحليلات التي تتحدث عن معارك وتقدم عسكري أو سياسي، وبأن...
الصورة والمصوّر: ربّما حان الوقت لنمتلك ذواتنا (4)

17 تشرين الأول 2020
رغم فداحة ما جرى ويجري، من زاوية توثيقيّة تأريخيّة، فإن السؤال الأكبر في قضيّة رواية القصّة السوريّة وتمثيل من يعيشونها بها هو: "من الراوي؟" من يتخذ منبراً ويسرد قصّة المجموعة؟...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد